يستضيف مركز حرمون للدراسات المعاصرة، في هذه الفسحة الحوارية الأسبوعية، الناشط السياسي والحقوقي المحامي حسان الأسود، أمين عامّ “المجلس السوري للتغيير”، وهو عضو مؤسّس في “مجموعة تنسيق العدالة الانتقالية” في إسطنبول، ونائب مدير “المؤسّسة السورية للديمقراطية وحقوق الإنسان”، المسجّلة والعاملة في السويد. والمدير الحالي لـ “الرابطة السورية لحقوق الإنسان”، المسجّلة والعاملة في السويد وأوروبا.

ضيفنا مقيم في مدينة هانوفر الألمانية، وهو من مواليد مدينة دمشق عام 1969، حاز إجازة في الحقوق من جامعة دمشق عام 1991، وهو منذ ذلك العام يمارس المحاماة، وهو عضو سابق مستقل في “مجلس فرع نقابة المحامين” بدرعا.

ومن المهام التي تولاها المحامي حسان الأسود؛ المدير السابق لـ “الهيئة السورية للعدالة والمحاسبة”، المسجّلة في لاهاي والعاملة في إسطنبول وبروكسل؛ والمدير السابق للقسم القانوني في “مكتب دعم المعارضة السورية” في إسطنبول. وهو ذو خبرة واسعة في العمل القانوني والحقوقي وفي مجال التوثيق الجنائي للجرائم الأشد خطورة وفق المعايير الدولية، ويمتلك خبرة واسعة في مجال التدريب على آليّات المناصرة في الأمم المتحدة والعدالة الانتقالية والإدارة المدنيّة.

للوقوف على دور “المجلس السوري للتغيير”، الذي أُعلن تأسيسه في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، ورؤيته لمعالجة القضايا الوطنية الحساسة كملفّ المعتقلين، ومسار العدالة الانتقاليةوالمُساءلة الجنائية لملاحقة مجرمي النظام، وأداء المراكز والمنظّمات والشبكات الحقوقية السورية في البلدان الأوروبية وما تواجهه من عقبات في عملها، وغيرها من تفاصيل الملفّ السوري الراهن، كان هذا الحوار.

بداية؛ ما هي أبرز الأهداف التي دعتكم لتأسيسالمجلس السوري للتغيير؟ ومتى كان ذلك؟ وهل بإمكانكم إخبارنا بالدور الذي يقوم به المجلس اليوم، في الساحة السياسية السورية؟

بدأت تتبلور فكرة إنشاء المجلس بعد استطاعة نظام الأسد -بمساعدة حلفائه الروس والإيرانيين- استرداد الجنوب السوري عام 2018، فكان لتشتت الكفاءات السورية عمومًا، والجنوبية خصوصًا، في بقاع الأرض، أثرٌ ضاغط على مستوى الفعل الواجب القيام به.وتمحور النقاش بين عدد من أبناء حوران حول الحاجة إلى جسم تنظيمي يجمع هذه الكفاءات، وينظم العلاقة بينها، ويجعلها تعود للعمل فريقًا وطنيًا ثوريًا سياسيًا.

انطلق المجتمعون في التأسيس من مبدأ العمل حسب نظرية الدوائر المتوزعة عبر المناطق، يتم تمتين الدائرة الأولى الضيقة ثم التوسّع شيئًا فشيئًا. لذلك كانت أول دائرة من أبناء وبنات محافظة درعا، ثم تمّ التوسع لتشمل الدائرة الثانية أبناءً وبناتًا من القنيطرة والسويداء وريف دمشق، وحاليًا يضمّ المجلسُ أعضاء من أغلب المحافظات السورية، ويسعى لأن يشمل كل سورية ضمن الخطة الإستراتيجية المعتمدة.

بدأت النقاشات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وبلقاءات جماعية وفردية مباشرة، في الربع الأخير من عام 2019، واستمرّت أكثر من سنة، جرى خلالها استعراض الوضع السوري عمومًا ثم الوضع في الجنوب. خَلُص المشاركون إلى وجوب تأسيس كيان سوري وفق قواعد وطنية عامّة، يتمسك بقيم الثورة ومبادئها، ويسعى لتحقيق أهدافها، ويكون بنفس الوقت جامعًا من حيث الرسالة والرؤية، فلا يتمّ تهميش السوريين القابعين تحت سلطة نظام الأسد وغيره من قوى الأمر الواقع، بل أن يسعى لمخاطبتهم والوصول إليهم باعتبارهم جزءًا من الكيان السوري.

تمّ إشهار المجلس بتاريخ 1/11/2020، بعد أن تمّ إقرار مدونة السلوك والنظام الداخلي للمجلس. استكمل المجلس فيما بعد مجموعة أعمال تجلّت بأوراق تعبّر عن رؤيته الاقتصادية ورؤيته للعدالة الانتقالية، كما أنجز مجموعة من المبادئ الأساسية التي يعتبرها ضرورية لتوضيح رؤيته حول سورية المنشودة في المستقبل. وكان فريق التخطيط الإستراتيجي الخاصّ بالمجلس هو وحدة العمل الرئيسة التي قامت بهذا الجهد التنظيمي والتنظيري. تتألف الوحدة من مجموعة من الأكاديميين والسياسيين والقانونيين، وقد عملت على وضع خطة إستراتيجية للمجلس للعام الأول، وخطّة إستراتيجية للأعوام الخمسة التالية. بنى الفريق الخطّة على أساس إجابات أعضاء الهيئة العامّة للمجلس على أسئلة موجودة ضمن استبانة قُدّمت لهم، فكانت آراء الأعضاء وتصوراتهم عن المجلس ودوره في الحياة السياسية السورية، أساس تحديد توجهات المجلس.

من هنا، يقوم المجلس بأدوار مختلفة على الساحة السورية، تجلّى بعضها من خلال حملة مقاطعة الانتخابات الرئاسية صيف عام 2021 الجاري، حيث أطلق المجلس حملته الخاصّة ضد مسرحية الانتخابات الهزلية في 7/1/2021، ثم تعاون مع عدد كبير من القوى الثورية لإتمامها، فكان للحملة صدًى كبيرًا في الشمال السوري، خاصّة من خلال الفعاليات والأنشطة التي قام بها أعضاء الحملة. وظهرت النتائج الأكبر في محافظة درعا التي أفشلت هذه الانتخابات بشكلٍ تامّ واضحٍ للعيان، حيث لم يشارك المواطنون هناك إطلاقًا، مما اضطرّ أجهزة النظام إلى الاستعانة بعناصر جيشه وأجهزته الأمنية ليصوّرهم أمام صناديق الاقتراع. ولعب المجلس دورًا رياديًا في مواجهة الحصار الذي ضربه النظام على مدينة درعا بدءًا من تموز/ يوليو 2021، فكان أن نظّم أربعة اجتماعات كبيرة للشخصيات الوطنية السورية، وكان على تواصل دائم مع القيادات المجتمعية المحلية في الداخل، وشارك في لقاءات سياسية مع المبعوث الدولي إلى سورية ومع عدد من ممثّلي الدول بشأن التخفيف من حدّة الهجمة والحرب المسعورة على أهلنا هناك.

لا نرى بوادر انفراج في ملفّ المعتقلين

ماذا عن شبكة علاقات “المجلس السوري للتغيير” مع القوى السياسية والمنظّمات الحكومية وغير الحكومية في تركيا وفي البلدان الأوروبية، ومع المنظّمات الدولية، وهيئات الأمم المتّحدة كذلك؟ وهل لديكم اتصالات أو مشاورات مع أطراف دولية أو إقليمية فاعلة في الشأن السوري؟ وما طبيعتها؟

شعار المجلس السوري للتغيير

يركّز التوجه الإستراتيجي للمجلس على بناء شبكة من العلاقات والتحالفات مع القوى الوطنية السورية بالدرجة الأولى، لذلك فإنّ جهود المجلس أثمرت عن صياغات أولية لمجموعة من التفاهمات مع عددٍ وازنٍ من هذه القوى. أجرى المجلس اجتماعات تعارفية وجاهية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، مع أكثر من ثلاثين كيانًا سوريًا من كل التوجهات السياسية والإيديولوجية، وكان من بينها كيانات نسوية عدّة.

لم يرتبط المجلس حتى الآن بعلاقات مباشرة مع جهات حكومية، لكن من خلال أعضاء المجلس الموجودين أساسًا في هياكل المعارضة الرسمية السورية الائتلاف الوطني” و“الهيئة العليا للمفاوضات” و“اللجنة الدستورية”، بقي المجلس على تواصل فعلي مع ممثّلي عدد من الدول الفاعلة بالشأن السوري، ومع ممثّلين رسميين للمنظّمات الدولية، لتبادل الآراء ووجهات النظر بما يخصّ الشأن السوري باستمرار.

تتعلق المشاورات والاتصالات بأشكال الوصول إلى تنفيذ القرارات الدولية الخاصّة بسورية، فالمجلس يرى أنّ تفاهمات جنيف والقرارين 2118 و2254 هي السبيل الأنسب -حتى الآن- للوصول إلى الانتقال السياسي. لذلك تتركّز الجهود التي يبذلها المجلس على إنجاح هذا المسعى، بكل الطرق المشروعة والممكنة والمتوفرة.

كقوة سياسية معارضة، هل ترون أن وجود روسيا في سورية ضامن للاستقرار وداعم للعملية السياسية، أم أنها قوة احتلال تعمل على حماية مصالحها، أيًا كان الشريك؟

يرى المجلس أنّ التدخّل الروسي في سورية جاء نتيجة تفاهمات مع الأميركيين بالدرجة الأولى، وأنّ هدفه الأساسي منع سقوط النظام الاستبدادي، وذلك حفاظًا على منظومة متكاملة تعمل وفق منطق الدكتاتوريات البائد من الحقبة السوفياتية وما تلاها من الحقبة البوتينية. إنّ التدخّل الروسي في سورية لصالح النظام هو احتلال فعلي، حتى وإن كان قد تمّ تحت غطاء سخيف من مبررات التوافق مع القانون الدولي، باعتباره جاء ثمرة لاتفاقيات معقودة بين حكومة نظام الأسد وحكومة الاتحاد الروسي. ويرى المجلس أنّ الشرعية في مثل هذه الحالات لا تقتصر على عناصرها القانونية، بل إنّ الأصل فيها هو القبول الشعبي الذي بات واضحًا للعالم أجمع أنّ نظام الأسد افتقده منذ اليوم الأول للثورة، وما زال.

ليس أمام الروس من أمثلة لتقديمها للعالم في سورية إلا ما أنجزوه في الشيشان، وهو استقرار شكلي أشبه باستقرار الموتى في القبور، فالشيشان بلد منبوذٌ من المجتمع الدولي، والاستقرار فيه ليس سوى حالة هشّة تسندها أدوات القمع لا غير؛ فالروس لا يملكون أدنى حدٍّ من مستويات الحوكمة الرشيدة في بلدهم ذاتها وفق المؤشرات العالمية، فأنّى لهم أن يأتوا بما لا يملكونه إلى سورية؟

يرى المجلس أنّ الوجود الروسي في سورية هو احتلال خارجي من نوعٍ خاصّ، أتى لتثبيت احتلال داخلي قابع على صدر الشعب السوري منذ ستين عامًا. وهذا الأمر لا يهدف إلّا إلى تحقيق مصالح الطغمتين الحاكمتين في روسيا وسورية من جهة، وإلى تثبيت مواقع روسيا ضمن إستراتيجيتها المعلنة في إنشاء الحلف الأوراسي بمواجهة الغرب من جهة ثانية.

أين المعتقلون والمغيّبون قسريًا في خطابكم وبرامجكم السياسية؟ وهل ترون انفراجًا في هذه القضية البالغة الأهمية بالنسبة إلى كل السوريين؟

إنّ هذا الملفّ الشائك من أكثر الملفّات إيلامًا للسوريين، ويرى المجلس أنه يجب التحرّك لإنقاذ المعتقلين من بين براثن أجهزة النظام التي أخذتهم رهائن للمقايضة السياسية وأدوات للانتقام ممن جرحوا هيبة الاستبداد وسطوته، كما يرى المجلس أنّ بيان مصائر المختفين هو من أولياته التي يعمل عليها.

إنّ عجز الدول الكبرى عن التأثير في هذا الملفّ، مع أنه ملفّ إنساني يرقى فوق المساومات السياسية، يبيّن مدى إجرام النظام من جهة، ومدى استهتاره بالمجتمع الدولي والقيم الإنسانية من جهة ثانية. وهذا يجعلنا لا نرى -ضمن الأوضاع السياسية الحالية- بوادر انفراج في هذا الملفّ.

يقوم خطاب “المجلس السوري للتغيير” على ضرورة إنجاز تقدّم في الملفّات ما قبل التفاوضية، بأي شكل كان، فما يلاقيه المعتقلون في غياهب سجون الأسد يفوق كل وصف واحتمال. لذلك يطرح المجلس على الدوام هذه القضية في جميع لقاءاته، ومشاوراته المحلية، والإقليمية، والدولية، سواء تلك التي تتمّ عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو مباشرة من خلال لقاءات ممثّليه المفوضين.

دعم مبدأ عدم الإفلات من العقاب

ننتقل معكم إلى الحديث عن الجديد الذي تشهده ساحات القضاء في ألمانيا: قضية الطبيب السوري علاء موسى بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية بتعذيب والمشاركة في قتل معتقلين بمشفى حمص العسكري، وفي فرع الأمن العسكري في حمص 261، ومشفى المزة العسكري 601، وقضية العقيد أنور رسلان مسؤول التحقيقات السابق في فرع 251 (فرع الخطيب)، التي لا تزال منظورة أمام المحكمة الإقليمية العليا في كوبلنز، والتي أصدرت حكمها على إياد الغريب (صف ضابط)، بالسجن أربع سنوات ونصف السنة بتهمة أنه “مذنب بالمساعدة والمشاركة في التعذيب وحجز الحرية كجرائم ضد الإنسانية”. سؤالنا: ما هو تقييمكم العامّ لمجريات هذه المحاكمات حتى الآن؟ وهل تسير الأمور كما هو مأمول لها، أم أنّ هناك قصورًا في جوانب ما؟ 

من خلال رؤية المجلس للعدالة الانتقالية، الموضحة في وثائقه المعلنة، يمكننا القول إنّ المحاكمات الجنائية ليست إلّا جزءًا بسيطًا من مسار العدالة الانتقالية في أي بلد. وهذا المسار لا يبدأ بشكلٍ ناجع إلّا بعد الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية، أو بعد الاستقرار السياسي والأمني، مع وجود إرادة واضحة بمحاسبة مرتكبي الانتهاكات. فيجب ألّا ننسى أنّ العدالة الانتقالية تشمل مروحة واسعة من الأدوات التي يجب تطبيقها في الحالة السورية إلى جانب مسألة المحاسبة الجنائية. إنّ بناء أي برنامج للعدالة الانتقالية في سورية لا يرتكّز على الضحايا وشواغلهم ومتطلباتهم، لن يكون له من قيمة حقيقية في معالجة آثار الانتهاكات، وإغلاق سجلها الحافل. كذلك لا يمكن منع تكرار هذه الانتهاكات دون إصلاح حقيقي لمؤسّسات الدولة السورية وأنظمتها التشغيلية، ومجموعة التشريعات المستندة إلى دساتيرها المتعاقبة التي كرّست الاستبداد منذ ستين عامًا ونيّف.

فمن هذا المنطلق، يرى المجلس أنّ المحاكمات الجنائية، وفق مبدأ الولاية القضائية العالمية في أوروبا، ليست سوى جهدٍ يسير جدًا من مسار طويلٍ لا يمكن أن يأتي أُكُله إلّا إذا كان سوريًّا بامتياز، مع دعمٍ ورعاية دوليين بكل تأكيد.

إنّ حجم الانتهاكات والجرائم ضدّ الإنسانية المرتكبة في سورية، خلال السنوات العشر الماضية، يجعل من المستحيل على أية أجهزة قضائية تناوله بجدّية ونجاعة. لكنّ ما يحصل من ملاحقات -على تواضعه- يُبقي هذا الملفّ على طاولة البحث، فيمنع تقادمه مع مرور الزمن، ويمنع نسيانه. إنّ الضمير البشري بحاجة إلى تذكيره على الدوام بالجرائم المرتكبة والتي تُرتكب بشكلٍ يومي في سورية، وهذا أحد أوجه الاستفادة من هذه المحاكمات.

هل ترون، كناشط سياسي وحقوقي، في تعدد المراكز والمنظّمات والشبكات الحقوقية السورية في البلدان الأوروبية (المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية؛ والمركز السوري للإعلام وحرية التعبير؛ والمركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان؛ و“الشبكة السورية لحقوق الإنسان”.. – على سبيل الذكر لا الحصر)، التي تعمل على توثيق جرائم وانتهاكات النظام السوري وإعداد ملفّات المُساءلة الجنائية لملاحقة المجرمين، جهدًا مشتتًا أم هو أمر له فوائده؟ وما هو المطلوب تحديدًا من هذه المراكز والمنظمات لتحقيق الغايات المرجوة؟

باعتبار أنني انخرطت مبكرًا في هذا المجال من العمل الحقوقي، من خلال تأسيسي وإدارتي “الهيئة السورية للعدالة والمساءلة”، التي قمت بتسجيلها في لاهاي بالتعاون مع الدكتور وليم وايلي في بداية عام 2012، وباعتبار أنّ الهيئة كانت صاحبة الجهد الكبير والوحيد في جمع الوثائق الصادرة عن أطراف الصراع بشكلٍ متزامن، وخاصّة مئات آلاف الوثائق التي تثبت الجرائم المرتكبة بشكلٍ منهجي وواسع النطاق من قبل قوات الأسد، وهي التي قامت ببناء عدد كبير من ملفّات القضايا الجنائية وفق معايير المحكمة الجنائية الدولية، وباعتبار أنني أمارس الآن مهامي بوصفي مديرًا لـ “الرابطة السورية لحقوق الإنسان” المسجّلة والعاملة في السويد، فإنني قادرٌ على إعطاء حكم من داخل المنظومة.

بداية، لا بدّ من الإشادة بالجهود الجماعية والفردية التي تبذلها المنظّمات السورية العاملة في هذا الشأن، سواء في أوروبا وأميركا أم في تركيا وغيرها من الدول. إنّ هذه الجهود تصبّ -بشكلٍ أو بآخر- في مسار دعم مبدأ عدم الإفلات من العقاب، وهي جهودٌ حميدة وذات فائدة وقيمة مقدّرتين. لكنّ النظرة المعمّقة على آليّات عمل المراكز والمنظّمات السورية الحقوقية بشكلٍ عامّ، تدلّنا على مواطن الضعف أيضًا. فمن جهة أولى، ليس هناك إستراتيجية واضحة للتقاضي عند هذه المؤسّسات، أو على الأقل هذا ما لم نتبيّنه عندها، أو ما لم تستطع هي إيضاحه. ومن جهة ثانية، هناك نقص بالكوادر السورية المؤهلة القادرة على بناء ملفّات القضايا من الألف إلى الياء وفق معايير المحكمة الجنائية الدولية، أو حتى وفق معايير القضاء الوطني للدول التي تعمل بها هذه المنظّمات والمراكز. وهذا الأمر ليس لها يدٌ فيه حتى اللحظة الراهنة، إن شئنا الإنصاف، فعشر سنوات من عمر الصراع غير كافية لإنتاج كوادر قانونية وحقوقية من المحامين والقضاة والمحققين الجنائيين المتخصّصين والعاملين في شأن قضايا المناصرة، خاصّة إذا ما انطلقنا من العقبة الأولى المتمثّلة بغياب الإستراتيجية الواضحة في إدارة هذا الملفّ الخطير والحساس. ومن جهة ثالثة، لدينا مشكلة التمويل الأجنبي، وهي تلعب دورها في منع اتحاد جهود هذه المنظّمات بشكلٍ كبير. وإنّ التنافس للحصول على التمويل من الجهات المانحة يأخذ -مع الأسف الشديد- في هذه المجالات مناح سلبية على مجمل عمليات التقاضي والمناصرة. ومن جهة رابعة، لدينا مشكلة غياب الإرادة والقدرة على العمل الجماعي في سورية، فقد تحوّلت الطاقات الإيجابية الجمعية الهائلة التي كانت ملحوظة مع انطلاقة الثورة السورية، إلى انكفاء وتقوقع على الذات وإلى العمل الفردي بدل العمل الجماعي. لقد خضنا خلال السنوات الماضية -وأنا من بين الأفراد المشمولين بهذا الجمع- تجارب كثيرة لجمع أو على الأقل لتنسيق هذه الجهود، لكن دون الوصول إلى نتائج مُرضية أو حتى مقبولة بالحدود الدنيا. ومن جهة خامسة وقد لا تكون الأخيرة، لدينا عقبة كبيرة تتمثّل في عدم الاستقرار السياسي، وعدم وجود ضوابط تنظيمية لعمل هذه المؤسّسات والمنظّمات، نظرًا لعدم وجودها في إطار بقعة جغرافية سورية ذات سيادة. فصحيح أنها تستفيد من أجواء الحرية وسيادة القانون الكبيرة التي تعمل بها -خاصّة في بلدان أوروبا وأميركا الشمالية- إلا أنّ انعدام البنية الحقوقية والقانونية السورية الواحدة يلعب أكبر الأثر في تبعثر هذه الجهود وعدم رفع كفاءة إنتاجيتها.

ما الذي يمكن أن يقدّمه المجلس السوري للتغيير، وغير ذلك من قوى المعارضة والروابط الحقوقية السورية، لجهة توثيق انتهاكات الأجهزة الأمنية الأسدية لحقوق المدنيين السوريين من معارضي النظام، لمحاسبتهم قضائيًا كمرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية؟

من خلال ما شرحناه عن تموضع “المجلس السوري للتغيير” بين مجموعة القوى السياسية السورية، يصبح من الواضح أنه داعم سياسي لهذه الجهود الحقوقية والقانونية، لكنّه لا يشكّل بحدّ ذاته منظمة عاملة بهذا الشأن. إنّ إستراتيجية المجلس تركّز على جمع وتأطير الجهود السياسية السورية للإسهام في الانتقال السياسي، وهي لا تغفل الجوانب الحقوقية المذكورة أعلاه، لكنها لا تركّز عليها. إنّ هذه الأعمال هي من مجالات عمل المنظّمات الحقوقية العاملة بهذا الشأن، والمجلس يرتبط بالعديد منها من خلال مذكرات تعاون وعمل مشترك، وهو يدعم جهودها بشكلٍ كبير.

وجّه كثير من الناشطين السوريين -عبر منصّات التواصل الاجتماعي- رسائل غاضبة للمعارضين والحقوقيين المشتغلين في قضايا ملاحقة المجرمين من الضباط المنشقّين عن النظام، باعتبار أنّ “انشقاقهم يجُبُّ ما قبله”. ما رأيكم أنتم؟ وكيف تنظرون إلى هذه المسألة الحساسة فعلًا؟

أنا شخصيًا أرى أنّ الأمر أكثر تعقيدًا مما يظهر على الساحة، فالمسألة فيها أكثر من رأي، وتقبل أكثر من احتمال، حسب زاوية النظر إليها. فإذا ما أردنا أن ننطلق من القواعد والأسس القانونية الثابتة، فلا بدّ من القول إنّ الجريمة تبقى جريمة، بغضّ النظر عن سبب ارتكابها أو زمنها أو شخص مرتكبها أو ما لحقه أو سبقه من أفعال قام بها، وبغض النظر عن صفة الضحية أو أية اعتبارات أخرى. هذا يعني -من حيث النتيجة- أنه لا يوجد شيء اسمه “الانشقاق يجبّ ما قبله”، فهذه القضايا لا تدخل في الجوانب الإيمانية ولا الأخلاقية، وهي بالتالي لا تسقط بمجرّد التطهّر أو التوبة. لو فرضنا جدلًا أنه وجد شخص ما، ارتكب بحق أيّ منّا أو من أحد أقاربنا أو أصدقائنا أو معارفنا، نحن معشر الثورة، جريمة قتل أو تعذيب أو اغتصاب أو سلب أو تدمير ممتلكات أو غيرها، فهل كنّا سنقبل توبته بعد انشقاقه؟! لا أعتقد أنّ ذلك واردٌ نفسيًا ولا أخلاقيًا ولا بأي مقياس أو معيار. وهذا ما يقوله القانون، لأنّ القانون بشكلٍ أو بآخر تجسيدٌ -أو يجب أن يكون تجسيدًا حقيقيًا- لخلاصة القيم الدينية والأخلاقية، ولعصارة الفكر والفلسفة والثقافة البشرية في لحظة معينة من لحظات تطور البشر الذين يحكمهم هذا القانون.

لكننا لو نظرنا بعين أخرى أو من زاوية ثانية، لرأينا أنّ مع المحتجّين بعض الحقّ في وجهة نظرهم، خاصّة عندما نرى أنّ الملاحقات لم تطل حتى الآن أيًا من كبار مجرمي الحرب المحسوبين على النظام. لكن هذه الحجّة لا تصمد أمام الفحص العقلي والمنطقي الهادئ، لأنّ الملاحقات لا تجري أمام المحكمة الجنائية الدولية، ولا أمام محكمة دولية، حتى نتهمها بعدم جلب مجرمي النظام للعدالة، إنها محاكمات وفق مبدأ الولاية القضائية العالمية، أي أنها محاكمات أجنبية يقوم بها جهاز قضائي غير سوري، على غير أرض سورية، وبالتالي فلا وصول ليد العدالة الأجنبية إلى هؤلاء المجرمين المطلوبين.

تعزيز العمل بالولاية القضائية العامّة

نتوقف معكم عند قرار إعادة نظام الأسد إلى منظمة الشرطة الجنائية الدولية (الإنتربول)، ما الذي تعنيه تلك العودة من وجهة نظركم؟ ومن بعد ألا تخالف إعادة فتح مكتب المنظمة في دمشق -بعد تعليق عمله في عام 2014- العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة على نظام الأسد؟

لست خبيرًا ولا متخصّصًا في قضايا الشرطة الجنائية الدولية، لكن من خلال معلوماتي المتواضعة وقراءاتي حول الموضوع، أستطيع القول بأنّ الأمر ليس خطيرًا كما يبدو لأوّل وهلة؛ فالنظام، بلا أدنى شك، سخّر الأمر وسوّق له سياسيًا على أنه اعتراف بانتصاره، وهو ينظر إلى الأمر وكأنه عودة المجتمع الدولي إليه بعد مقاطعته طويلًا، إثر انتهاكاته وجرائمه الصارخة بحق السوريين. بينما حقيقة الأمر أنّ هذه العودة ليست بذات قيمة من الناحية العملية، فطبيعة عمل المكتب تدلّ على أنه لتبادل المذكرات والمعلومات عن الجرائم والأشخاصّ المطلوبين، لكنّ عمليات تسليم المجرمين تخضع لإجراءات مختلفة تمامًا. فهي بالأصل تخصّ الجرائم الجنائية فقط دون السياسية، وهي تخضع لتقديرات الجهات القضائية في البلد المطلوب منه التسليم، وهذه الأخيرة يحق لها فحص الأحكام القطعية الصادرة من البلد الذي يطلب التسليم، لتقدير موافقتها للقوانين السارية في الدولة التي تتبع إليها، ومن حقها -بكل تأكيد- رفض التسليم في حال وجود أدنى شك بصحة التهم، أو بأنها صادرة خلافًا للأصول، أو أنها تغطية لقرارات أمنية بملاحقة المعارضين السياسيين. يضاف إلى ذلك كله أنّ مكاتب الشرطة الجنائية الدولية لا تستطيع تنفيذ أي من المذكرات الواردة إليها من أي دولة كانت، فهذا الأمر من اختصاصات الشرطة الوطنية في البلد المعني، وما دور مكتب الإنتربول سوى إصدار ونقل المذكرات.

بعد إعادة فتح مكتب (الإنتربول) في دمشق، هل هناك مخاوف على المعارضين السوريين المقيمين خارج سورية، بخاصّة في دول الجوار العربي كلبنان والأردن والإمارات؟

الحقيقة أنّ الإجابة على هذا السؤال لا تتعلق بإعادة افتتاح مكتب الشرطة الجنائية الدولية في دمشق، لأنه -كما أسلفنا أعلاه- لا صلة لهذا المكتب بتسليم المعارضين السوريين. الخوف الحقيقي يأتي من تعاون أجهزة الأمن والمخابرات في هذه الدول أو في غيرها مع أجهزة مخابرات النظام، لتسليم المعارضين خلافًا لمقتضيات قوانين حقوق الإنسان والمعاهدات الدولية التي تحمي اللاجئين وتمنع الإساءة إليهم أو إعادتهم بشكلٍ قسري.

هل من المرجّح عمل مكتب منظمة (الإنتربول) على تنفيذ المذكرات التي صدرت ضد شخصيات سورية في مناطق سيطرة النظام؟

ليس لهذا الأمر من وجود، فمكاتب الإنتربول لا تنفذ المذكرات بذاتها، بل تراسل الشرطة الجنائية المحلية في البلد المعني، وهذا ما لم تقصّر به أجهزة نظام الأسد القمعية، فهي ليست بحاجة إلى من يطلب إليها اعتقال أي سوري أو سورية أو فلسطيني أو فلسطينية، أو أي إنسان عربي أو حتى أجنبي ترى فيه خطرًا على النظام.

في شهر نيسان/ أبريل الماضي، أعلنت “منظّمة حظر الأسلحة الكيميائية” اتّخاذها أولى الخطوات ضد نظام بشار الأسد، على خلفية تورطه في شنّ هجمات بأسلحة كيميائية على مدينة اللطامنة شمالي حماة راحَ ضحيتَها مدنيون. وذلك بتعليق “حقوق وامتيازات” النظام داخل المنظّمة، ومن ضمنها حقه في التصويت، وهي -كما تعلمون- العقوبة القصوى المسموح للمنظّمة اتّخاذها ضد الدول الأعضاء فيها. ما هي قراءتكم لهذه الخطوة السياسية من قِبل منظّمة دولية على طريق محاسبة بشار الأسد وأركان حكمه من مرتكبي الجرائم؟ وما الخطوات التالية التي يجب على الحقوقيين السوريين القيام بها لمحاسبة مرتكبي هذه الهجمات بأسلحة محرّمة دوليًا؟

الحقيقة أنّ هذه الخطوة الإدارية ذات بعد سياسي واضح، فالأمر يصبّ بالنهاية في خانة التضييق السياسي على نظام الأسد، ما دامت أبواب الإحالة على المحكمة الجنائية الدولية مقفلةً بسبب الفيتو الروسي الصيني. لكنها لا تعتبر خطوة إجرائية في طريق محاسبة مرتكبي الانتهاكات والجرائم الخطيرة في سورية، فلا علاقة لهذا الأمر لا من قريب ولا من بعيد بجهود الملاحقة القضائية للمجرمين. أما ما يمكن للحقوقيين السوريين القيام به فهو كثير، من ذلك متابعة عمليات توثيق الانتهاكات، ومتابعة عمليات تطوير آليّات العمل والمؤسّسات والمنظّمات السورية العاملة بهذا الشأن، ومتابعة عمليات الملاحقة ضمن المجالات المفتوحة، وأهمها الولاية القضائية العامّة، واستمرار التعاون مع لجنة التحقيق الدولية الخاصّة بسورية ومع الآليّة الدولية المحايدة والمستقلة، كما يمكنها بشكلٍ خاصّ نشر الثقافة الحقوقية لدى غير المتخصّصين، بحيث يصبح لدى السوريات والسوريين معرفة أكبر بحقوقهم وأدوارهم التي يمكن أن يضطلعوا بها في هذا المضمار.

تقرير “كيمياوي اللطامنة” الصادر عن فريق تحقيق “منظّمة حظر الأسلحة الكيميائية” حدّد الجهة التي استخدمت السلاح الكيميائي (قوات الأسد الجوية)، لكنه حجب أسماء الشخصيات المسؤولة عن الهجمات، وخلا من ذكر أي آليّة لمحاسبة الجناة! فما هي أهميته، خاصّة أنّ المنظّمة الأممية لم تتخذ تاليًا أي إجراء لتتبع مرتكبي هذه الجرائم؟

تكمن أهميّة التقرير المذكور في أنه حدّد بدقّة كثيرًا من العناصر الدّالة على الجهة التي ارتكبت الجرائم، وهذا كافٍ بحدّ ذاته لاستخدامه كدليل في المستقبل، في حال فتح المجال أمام الملاحقات القضائية. وإنّ عدم الإشارة إلى أسماء الجناة أمر اعتيادي في مثل هذه الحالات، للحفاظ على الأدلّة ومنع النظام من الإجهاز على المتهمين لإعاقة العدالة. أمّا آليّات المحاسبة فهي تخرج عن اختصاص معدّي التقرير وعن اختصاص “منظّمة حظر الأسلحة الكيميائية” ذاتها. إنّ هذا الاختصاص معقود لمجلس الأمن فقط، وهذا ما لم يحصل، ولن يحصل، ما دام المجلس مغلقًا بسبب الفيتو الروسي الصيني. فلا يمكن لـ “منظّمة حظر الأسلحة الكيميائية” -حسب اختصاصاتها- أن تقوم بإجراءات للملاحقة أو المساءلة القضائية بحق مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب بواسطة استخدام السلاح الكيمياوي.

قوى الثورة عاجزة عن إفراز قيادة سياسية موحّدة

في سياق الحديث عن الوضع السياسي السوري الراهن، نسألكم: كيف يمكن -بتقديركم- استعادة المسار الثوري السوري الذي يشكّل جوهر الثورة السورية (الحرية والكرامة والديمقراطية)؟ وهل ثمة مرتكزات رئيسية؟

استعادة المسار الثوري السوري ليس بالأمر الهيّن، فالظروف التي توفرت عند اندلاع الثورة لم تعد متوفرة الآن، ولتوضيح ذلك سأقسمها لمجموعات مختلفة:

الظروف الداخلية، وهذه تغيّرت بشكلٍ هائل جدًا، فمن ناحية أولى، هناك انقسامٌ واضح في الشارع السوري بين جميع القوى المتصارعة، ليس فقط بينها، وإنما أيضًا داخلها وضمنها. فجبهة النظام ليست واحدة، وكذلك جبهة الثورة والمعارضة، ومردّ ذلك بالأساس إلى ضياع الهُويّة السورية. ومن ناحية ثانية، هناك ضعف عامٌّ ووهنٌ أصاب جميع الأطراف المتصارعة، وأولها قوى الثورة. فباعتبارها تتشكّل أساسًا من شرائح واسعة وعريضة من الشعب السوري، وباعتبار أنّ هذه الشرائح بالأخصّ قد تعرّضت للقتل والتهجير والترهيب الممنهج، وباعتبار أنّ مجمل الشعب تعرّض للإفقار والإذلال والترهيب على يد النظام والميليشيات الطائفية والإرهابية، فقد خسرت هذه القوى (قوى الثورة) أهمّ أسباب قوتها. لقد توقفت حالة الانشقاق في صفوف النظام بشكلٍ كلّي، بل أصبحنا أمام ظاهرة بالاتجاه الراجع، بحيث عاد كثير من المنشقين لحضن النظام، وهذه العودة، على ضعفهًا عدديًا، كبيرة وقويّة في مضامينها ورمزيّتها معنويًا. يضافُ إلى ذلك كله عجز قوى الثورة عن إفراز قيادة سياسية موحّدة حائزة على الشرعية الوطنية والشرعية الثورية، وبالتالي عجزها عن خلق قيادة عسكرية ومدنية إدارية موحّدة تتبع القرار السياسي المركزي. صحيح أنّ النظام خسر أيضًا جزءًا كبيرًا من قوته، إلّا أنه ما زال يحتفظ بأهم عناصرها، ألا وهي التنظيم ووحدة القرار المركزي. كما أنه يحظى بدعمٍ سياسيٍ كبيرٍ من حلفائه، وبدعم اقتصادي وعسكري مشروط نوعًا ما.

الظروف الخارجية، وهذه لا يمكن لأيّ مراقب نكرانها أبدًا، فبعد ما شهدناه من انحسار لشرعية النظام الأخلاقية والسياسية في الساحة الدولية، مقابل تمدد الشرعيتين السياسية والأخلاقية لقوى الثورة، مما تمظهر بسحب كرسي الجامعة العربية من حكومة النظام، ومن ثم تقزيم حضوره من خلال قطع كثير من الدول علاقاتها الدبلوماسية معه، وفرض العقوبات المتتالية على أعضاء بارزين في قيادته، كما على بعض المؤسّسات التي يستخدمها في خدمة أجندته الإجرامية مثل “مصرف سوريا المركزي”، نجد الحالة العكسية هي الرائجة الآن. فالاتجاه الراهن الآن يوحي بعودة تدريجية للنظام إلى الساحة الدولية، حتى إن هناك ألعابًا بهلوانية للإبقاء على نسغ الحياة وشرايينها مفتوحة أمامه لمنع انهياره اقتصاديًا، فتحت مصطلحات مثل “التعافي المبكر”، يجري الآن إعادة تأهيل النظام أو على الأقل محاولة إعادة تأهيله. ليس بعيدًا عن الأذهان أيضًا الضغوط الكبيرة الممارسة عربيًا لإعادة النظام لاستلام مقعد سورية في جامعة الدول العربية. يشير السياق العامّ -ظاهريًا على الأقل- إلى ازدياد فرص النظام، على حساب فرص قوى الثورة.

ولا شك في أنّ قيم الثورة لم تمت ولن تموت، فهي قيمٌ إنسانية عليا لا يمكن اندثارها أو انقضاؤها أو تشوهها. لكن مما لا شك فيه أيضًا أنّ حوامل وروافع هذه القيم قد تضعفُ مرحليًا أو تتشوه أو تتحطم. لقد علّمنا التاريخ أنّ الانتصار حليف القيم العليا في النهاية، فمسيرة التنوير البشرية خَطَتْ خلال القرون الماضية خطوات كبيرة نحو العدالة والكرامة الإنسانية والمساواة، صحيح أنها بطيئة، لكنها بالمقابل ثابتة. لكنّ التاريخ أعطانا أيضًا دروسًا واضحة بأنّ هذا لا يأتي بسهولة، ولا بدون نضالٍ، ولا بأوقات ومواعيد معلومة. هذا يعني أنّ علينا التحضّر للموجات القادمة من الثورة، وما فعله نظام الأسد، وما رمى إليه من عمليات التهجير الممنهج، لا ينحصر فقط في مشروع التغيير الديموغرافي، بل يكمن أساسًا في تحطيم الحوامل الرئيسة للموجات القادمة من الثورة، فباعتقاده أنّ إقصاء نسبة كبيرة من فئات اجتماعية محدّدة خارج سورية، سيحدّ من فاعليتها الثورية في المدى القريب والمتوسط على الأقل، كما إنّ إفقار باقي فئات الشعب سيقضي على أي إمكانية لثورات أو موجات لاحقة، وهذا صحيح بشكلٍ كبير، لكن على المدى البعيد الأمور مختلفة، ولا يمكن توقعها أو توقع مساراتها الآن.

الإمكانيات لتصحيح مسار الثورة ما تزال مع ذلك قائمة، فالقوى السورية التي تمّ تهجيرها بشكلٍ ممنهج، وخاصّة تلك التي وصلت منها إلى أوروبا وكندا وأميركا، قاربت على التحرر من قيود المراحل الأولى في مجتمعاتها الجديدة، وبات من الممكن الآن إعادة العمل معها وضمنها، لجمعها وتنظيمها وإعادة تفعيل دورها الثوري. سيكون ذلك من أولى مهام وواجبات الجاليات السورية القديمة في هذه الدول، حيث تتمتع بالقوة والمعرفة والخبرات الكافية للقيام بهذا الأمر. ويمكننا أيضًا العمل على تطوير القوى السياسية والثورية التي ما تزال حاضرة في المشهد السوري، ولا بدّ هنا من تغيير الخطاب الذي مال غالبًا باتجاه الشعبوية والغوغائية والارتجالية، لنصل إلى خطاب سياسي عقلاني منطقي يراكم على الحقائق ويقدّر موازين القوى، دون أن يقفز في الأوهام وأن يطير مع الأحلام.

ثمّة حراك سياسي متنامٍ على الساحتين الداخلية والخارجية، ضمن صفوف قوى الثورة والمعارضة، وهذا يمكن تعزيزه من خلال تجميع القوى والجهود. يعمل المجلس السوري للتغيير” من خلال خطّة إستراتيجية واضحة على هذا المسار، وهناك العديد من القوى التي تشاطره هذا المذهب. سيكون لدينا في النهاية نتائج واضحة بهذا الخصوص، لكن لا أحد يعلم كيف وأين ومتى، فالمهم هو المحاولة، وكما قال مهدي عامل “لستَ مهزومًا ما دمتَ تقاوم”. وهناك جبهة العمل الحقوقي الكبيرة التي لم نقم باستثمارها بشكلٍ كامل بعد، وهناك مسارات المناصرة التي يمكن العمل عليها، حقوقيًا وإعلاميًا وثقافيًا وحتى سياسيًا بشكلٍ كبير، لو امتلكنا إرادة فاعلة.

هل أنتم من أنصار الاستمرار في التفاوض مع النظام؟ وهل أنتم مع ضرورة تشكيل مظلة جامعة للمعارضة السورية، بعد أن ثبت فشل مؤسّسات المعارضة الممثّلة للشعب السوري في المحافل الدولية، والتي يزيد عمرها اليوم عن عقد من الزمان؟

التفاوض لا يكون بين الأصدقاء، فما بين هؤلاء يقع الحوار والنقاش والتفاهم والتعاون. التفاوض يتم بين الأعداء، والنظام عدو الشعب السوري، ونحن جزءٌ من هذا الشعب، ونرى أنّ التفاوض مع عدونا ومع داعميه قد يوصلنا إلى خارطة طريق في النهاية. لكن يجب التأكيد على نقطة أساسية في هذا الموضوع، وهي أنّ النظام غير قابل للإصلاح ولا للتأقلم ولا للتعديل ولا للتغيير إلّا نحو الأسوأ والأكثر فسادًا وتشددًا وهمجية. لذلك فنحن لا نرى في التفاوض طريقًا لتغيير النظام أو سلوكه، وإنما محاولة لتفكيك جبهات النظام التي يقاتل عليها، وتفكيك عناصر قوته وحاضنته داخليًا، وسحب عناصر قبوله ودعمه خارجيًا.

من هنا، وجب علينا التنبيه إلى أنّ خلق المؤسّسات السياسية البديلة للموجود حاليًا هو أحد الأهداف المرحلية، وأحد الأدوات بنفس الوقت لتغيير الواقع الراهن، وبالتالي لتعزيز فرص مواجهة النظام، سواء بالتفاوض أم بغيره من طرق السياسة والفعل الثوري المشروعة. بدون نهج جديد وخطاب آخر غير السائد حاليًا، لا يمكننا الانتصار في معارك الكرامة والحرية التي خضنا غمارها وما نزال.

في حالة التفاوض بين الأطراف السورية (النظام والمعارضة السياسية والعسكرية وقوى الممثّلة للمجتمع المدني)، أين نذهب بالعدالة الانتقالية؟

بحث العدالة الانتقالية بحثٌ كبير لا يمكن التطرّق إلى جميع جوانبه الآن وضمن هذا السياق، وقد قدّمت شخصيًا مساهمة مكتوبة بهذا المجال لمركز حرمون ضمن إطار “برنامج الحوار الوطني” الذي يقوم به المركز، وقد ترى طريقها للنشر قريبًا. لكن يمكن القول إنّ شكل العدالة الانتقالية في أي بلد أو مجتمع، لا في سورية وحدها، يتحدّد بكل بساطة بشكل الحلّ النهائي الذي تتفق عليه أطراف الصراع والقوى الإقليمية والدولية الفاعلة فيه.

ومن المفيد في هذا المضمار التأكيد أنّ الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والجرائم الدولية الخطيرة لا تسقط بمرور الزمن، فهي لا تتقادم ولا تمرّ عليها مفاعيل النسيان، وفق القوانين الدولية وخاصّة قوانين حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي، وهذا يعني أنّ الفرصة تبقى متاحة لملاحقة مرتكبي الانتهاكات من جميع الأطراف، ولو بعد عقود طويلة. لدينا مثال واقعي في ألمانيا الآن، فما زالت الملاحقات القضائية لمجرمي العهد النازي جارية حتى اللحظة، فبالأمس القريب افتُتحت محاكمة أحد المجرمين الباقين على قيد الحياة، بالرغم من بلوغه المئة عام، ومن مرور أكثر من 76 عامًا على سقوط النازية.

بلا شكّ، ستبقى الجروح مفتوحة، ولن يكون التعافي من هول المأساة سهلًا دون وجود نهج متكامل للعدالة الانتقالية، يأخذ حقوق الضحايا وشواغلهم في الصميم منه، ويضرب على يد المجرمين ويمنع الإفلات من العقاب، ويخلد ذكرى الضحايا، ويعيد إصلاح مؤسّسات وأجهزة الدولة، ويعيد بناء منظوماتها الدستورية والتشريعية والحقوقية، ومن ثم مجمل بنيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لكن التاريخ لا يتوقف، ويجب أن نحاول الحصول على ما يمكننا من أجل التقدّم نحو الخلاص من هذه المحنة التي تعصف بنا بشكلٍ خطير، فما لا يُدرك كلُّه لا يُتركُ جُلُّه.

ما موقفكم من التسويات التي حصلت مع النظام في مدن وقرى الجنوب السوري، والتي تحصل اليوم في دير الزور؟

هذه التسويات نهجٌ متوقع، فسيطرة النظام، بمساعدة حلفائه الروس، خاصّة على المناطق المختلفة التي خرجت سابقًا من قبضته، تفترضُ كخطوةٍ لاحقةٍ نزع أنياب ومخالب القوى الثائرة والقوى المجتمعية التي قاومته وثارت عليه. يظنّ النظام أنه بهذا سيمنع قيام موجات لاحقة من الثورة، وهذا صحيح جزئيًا، لكنّ أشكال المقاومة الفردية والجماعية لا يمكن توقعها، بالرغم من الضعف المحكي عنه سابقًا في بنية المجتمع السوري عمومًا والمجتمع الثائر خصوصًا. ولهذا فإننا -في “المجلس السوري للتغيير– ننظر إلى التسويات من هذه الزاوية، ونتعامل مع أعضاء المجلس في الداخل، ومع أهلنا هناك أيضًا، من منطلق أنهم مجبرون على القيام بها، وفق معادلات موازين القوى الحالية. لكننا لا نعتبر هذه التسويات مصالحة مع النظام، ولا هي قبول به ولا هزيمة أمامه ولا استسلام له. إنها مرحلة ويجب تجاوزها بأقلّ الخسائر، ويجب العمل على التأقلم مع الظروف الراهنة، بحيث يكون الحفاظ على أرواح أهلنا في الداخل في المركز والصميم من نهجنا وعملنا ونشاطنا.

سؤالي الأخير لكم؛ ما هي برأيكم أولويات السوريين الآن؟ وهل يحتاج السوريون اليوم إلى “ربيع سوري” جديد؟

السوريون بحاجة -بكل تأكيد- إلى ربيع سوري جديد، وأولوياتهم كثيرة جدًا، ويمكن أن نلخصها بما يلي:

* إعادة بناء الهُويّة الوطنية السورية.

* إعادة صياغة العقد الاجتماعي السوري، بناءً على تعريف الهُويّة السورية.

* إعادة بناء الدولة السورية الحديثة، دولة المواطنة وحقوق الإنسان، على أسس العدل والمساواة والكرامة، واستنادًا إلى تعريفات الهُويّة والعقد الاجتماعي.

* إعادة بناء الأمّة السورية الكاملة، بناءً على تعريف الهُويّة والعقد الاجتماعي السوريين، وضمن وعاء الدولة السورية الجديدة، وبعيدًا عن التشتت والتمزّق بين الانتماءات القومية والدينية.

هذه القضايا الكبرى تشمل -من بين ما تشمله- كلّ المتطلبات الرئيسة التي يحتاج إليها السوريون الآن، وعليهم العمل بلا توقف للوصول إليها.