يحاور مركز حرمون للدراسات المعاصرة هذا الأسبوع، الإعلامية والصحافية السورية المعارضة ديما عز الدين.
ضيفتنا، ابنة الجولان السوري المحتل، نشأت وترعرعت في دمشق، درست مراحل تعليمها الأساسية حتى نيل شهادة الثانوية في مدارس العاصمة السورية، لتلتحق بجامعة دمشق لدراسة إدارة الأعمال. وبدأت مشوارها المهني مع إطلاق قناة (شام) المحلية عام 2005، وفي العام التالي، انتقلت إلى العمل مذيعة في قناة (روسيا اليوم)، لتنتقل بعدها إلى صحيفة (الوطن) السورية الخاصة، ومنها انتقلت للعمل في قناة (إن بي آن) في لبنان، وكان أول ظهور إعلامي لها على تلك الشاشة، ومن ثم عملت في قناة (بي بي سي) عربي، لتستقيل منها بعد ثماني سنوات، وتزامن إعلان الاستقالة في يوم ارتكبت فيه (بي بي سي) خطأً تحريريًا في الخبر السوري، تقول عز الدين: “في ذلك اليوم ولظرف جغرافي لم أكن أتابع الأخبار، ولكنه كان اليوم الذي اتخذت فيه قراري النهائي بعدم العودة إلى (بي بي سي) وليس بسبب الخطأ الذي ارتكب يومها”.
هنا نص حوارنا معها، وتكشف فيه كثيرًا من أسرار عملها على مدار مواسم العطاء المتجددة..
في مستهل حوارنا، ماذا تقول الإعلامية ديما عز الدين لقرّاء مركز حرمون للدراسات المعاصرة عن ذاتها، وما هي دوافعها لاختيار العمل الإعلامي في مسيرة حياتها؟
أنا بنت الجولان ربيبة دمشق، انتمائي إلى دمشق وإحساسي بها كان وما زال حاضرًا منذ المنشأ، الجولان انتميت له على وعي وبعد سنوات طوال.
كان مربكًا بالنسبة إلي الانتماء إلى مكان لم يكن حاضرًا في تفاصيل يومي، ولا ذكرى لي عنه، ولم أنتبه إلا بعد حين كيف أننا السوريون كنا نعرف عن فلسطين أكثر ما نعرف عن الجولان، تنبه جاء في سنوات الرشد وبدأ الأسئلة وإشارات التعجب التي كانت تختم الفكرة التي مفادها تركيز النظام السوري على القضية الفلسطينية وغياب الجولان عن مطالبنا وتركيزنا.
نشأت في عائلة متماسكة محبة، مختلفة التوجهات، ولكننا جميعًا التقينا على المبادئ القيمية كما زرعها والداي جينيًا وتربيةً فينا.
قبل أن أخبرك عن أسبابي لاختيار مهنة الإعلام، أود الحديث عن مساري الدراسي لأنه يعطي فكرة عما تعرض له جيلنا من إجحاف وتضييق أفق.
عندما انتهيت من البكالوريا وحان وقت الاختيار للكلية التي أرغب، لم أكن أعرف ماذا أريد؟ حتى إني لم أكن معنية، فلم أشعر أنّ الأمر يخصني ما دمت لا أملك صورة واضحة.
انتهى الأمر إلى قرار بعد حوار بين والدي وشقيقتي الكبرى، وكلاهما اقترحا الصحافة بدايةً، ولكن تراجعا في ما بعد فقد كان الزمن في بداية التسعينات حيث لا آفاق حقيقية لصحافة حرة في سورية آنذاك، انتهى الأمر إلى دراسة إدارة الأعمال في دمشق وتسجيل أدب إنكليزي في لبنان إرضاء لوالدي رحمه الله.
وفي ما بعد عملت في السفارة البريطانية، ومن ثم في شركة سويدية، وبعد سنوات وفي زمن كان مسروقًا من زمن جامد، حين أعيد افتتاح المنتديات وتحريك الأقلام قليلًا، بدأت الكتابة هاوية في موقع (سيريا نيوز)، ومن ثم أوصلتني الدروب إلى قناة (شام) المحلية، حيث كان يفترض أن تكون أول قناة خاصة سورية، حينها عرفت ماذا أريد، وعقدت العزم على المضي في درب الصحافة والإعلام.
استفدت من قناة شام من التدريب الذي قمنا به لأشهر طويلة، ولكن الربيع في دمشق كان قد انتهى، فعاد النظام إلى التضييق كديدنه الذي نعرف، وأغلقت القناة لأول مرة.
غادرت إلى موسكو بعد تلقي عرض من قناة (روسيا اليوم)، ولأترك في ما بعد فور علمي أنّ النظام سمح لقناة (شام) بالبث فعدت إلى دمشق، لأن دمشق كانت وما زالت المبتغى المستحيل، وما إن وصلت حتى أعيد إغلاق قناة (شام) بالختم الأحمر أيضًا، وثبت أنّ التفاؤل تفاؤلًا كاذبًا.
توجهت إلى الصحافة المكتوبة وعملت لأشهر معدودة مع صحيفة (الوطن) الخاصة، إلى أن تلقيت عرضًا من قناة (إن بي آن) في لبنان فذهبت إلى بيروت وعلى تلك الشاشة كان أول ظهور لي، لم يدم طويلًا حيث تلقيت عرضًا من (بي بي سي) وغادرت ليبدأ مشواري المهني الحقيقي.
صوت المظلومين والضعفاء
ما هي طبيعة العمل الذي تقومين به الآن تجاه بلدك، ضحية الاستبداد السياسي المتحالف مع الاستبداد الديني الذي مزقته الحروب، وكذلك تجاه ثورة شعبك التي دخلت عامها الحادي عشر؟
الجواب المباشر والقاسي إنما الصادق والواقعي هو أني حاليًا لا أفعل شيئًا لثورة بلادي ما عدا الحرص الشديد على أن أحصر عملي في مؤسسات ألتقي معها في الموقف تجاه الثورة السورية. ومن خلال عملي حيث تملي علينا أصول المهنة أن نكون صوتًا لأي مظلوم وضعيف، أستطيع أن أقوم بواجب مهني تجاه الثورة السورية وأي ثورة فأنا مقتنعة أنّ الربيع عربي ومع اختلاف القسوة التي نواجهها في بلدان الربيع العربي إلا أننا العرب نواجه الشرور نفسها.
وسؤالك يحرضني لأعبر عن رأي لي أعلم أنه لن يروق لكثيرين، أنا أعتقد أننا لا نستطيع كأفراد أن نفعل الكثير لخدمة ثورتنا، نحن للأسف الشديد بعد عشرية من الثورة فرادى.
إنما القليل الذي يقوم به كل فرد فينا من مكانه ومهنته واختصاصه هو مهم جدًا ويراكم على ما يقوم به الآخرون في سورية، وفي كل بقاع الشتات السوري.
المشكلة في قضيتنا أن لا إطار جامع لنا، ليجمع المجهود الفردي ويراكم عليه، خذلنا (الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية) ومن قبله (المجلس الوطني السوري)، وما زال السوريون غرباء على فكرة العمل الجماعي.
ومع إيماني بحسن النيات للجميع إلا أني أعتقد أنّ اختلال الأدوار واختلاطها، وعدم التخصص في نوع النشاط الداعم للثورة كان وبالًا علينا. فالصحافي بات ناشطًا والناشط بات صحافيًا، وقس على ذلك في معظم التخصصات.
ما موقفك مما حدث ويحدث في بلدك اليوم.. أما يزال بإمكاننا الحديث عن ثورة شعبية فعلًا؟ وكيف تقرئين اليوم مجرياتها وتفاعلاتها؟
موقفي مما حدث ويحدث في سورية كان وما زال قائمًا على الحس الإنساني والأخلاقي، وأحمد الله على الرغم من النكسات والآلام خلال السنوات العشر الماضية أني لم أغير ولم أبدل مع ما يمكن اعتباره هزيمة تعرضنا لها، فالبعد هنا ليس سياسيًا بالنسبة إلي هو أخلاقي ثابت.
لا أعتقد أننا نستطيع الحديث عن ثورة شعبية، بوجود كل القوى الخارجية التي لها تأثير مباشر وغير مباشر على مجريات الأمور في سورية، بمختلف مناطقها المحررة أو التي ما تزال تحت سيطرة النظام، ولكن إن كنا سنتحدث عن الوجدان فدائمًا يمكن الحديث عن ثورة شعبية من أعظم الثورات وأشجعها.
وبالنسبة إلى شق سؤالك المتعلق بقراءة مجريات اليوم وتفاعلاته، أرى أنه من الصعب أن نقرأ ما وراء الأحداث والأخبار، ما دام هناك ما يخرج من دائرة المصلحة المباشرة للشعب السوري ويدخل في إطار العلاقات الدولية والتجاذبات والتفاهمات الدولية التي منها ما يُعلن ومنها ما هو طي الكتمان.
حدثينا عن أبرز تحديات العمل الإعلامي في الشأن السوري في المشهد الإعلامي العربي والدولي من خلال تجربتك الشخصية، وعملك السابق مقدمة أخبار في قناة (بي بي سي) عربي التي استقلتِ منها في نهاية نيسان/ أبريل 2016 بعد عمل استمر نحو ثماني سنوات؟
تتنوع التحديات في التعاطي مع الشأن السوري في المشهد الإعلامي العربي والدولي، منها تحديات مهنية ومنها الشخصية.
المهنية هناك طبعًا المساحة التي تحددها الأجندة التي تدعمها أي مؤسسة إعلامية وهي مساحة تضيق حينًا وتتسع حينًا، أضف إلى ذلك حال المؤسسات الإعلامية التلفزيونية التي تتوجه إلى جمهور عربي وليس جمهور قُطري/ محلي، فإنّ زحمة الأحداث في العالم العربي والعالم بشكل عام قد تُحجم الخبر السوري أو حتى تلغيه تمامًا، وهذا بالمناسبة ليس محصورًا بالشأن السوري، كلنا نذكر كيف كان العراق يحتل العناوين الرئيسية لسنوات بعد الغزو الأميركي له، ومن ثم اختفى مع أنّ ما جرى ويجري مهمً ولا يقل مأساوية. كذلك فلسطين ولبنان قبل الربيع العربي كانا من العناوين الرئيسية بشكل دوري. وطبعًا هناك كما ذكرت الأجندة التي تعتمدها كل وسيلة، ربما نتوسع لاحقًا في هذه الفكرة.
أما بالنسبة إلى عملي في (بي بي سي) عربي، ففي 2010 عندما انطلق الربيع العربي كانت القناة البريطانية من أهم القنوات التي قامت بتغطية الثورات في الأشهر الستة الأولى، ومن ثم عندما تعقد المشهد واحتدت الثورة في سورية، كان التحدي الأكبر بالنسبة إلي بوصفي صحفية وسورية هو التعاطي مع الاختلاف بوجهات النظر حيال الزوايا التي ركزنا عليها، إضافة إلى تراكمات امتدت سنوات إلى أن انتهت العلاقة مع (بي بي سي) بخيار شخصي ومهني.
وهنا سأنتهز الفرصة بالحديث عن استقالتي لأضيف تحديًا آخر يواجهه الإعلامي السوري أو العربي عمومًا، وهو ما يتطلبه الجمهور منه وكيف يود أن يراه، وهنا أود الحديث عن الضجة التي حصلت عند استقالتي التي تصادف أن أعلنتها في يوم ارتكبت فيه (بي بي سي) خطأً تحريريًا في الخبر السوري، في ذلك اليومولظرف جغرافي لم أكن أتابع الأخبار، ولكنه كان اليوم الذي اتخذت فيه قراري النهائي بعدم العودة إلى (بي بي سي) وليس بسبب الخطأ الذي ارتكب يومها.
كتبت حينها توضيحًا ومع ذلك الجمهور لم يأبه، حولني إلى البطلة التي استقالت بسبب الخطأ التحريري، وهذا التحدي الذي هو ما يطلبه الجمهور يحتاج إلى إرادة حازمة منا، كي لا ننجر له بوصفنا صحفيين، وبشرًا قد تدغدغ صورة البطولة انطلاقًا من رواية غير دقيقة، الأنا في دواخلنا.
كان موقفًا مربكًا لأني لم انتفض لخطأ تحريري، ولكني فعلًا غادرت لأني لم أكن مرتاحة تجاه تغطية (بي بي سي) للثورة السورية، والتركيز على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وكأنه المشهد كله في سورية، والأهم من كل هذا أنا لا أعتقد أنّ هذه مهمة الصحافي أن يصبح بطل موقف، إن كان للصحافي بطولة فهي بنقل الخبر والصدقية في نقله.
على مر سنواتي الأخيرة في (بي بي سي) مرت العلاقة داخليًا بمطبات كثيرة تجاه تغطية سورية، ولكن (بي بي سي) –وهذه ميزة عظيمة فيها- كانت توفر لنا كصحافيين وسائل داخلية لنبدي اعتراضنا على خبر ما أو تقرير ما، وبحال استطعنا بالمعلومة إثبات وجهة نظرنا كنا نستطيع تعديل الأخبار أو حتى حذفها عندما نثبت الخلل فيها.
المشكلة في هذا الإطار بالنسبة إلي هي الوقت الطويل الذي يقتضيه، فالخبر المنشود تغييره ممكن أن يبث على الهواء ساعات حتى انتهاء التدقيق فيه، صحيح أنه يحذف في النهاية، ولكن برأيي بعد فوات الأوان، وهذا ما جعلني وبعض الزملاء ممن كانوا يسلكون المسار نفسه نشعر أننا كنا نحارب طواحين الهواء.
مهنيًا، هل ترين أنّ قناة (بي بي سي) عربي متحيّزة فعلًا لنظام بشار الأسد؟ (في حال نعم) ما هي أسباب هذا التحيّز وتضليل المشاهدين من وجهة نظرك؟
كما أسلفت في جوابي السابق، داخليًا كانت (بي بي سي) توفر وسائل التغيير، ولكن برأيي أنّ هذه القناة هي عجوز أكثر منها متحيزة، باغتها الربيع العربي وباغتتها التقنيات الجديدة والإعلام البديل، فلم تستطع أن تخرج بمعادلة تجمع فيها بين قواعدها والزمن الجديد.
أما التحيز فأعتقد أنه فردي، ولكنه فاعل، تجمع (بي بي سي) عربي تجمع بين موظفيها مشارب وتوجهات متعددة من مختلف مناطق الشرق الأوسط، وأنا أعتقد أن وجهات النظر الشخصية للبعض ألبست رداء مهنيًا ووجدت طريقها إلى الشاشة.
العرب في (بي بي سي)هم صورة مصغرة عن عالمنا العربي، وهو ما جعلنا لا نتخذ موقفًا موحدًا تجاه سورية والثورة السورية، وهذا ما حصل في (بي بي سي) فظهر التحيز على الشاشة.
وجيد أنك سألتني هذه السؤال، فهنا مساحة أيضًا للحديث عن الأجندات، (بي بي سي) عربي أو (فرانس 24) أو أي قناة ناطقة بالعربية أوروبية أم أميركية متأثرة بأجندة بلد المنشأ، ونظرته المستشرقة في كثير من الأحيان.
لاحظ التغيير الذي حصل في مجمل التغطيات ما إن ظهر تنظيم (داعش) لم يعد هناك أي شي مهم سوى ما قام به (داعش)، بالنسبة إليهم لم تعد هناك ثورة ولا مجتمع مدني ولا نظام يقمع ثورة، وهنا لا أقصد أنه لم يكن مهمًا التركيز على التنظيمات الإرهابية، بل على العكس تمامًا، لكن عندما يحدث ذلك على حساب تجاهل الثورة والحكم عليها أنها انتهت ففي هذا خلل كبير تجاه الحقيقة والصدقية وللأسف جاء لصالح رواية النظام السوري الذي حاول تصوير كل من ثار عليه (إرهابيًا متطرفًا).
أنا حقيقة أشعر بالأسف خصوصًا تجاه (بي بي سي)، لأني تعلمت فيها كل شيء وهي مدرسة بكل معني الكلمة، ولكن الزمن توقف فيها عند التسعينيات تقريبًا، والحياد الذي تتبناه فشلت في تحقيقه لأسباب متعلقة ببيروقراطية أساليبها وبصور نمطية عن مجتمعاتنا تأثر بها الغرب عمومًا.
الصحافيون والناشطون قاموا بدور عظيم شجاع فدائي
كيف أثرت الثورة/ الحرب في تجربتك الإعلامية عمومًا؟
الأثر بالغ ومستمر ومتغير، مع الثورات مررت بمراحل كثيرة وما كنت أراه صائبًا في وقت ما، راجعته وتراجعت عنه لاحقًا.
ما شهدناه في السنوات العشر الأخيرة جلل وعظيم وقاس في آن، في مستويات شخصية ومهنية لا أعتقد أنّ هناك من لم تمر به رياح التغيير سلبًا أو إيجابًا.
بالنسبة إلى تجربتي الإعلامية خلال الثورة، كان أمرًا صعبًا جدًا أن تكون سورية هي الحدث وأي حدث، ثورة عظيمة بخطابها وبسلميتها وبجمال مظاهراتها، وبالبسمة التي زرعتها حتى في أسوأ الأوقات، كغيري من الإعلاميين لقد أصابتنا الحماسة من هول ما كنا نتابع، ولأكن صريحة جدًا في كثير من الأحيان أخطأنا كإعلاميين محترفين، في منعطفات كثيرة التبس علينا الأمر وتحولنا إلى ناشطين.
في بدايات الثورة كان الأمر منطقيًا، لا بل كان ما يجب أن يكون، ولكن عندما أراجع الأمر بدقة أرى أنه ما كان علينا أن نخلط الأوراق، إنما كان علينا بوصفنا إعلاميين محترفين مهما كان موقفنا أن نضبط العاطفة ولا نحيد عن أصول مهنية وُجدت لسبب وجيه.
عندما تعقد المشهد في سورية وصولًا إلى يومنا هذا، يحتاج منا السوريون المعلومة أكثر من العاطفة والموقف الداعم، أو لأكن أكثر دقه دعمنا كان يجب أن يركز على نقل المعلومة أيًا كانت فهذا هو دورنا الأصل.
لليوم أحاول أن أعود لأمسك قواعد المهنة؛ فمرة جديدة هذا ما أستطيع تقديمه لقضيتي ولأي قضية أؤمن بها، أنجح حينًا وأفشل حينًا آخر، ولكني أحاول لأنه فعليًا هذا ما أستطيع تقديمه انطلاقًا من مكاني وتخصصي.
ما هي نظرتك إلى الدور الذي لعبه الإعلاميون/ات في عشرية الثورة السورية؟
سأتحفظ بداية على توصيف (الإعلاميين) فلتقييم دقيق لدور الإعلامي خلال عشرية الثورة، أعتقد علينا أن نحدد من نقيم، لاختلاف معايير التقييم من فئة لأخرى
تقييم الصحافي/ة سيكون انطلاقًا من معايير مهنة واضحة لا تخفى على أحد، تقييم ناشط/ة سيكون حتمًا تبعًا للخلفية والظرف.
أنا أرى أن خلط التوصيفات لا يساعدنا على تقييم حقيقي هذا أولًا، وثانيًا في مستوى شخصي يستفزني جدًا الاستخدام الراهن لتوصيف الإعلامي/ة، أنا لا أعرف متى يكتسب أحدهم هذا التوصيف الذي بات مستباحًا لدرجة أننا نصادف على وسائل التواصل الاجتماعي شخصيات منهم لم يبلغوا العشرين ويقدمون أنفسهم بصفة إعلاميين.
أكثر من هذا كله ولرسم بسمة مرة، أوافق على تمييز الصحافي الكبير رياض نجيب الريس رحمه الله ما بين الإعلامي والصحافي، ببساطة يقول الريس: (الإعلامي وظيفة والصحافي مهنة)، وبناء عليه ماذا يُقصد عندما نقول إعلامي،
اعذرني إن أخذت السؤال إلى غير منحى، هذا فقط لاقتناع تام بضرورة إعادة النظر بهذا التوصيف.
ولكن إن كنت سأجيب بصورة عامة عن دور من نقل الصورة والمعلومة أيًا كانت صفته/ا فمؤكد هو دور مهم بكل ما ورد فيه من أخطاء، ومنها أخطاء شخصية تحدثت عنها في جوابي السابق، ولكن هذا الدور تفاوتت أهميته على مر السنوات باختلاف الظروف بطبيعة الحال.
في بداية الثورة ومع أخذ الاعتبار بحقيقة أنه لم يكن هناك إعلام حقيقي في سورية قبل الثورة، وبغياب وسائل الإعلام الدولية أيضًا لتضييق النظام على العمل الصحافي خلال مدة حكم الأب سابقًا والابن راهنًا، باعتبار هذا فإنّ ما قام به الصحافيون والناشطون كان دورًا عظيمًا شجاعًا فدائيًا، وقد هزموا النظام في هذا الشق هزيمة نكراء.
فلولا الصحافيون والناشطون الذي خاطروا بحياتهم من داخل سورية، مستفيدين من تقنيات عصرنا الراهن وبمساندة من ناصرهم خارجها أيضًا، لما كانت الصورة والمعلومة وصلت للعالم.
ولكن مع مرور السنين أعتقد أنّ الأهمية خفتت والاختلالات وضحت أكثر، ففي بداية الثورة تساوى الصحافيون والناشطون وصولًا إلى التماهي في الأسلوب فلم تعد تميز من هو الصحافي ومن هو الناشط، وبالنظر إلى الظروف التي كانت لا أعتقد أنّ النقد هنا مستحق، بل هو الشكر الواجب للطرفين.
النقد يأتي لاحقًا لأنّ الإعلام السوري، وهنا طبعًا أتحدث عن إعلام الثورة لم يطور من نفسه ولم يرقَ إلى تعقيد الحدث، ما زلنا نسمع المقاربات نفسها والحس الحماسي نفسه الذي إن كان مبررًا ببداية الثورة، فهو خطأ جسيم ومهنية غائبة لاحقًا.
مؤسف أن وسائل الإعلام السورية التي ولدت من رحم الثورة، ما عدا قلة قليلة منها، لم تطور نفسها وما تزال المهنية بعيدة عنها، فالفضاء الإعلامي الثوري مليء بأخبار غير موثقة مجهولة المصدر وغير مقدمة حتى بقوالب تحريرية احترافية.
طبعًا هناك أسباب موضوعية كثيرة تفسر هذا، منها الظرف السوري بحد ذاته الذي لا يوفر بيئة آمنة مستقرة سواء لمن هم داخل سورية أم خارجها، أيضًا، وكذلك التمويل وتأثيره، والشتات السوري الذي بعثر الخبرات، وأيضًا سقف الحريات؛ الذي وإن وجد خارج مناطق النظام إلا أنه أيضًا ما زال منخفضًا محددًا بمقاييس المنطقة الذي منها يُنجز العمل الصحافي، ومن يسيطر عليها.
ما رؤيتك، وأنت الإعلامية ذات التجربة الطويلة، لوضع الإعلاميات السوريات في فضاء الإعلام السوري البديل/ المعارض إن جاز التعبير، ماذا ينقصهن لتحسين هذا الوضع؟ وما دورهن الرئيسي اليوم؟
لا أعتقد أننا نستطيع جمل أوضاع الإعلاميات السوريات في الإعلام السوري البديل المعارض، تختلف الأوضاع باختلاف نمط الوسيلة التي يعملن فيها واحترافيتها.
ولكن كان المأمول من فضاء الإعلام السوري البديل أن يكون فضاء أفضل لا تحكمه المحسوبيات والرؤى الشخصية، ويحتكم إلى الكفاءة والقدرات المهنية، قلة هي الوسائل التي انتهجت نهجًا مختلفًا.
أتمنى أن يتحسن الوضع وأعتقد أنه سيفعل مع الوقت بفعل التراكم والاحتكاك مع خبرات تتطور وتتنوع تجاربها مع مرور الزمن، أضف إلى ذلك وجود كفاءات نسائية سورية مهما صعُبت الظروف أمامهن، إلا أنهن في النهاية سيكن قادرات على فرض وجودهن.
ولكن بشكل عام أعتقد أن وضع الإعلاميات حاليًا ما يزال مؤطرًا بأدوار معينة، ولن يتحسن إلا بكسر النساء عتبة الإدارة التي هي حاليًا رجالية بامتياز، كلما زادت الإعلاميات في مراكز صنع القرار وإدارة المؤسسات، انعكس ذلك إيجابًا على المدى الطويل.
من معين تجربتك المهنية، ما هي صفات الإعلامي الناجح والمهارات التي يجب أن تتوافر لديه؟ ومن بعد، ما النصائح التي يمكنك توجيهها إلى من يود الاشتغال في ميدان الإعلام من الشباب والشابات السوريين؟
وفاءً لنقطتين أثرتهما في سابق أجوبتي، سأحور السؤال قليلًا لأجيب عن مواصفات الصحافي/ة الناجح/ة، فهذا ما أختص به وهذا ما أستطيع الإفادة فيه.
طبعًا مع كل تقدير لكل خريجي الصحافة ومع كل خشية من ردة فعلهم على ما سأقول، إلا أنّ الصحافي الجيد ليس بالضرورة خريجًا للصحافة، فعلى عظمة هذه المهنة إلا أنها تحمل في طياتها كثيرًا من الحرفية التي يمكن استيفاؤها بتعلم أصول المهنة سواء بالكلمة أم بالصوت أم بالصورة، وهذا يمكن إنجازه بتدريب جيد.
ما لا يمكن استيفاؤه وهو الجوهر على ما أعتقد، هو مدى اطلاع الشخص ومتابعته ومعرفته وفهمه لديناميات أي حدث وخلفياته، وتنوع مشارب معرفته واختلاف اهتماماته.
هذا بشكل عام، ولكن لكي أزيد الاختصاص اختصاصًا، فإن الصحافي التلفزيوني، (خصوصًا من يود الإطلال على شاشة ما) يحتاج إضافة وهي ما تستوجبه المهنة عمومًا من لغة سليمة وإطلاع وفهم ومتابعة، ويحتاج إلى هبة من الله ليكون مقبولًا فهناك العبارة الشهيرة التي تحكمنا في عالم التلفزيون (الكاميرا تحب وتكره)، ليس الأمر متعلقًا بجمال أو طلة بهية، بل هو متعلق بالقبول، وهذه الجزئية يرفضها كثر ولا يقتنعون بها ولكنها جوهرية.
وسأشارك من وصل/ت إلى الظهور على الشاشة بنصيحة سمعتها في بداية مسيرتي في إحدى جلسات التدريب، وإلى اليوم أذكر نفسي بها وهي مهمة جدًا للتوازن الشخصي الذي هو أيضًا من أهم عوامل النجاح.
“على من يصل إلى شاشة ما أن يذكر نفسه/ا أنه/ا بمجرد الظهور على الشاشة فإنه/ا معرض/ة لفقدان نسبة من توازنه/ه الشخصي”، في ذلك الحين حدد لنا المدرب نسبة أربعين في المئة، تعود أسباب الفقد لنوازع وطبائع بشرية وهذا طبيعي، ولكن من المهم أن نذكر أنفسنا أننا فقدنا شيئًا من التوازن حتى لا نفقد المزيد ولنحافظ على سوية نفسية وعقلية مهمة لنجاحنا في مهمتنا.
وأخيرًا سأقول: في أوساط المذيعين والمذيعات، لا يعني إن كنت تقدم خبرًا مهمًا فإنك تلقائيًا أصبحت شخصًا مهمًا، دائمًا تذكر أنك ناقل لهذا الخبر بدورك وهذا واجبك حاول ألّا تتجاوزه.
أين هو المجتمع السوري الآن
الواقع الذي نعيشه لا يخفي أنّ “طاقات الشابات والنساء السوريات مهدورة بسبب الخلل في البناء المجتمعي الخاضع لعقلية الذكورة”؛ برأيك، كيف يمكننا إحداث التغيير المطلوب في المجتمع السوري؟
على الرغم من أني أستفز من الضيوف الذين ألتقي بهم ويردون على السؤال بسؤال، إلا أني وبوجع كبير سأفعلها وسأسأل: (وأين هو المجتمع السوري الآن).
سؤالك معضلة تكاد تكون إعجازية، ليس فقط في ما يتعلق بالنساء السوريات بالخلل الذي فرضته العقلية الذكورية، بل بأي خلل مجتمعي ينبغي إصلاحه، والسؤال كيف ما دمنا خسرنا مجتمعنا السوري ولا يوجد لدينا إطار محدد نعمل في سياقاته.
الحقيقة أنا لا أعرف الإجابة عن هذا السؤال، ومن قال لا أعرف فقد أفتى، إنما المرأة بشكل عام والسورية بشكل خاص كانت وستبقى تناضل ضد العقلية الذكورية والمجتمعات الأبوية، وهذا ليس طريقًا سهلًا وأحيانًا لا تبدو له نهايات.
ولكن نضالات المرأة السورية تأتي في سياق أوسع وهو نضال نسوي في كل أرجاء المعمورة بدأ منذ عقود ويستمر، وستتراكم إنجازاته، العجلة دائرة ولا يمكن إيقافها فالمرأة كما الشعوب تناضل لوجودها ولن تستلم.
هل توافقينا الرأي أنه من الضروري التصدي لكل من يدعو إلى تأجيل قضايا التحرر وتمكينها سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا بدعوى أنها (ثانوية)، بالنسبة إلى الصراع بين أطياف الثورة وقواها من جهة، ونظام الأسد من جهة ثانية؟
في المبدأ، متفقون تمامًا، واتفاقي معكم يأتي بعد خطأ وسوء تقدير مني، وأعتقد أني تشاركت هذا الخطأ مع كثر.
في مرحلة من مراحل الثورة عندما كانت (هيئة تحرير الشام) (النصرة سابقًا)، تواجه النظام، كنت ربما ميالة لفكرة تأجيل الصراع المجتمعي والوجودي والعسكري مع (النصرة)، ربما في ذلك الحين لشدة الذهول والألم من قسوة ما واجهنا به النظام هُيئ لي صحة هذه المقاربة، لكن كما أثبتت الأحداث لاحقًا كان خطأً ودرسًا تعلمناه بقسوة، هناك صراعات لا تؤجل.
في التفاصيل هناك دائمًا أولويات يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، وهنا سأذكر مثالًا عن بعض الناشطين الذين أرادوا للثورة أن تكون شاملة (ثورة جنسية وثورة مجتمعية و و و..) في الوقت الذي كانت براميل النظام تدك فيه مدنًا ومدارس ومستشفيات.
هنا أعتقد أننا يجب أن نراعي الأولويات ونراعي أن يكون الدعم كل الدعم لإنقاذ من يمكن إنقاذه من براثن آلة القتل التي لا تقتصر على النظام وإن كان الأشرس فهناك أطراف كثيرة استهدفت حياة السوريين وحقهم في الحياة.
ومرة جديدة ثورة المفهومات تحتاج إلى مجتمع نثور منه وإليه وليس بالضرورة نثور عليه فقط، برأيي هناك كثير من الأمور التي نحتاج قطعًا إلى تغييرها في مجتمعنا، ولكن لكي لا نكون نسخًا مشوهة لا نشبهها ولا تشبهنا علينا أن ننطلق من مجتمعنا.
أخيرًا، ما الأشياء التي تجعلك تواصلين العمل وسط كل هذه الأوضاع التي تدعو إلى اليأس؟ وماذا تعني لك الكلمات الثلاث: الألم، والأمل، والحلم؟
بداية لا أعتقد أنّ التوقف خيار متاح أساسًا، وصحيح أنّ الوضع يائس ولا مآلات منظورة له، ولكن الأمر الذي يجعلني مستمرة هو إدراكي أني فرد قمت وسأقوم بما أستطيع به من حجمي ومكانتي وقدراتي، وبالتالي ستتناسب مسؤولياتي طردًا مع ذلك، هذا حقيقية ما أؤمن به وأعمل وفقه.
نحن بوضعنا الراهن كأفراد غلبتهم ألاعيب السياسة نستطيع التغلب على النظام السوري ومن يسانده، ولن نستطيع تغيير النظام العالمي الذي ظلم قضايا عادلة من قبل وسيستمر بظلمه سواء المتقصد أم المصلحي، ولكن في نهاية الأمر لنا هامش نستطيع العمل فيه أفرادًا حتى ولو اقتصر التغيير والتأثير علينا بوصفنا سوريين/ات، إذ لا بد لهذا أن يحدث تراكمًا ويفتح صفحة جديدة أتمنى أن نشهدها في حياتنا. وعن الألم والأمل والحلم فهم مجتمعين بالنسبة إلي (الحياة).
• الكثيرون يكررون هذه العبارات التي تتسم بخطأ تعميمها وبتعالي مطلقها.
• هل يمكن أن يقدم لنا هؤلاء الزاعمون، شعوبا تتمثل مفهوم العمل الجماعي خارج الأطر المؤسساتية التي تفرض هذه الصيغ كجزء من منظومة العمل الصارمة.
• لا يمكن الحديث عن السوريين بهكذا تعميم متعالي وكأنهم نسيج واحد
• المؤسسات السورية شأنها شأن المؤسسات العراقية والليبية والفلسطينية واليمنية وغيرها كثير في أطراف وطننا العربي المحكوم بالقمع والتجهيل الممنهج، لكنها أبدا ليست سمة للسوريين، ومن ينظر إليهم وهم يعملون في مؤسسات اوربية أو ماليزية أو يابانية، سيجدهم في الحد الأدنى ناجحون شأنهم شأن الآخرين.
• خلاصة القول: العمل الجماعي ليس سمة فطرية شخصية هي سمة يكتسبها الأفراد في مؤسسات تفرض هذا النمط من السلوك إلى أن تصبح سمة عامة للأفراد بها.