رائد الصالح، مدير الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء)، في حوار طويل حول العديد من القضايا الراهنة التي تمسّ المدنيين ومآسيهم وأحوالهم، وبخاصة في الشمال السوري، وفيما يلي نص الحوار:

كيف تصفون الأوضاع الإنسانية حاليًا في إدلب؟

لا توجد كلمات قادرة على وصف حال مدينة إدلب وسكانها في الوقت الحالي أبدًا؛ كارثية ومأسوية هي أقل ما يمكن أن توصف به الحال في الشمال السوري اليوم، لم تهدأ آلة القتل منذ نيسان/ أبريل 2019 بحقهم، قصف وحشي بأنواع شتى من الأسلحة، بهدف تهجير المدنيين وإخراجهم إلى الشمال، ثم اجتياح تلك المدن واحتلالها، ثم نقل المعركة إلى منطقة جديدة، من دون اكتراث لأرواح ملايين المدنيين الأبرياء.

وعلى الرغم من إعلان روسيا لقرار وقف إطلاق النار في المنطقة، بالاتفاق مع تركيا بتاريخ 12/ 01/ 2020، لم تتوقف قوات النظام عن قصف المناطق الجنوبية لإدلب بالقذائف المدفعية والصاروخية، لحظة واحدة، وقامت روسيا بعد إعلان القرار بثلاث أيام فقط بخرق اتفاق وقف إطلاق النار، من دون أي تعليق أو تحذير، وبدأت غاراتها مع طائرات النظام السوري، على مناطق في إدلب، وكانت أولاها على محافظة إدلب بتاريخ 15/ 01/ 2020، حيث ارتكبت طائرات النظام مجزرة مروعة هناك، راح ضحيتها أكثر من 21 شخصًا بينهم أطفال ومتطوع في الدفاع المدني، وقامت في اليوم التالي بنقل القصف إلى منطقة جديدة، كانت تُعدّ ملاذًا آمنًا للمدنيين والأهالي الهاربين من الموت من ريف إدلب وحماة، وبدأت الطائرات باستهداف ريف حلب الجنوبي والغربي، وقامت بارتكاب المجازر في المنطقة وتهجير المدنيين، وقد وثّقت فرقنا، منذ كسر قرار وقف إطلاق النار حتى يوم السبت 25 كانون الثاني/ يناير، مقتل 94 شخصًا، بينهم 32 طفلًا ومتطوع من صفوفنا في الدفاع المدني السوري، كما تمكنت فرقنا الميدانية، على الرغم من استهدافها بالغارات المزدوجة عدة مرات، من إنقاذ 178 شخصًا بينهم 66 طفلًا من تحت أنقاض الموت، وهناك أكثر من 98 ألف شخص أجبروا على ترك منازلهم والهرب إلى مناطق أخرى.

في حين يستمر القصف وارتكاب المجازر بحق المدنيين في جنوب وشرق إدلب، إضافة إلى غرب وجنوب حلب، تزداد معاناة مئات آلاف المدنيين في المخيمات والبلدات الحدودية التي اكتظت بالأهالي، في ظل الطقس القاسي، وتساقط الأمطار الغزيرة في المنطقة، التي تتسبب بفيضانات في مخيمات النازحين، ومعظم هؤلاء الأهالي لم يتمكنوا من إخراج أي شيء من حاجاتهم وممتلكاتهم الشخصية، وهم يعانون بجانب أهالي تلك المناطق سوء المعيشة وغلاء الأسعار وعدم القدرة على تأمين طعام لهم ولأسرهم، خاصة مع شح المساعدات المقدمة من منظمات المجتمع الدولي، وإلى جانب ذلك يعيش الأهالي في نقص حاد، يصل في معظم الأحيان إلى الانعدام التام للخدمات الطبية والتعليم وكثير من مقومات الحياة الأساسية الأخرى، بعد أن تسببت حرب روسيا والنظام على الشعب السوري في تدميرها وإخراجها عن الخدمة.

ما هي الخدمات التي تقدمونها في حلب بعد الهجمات العسكرية الأخيرة؟

مع بدء قوات النظام مدعومة بالطيران الروسي هجماتها على ريف حلب الغربي والجنوبي، عملت فرقنا على رفع الجاهزية والاستنفار الكامل، بتقديم الخدمات الممكنة لحماية الأهالي وإنقاذهم، حيث تتم الاستجابة لأي حادثة قصف بتقديم عمليات البحث والإنقاذ، إضافة إلى جاهزية فرق الإطفاء للتدخل وإخماد الحرائق بعد القصف بحال نشوبها، فرق إزالة مخلفات القصف دائمًا تكون حاضرة للقيام بعمليات المسح وإزالة وتدمير بقايا الأجسام والقنابل غير المنفجرة لإبعاد الخطر عن الأهالي، أما بالنسبة إلى عمليات الإجلاء؛ فكانت فرقنا حاضرة وعملت على خطة لإجلاء الأهالي من الأماكن الخطرة، إضافة إلى التواجد على الطرق الرئيسية لتوجيه الأهالي ومساعدتهم في حال وقوع أي حادث، خاصة مع عمل الطائرات الروسية وطائرات النظام على استهداف آليات النازحين بشكل مباشر على تلك الطرقات. أما بالنسبة إلى المراكز النسائية، فبالتأكيد كانوا حاضرين أيضًا، ويعملون على تقديم المساعدة بكل طاقتهم من خلال المشاركة في عمليات إجلاء الأهالي، والتواجد في المراكز النسائية المنتشرة في المنطقة، بهدف تقديم الإسعافات الأولية للمصابين والمحتاجين، والاستجابة لأي نداء استغاثة آخر في المنطقة.

انتشلت فرق الدفاع المدني 46 شخصًا، بينهم 23 طفلًا و8 نساء، خلال 10 الأيام الأخيرة، كما تمكنت الفرق من إنقاذ 68 شخصًا، بينهم 31 طفلًا و12 امرأة، من تحت الأنقاض في تلك المنطقة، إضافة إلى إسعاف مئات المدنيين إلى النقاط الطبية، والمساعدة بإجلاء الأهالي من الأماكن الخطرة إلى أماكن أكثر أمنًا.

هل أعداد المتطوعين كافية؟ وهل هم مؤهلون بالشكل الكافي للقيام بالمهام الموكلة إليهم؟

يبلغ عدد المتطوعين معنا 2900 متطوع، بينهم 222 سيدة متطوعة، وهم موزعون على مناطق فِرقنا في الشمال السوري، في كل من إدلب، حماة، حلب، واللاذقية. وقد خضع معظم المتطوعين -على مدى الأعوام السابقة- للعديد من الدورات المتوسطة والمتقدمة بعمليات البحث والإنقاذ وإخماد الحرائق، إضافة إلى اختصاصات أخرى، وإضافة إلى ذلك، فإن متطوعي الدفاع المدني بذلوا جهدًا كبيرًا في تطوير أنفسهم وابتكار أدوات للتدريب ضمن المتاح والمتوفر. نثق كثيرًا بأعضاء فرقنا وبقدرتهم على تنفيذ المهام الموكلة إليهم، على الرغم من الاستهداف المتكرر لهم بالغارات المزدوجة من قبل النظام وروسيا بهدف قتلهم، وإعلاميًا بهدف ضرب صدقيتنا، لأننا الشهود الأساسيون على جرائمهم المرتكبة بحق الشعب السوري. لكن ما يدعونا إلى الاستمرار هو محبة الشعب السوري، والدعم الكبير من الشعوب حول العالم.

ما هي الاحتياجات الأساسية للنازحين؟ ما هي أعداد النازحين الأخيرة بسبب الهجمات العسكرية في إدلب؟ ما هو الدور الدولي في الأوضاع الحالية؟

الحاجة الأولى والأهم هي إيقاف القصف والموت؛ ومهما تحدثنا عن الاحتياجات الأساسية فلن يمكننا تقييمها وحصرها، فالقصف المنهجي دمّر معظم المراكز الخدمية والمنشآت الحيوية والبنى التحتية التي كانت تدعم استقرار المدنيين والأهالي. في الوقت الحالي، يحتاج الأهالي الذين خرجوا من منازلهم بسبب القصف إلى دعم يومي بمقومات الحياة الأساسية من طعام وخيام وبطانيات والأمور الأخرى. وصل عدد النازحين، خلال 10 الأيام الأخيرة من الحملة العسكرية على غرب حلب وجنوب إدلب، إلى 98 ألف مدني، يضافون إلى أكثر من 379 ألف شخص خلال الشهرين الأخيرين من الحملة العسكرية على شرق معرة النعمان، وعلى ذلك؛ لدينا ما يقارب المليون ونصف شخص تركوا منازلهم خلال العام المنصرم والشهر الأول من هذا العام فقط. هناك غياب واضح لمنظمات المجتمع الدولي في إيقاف القصف والمجازر المرتكبة أولًا، والاستجابة للكارثة الإنسانية التي تهدد حياة الملايين ثانيًا، وكل ذلك يحدث على الرغم من التحذيرات والمناشدات التي أطلقها المدنيون والدفاع المدني السوري ومنظمات المجتمع المدني في إدلب، مما دفع روسيا وقوات النظام السوري إلى أن تتابع قصفها وترتكب جرائم الحرب المنهجية بحق الشعب السوري.

ما هي المساعدات التي يستطيع الدفاع المدني تقديمها؟

حماية السكان المدنيين من الأخطار الناجمة عن الأعمال العدوانية أو الكوارث الأخرى، لتسريع التعافي من الآثار المباشرة لهذه الأحداث، وتوفير الظروف الضرورية لبقاء السكان المدنيين، تشمل نشاطاتنا ما يلي: الإنذار والتحذير والتوعية، البحث والإنقاذ، إجلاء السكان المدنيين من مناطق القتال التي فيها انتهاكات، الخدمات الطبية الإسعافية، مكافحة الحرائق، توفير سكن الطوارئ واللوازم وتجهيز ملاجئ الطوارئ، تحديد ووسم الأماكن الخطرة وإزالة الذخائر غير المنفجرة، الإصلاح الطارئ للمرافق العامة التي لا غنى عنها، التعقيم والمساهمة في الحد من انتشار الأوبئة، دفن الموتى في الحالات الطارئة، المساعدة في الحفاظ على المتطلبات الضرورية للبقاء على قيد الحياة، تقديم المساعدة الطارئة في إعادة وحفظ النظام في المناطق المنكوبة، إدارة تدابير المواجهة في حالات انقطاع الخدمات، التوعية، مراكز للنساء، الأنشطة التكميلية اللازمة لتنفيذ أي من المهام المذكورة أعلاه، إضافة إلى أعمال خدمية أخرى كثيرة تساهم في دعم استقرار المدنيين، مثل الاستجابة الطارئة للمخيمات، والمساهمة في بناء البنية التحتية للمخيمات والمنشآت الحيوية التي تتعرض للتدمير بفعل القصف الجوي.

ما هي المناطق التي تغطيها خدمات الدفاع؟

كل المناطق التي نستطيع الوصول إليها والعمل فيها، ونحاول أن نكون هناك لتخفيف معاناة المدنيين وتقديم المساعدة لهم. فرقنا الآن في مناطق شمال غرب سورية في إدلب، حلب، حماة، واللاذقية، وقد تقلّص الحيز الجغرافي الذي نعمل في نطاقه، وكنا نعمل على تقديم الخدمات في 9 محافظات سورية في الأعوام السابقة، ولكن مع بدء النظام وروسيا بعمليات التغير الديموغرافي وتهجير سكان المناطق، اقتصر عملنا على الشمال السوري.

ما هي التحديات الأساسية التي تواجهكم؟

الاستهداف المباشر والغارات المزدوجة من قبل الطيران الروسي وطيران النظام أثناء عمليات البحث والإنقاذ، غياب المجتمع الدولي بشكل كامل وعدم الاكتراث بجرائم الحرب المرتكبة، والكثير الكثير من التحديات الأخرى تواجه فرقنا، وبالنسبة إلى الغارات المزدوجة تعمد روسيا وقوات النظام إلى استهداف فرقنا والمدنيين بغارة ثانية في مكان الغارة الأولى ذاته، بهدف قتل المسعفين وأكبر قدر من المدنيين، مما يتسبب بوقوع ضحايا في معظم الأحيان، واحتراق وتدمير سيارات الإسعاف والإنقاذ، وقد فقدنا حتى اللحظة 280 متطوعًا من صفوفنا وأصيب أكثر من 800 متطوع آخر، كان معظمهم بسبب الاستهداف المباشر والغارات المزدوجة، وإضافة إلى الاستهداف بهدف القتل، تواصل روسيا والنظام السوري استهدافنا إعلاميًا عن طريق “بروباغندا” إعلامية كاذبة، بهدف ضرب صدقيتنا لأننا الشهود على جرائمهم.

كيف يتم الانضمام إلى الدفاع المدني؟

تُعلن الشواغر الوظيفية، عن طريق المعرفات الرسمية للدفاع المدني السوري في الداخل، ثم تُقدّم طلبات الانضمام، على أن يتمتع المتقدم بشروط معينة، وأن تتوفر فيه الشروط التالية: أن يكون من المتمتعين بالجنسية السورية ومن في حكمهم، أن يجيد القراءة والكتابة، أن يكون قد أتم الثامنة عشرة من عمره حين تقديم طلب الانتساب، ألا ينتسب إلى أي جهة عسكرية، أن يكون حسن السيرة والسلوك، أن يكون كامل الأهلية، أن يعمل على خدمة أهداف الدفاع المدني والمساهمة في تنفيذ أعماله ونشاطاته، أن يقبل أحكام النظام الداخلي ويوقع على مدونة السلوك، التي تم الاتفاق عليها في اجتماع (الخوذ البيضاء) التأسيسي. تضمن هذه المدونة تنفيذ جميع الأعمال وفقًا لأعلى معايير الاستقلالية والفعالية والتأثير، وهي تلزم المتطوعين بواجبات توفير الاستجابة للكوارث والحرب في سورية والقيام بعمليات البحث والإنقاذ وإنقاذ أكبر عدد ممكن من الأرواح.

ما هي أكثر المشاهد التي آلمتك خلال مسيرة عملك كمدير للدفاع المدني؟

طبعًا، خلال حرب السنوات التسع الماضية، التي ارتكبت روسيا والنظام السوري فيها أبشع الجرائم؛ كانت هناك آلاف المشاهد والمواقف المؤلمة التي استقرت في ذاكرتنا، كل المشاهد مؤلمة وقاسية بالنسبة إليّ، ولعل من أصعبها ما حضرته وشاهدته، منذ أسابيع عدة، كانت الأيام الأخيرة من عام 2019، دخلت إلى سورية، وكنت برفقة الفرق الميدانية في مدينة معرة النعمان التي تعمل على إجلاء الأهالي من المدينة إلى الشمال السوري، تحت حمم من الصواريخ والقذائف التي لا تتوقف، الجميع متعب، ولكنهم يُخفون ذلك القهر في قلوبهم لكيلا يخيفوا الأهالي أكثر، قضت الفرق أيامًا طويلة في إجلاء العوائل من المدينة، ومن بين أفراد تلك الفرق كان ذلك الشاب المتطوع، مهند الشعار، وقد أعلمنا أنه لم يلتق أهله، من أكثر من أسبوعين، بسبب انشغاله بعمليات الإجلاء، وفي اليوم الذي استُشهد فيه كان قد طلب إجازة، واستعدّ لأن يذهب إلى أهله، وكانت عملية الإجلاء على وشك الانتهاء، والفريق كله مشغول بإجلاء عائلة تحاول أن تأخذ بعض حاجاتها، قبل أن تدخل مروحية تابعة لقوات النظام وتستهدف الفريق والمنزل والعائلة جميعًا. دُفن مهند مع العائلة تحت الأنقاض، وتمكّن الفريق من إخراج الأب والأم على قيد الحياة، وذهب طفلهم الصغير محمد ورفيقنا مهند ضحايا تحت الأنقاض، وظلت الفرق تحاول أكثر من ساعتين أن تنتشلهم من دون أن تستطيع بسبب الاستهداف المتكرر لهم من قبل الطائرات. وأخيرًا انتشلنا مهند والطفل محمد من تحت الأنقاض، وبهذا المشهد انتهى العام 2019. بالتأكيد كل مشاهد الموت والدمار مؤلمة، وكل شخص نخسره في بلدنا الحبيب سورية له قصة مؤثرة، وبالنسبة إلينا في الدفاع المدني السوري أصبحنا عائلة كبيرة، وقلوبنا تحترق ألمًا على كل من نفقده.