مرّ عقدٌ ونيفٌ على الثورة السورية، ثورةٌ توصف اليوم بأنّها المستحيلة والمدهشة واليتيمة والأبهظ كلفةً، أنهت عقودًا من الاستبداد والطغيان الوطني والعسف والقهر والحرمان، وكسرت شعار «سوريا الأسد إلى الأبد»، الأمر الذي دفع بالابن الوريث لحكم الدكتاتور الانقلابي حافظ الأسد، مجرم الحرب بشار الأسد، وداعمي نظامه الطائفي الوحشي الفاسد، من روس وإيرانيين وميليشيات شيعية إرهابية، دفعه إلى جعل سورية تعيش منذ أكثر من عشر سنوات على وقع أحداث جسام لأحد أطول النزاعات في العالم في العصر الحديث. نزاعٌ أسفر، بعد نحو عقد على اندلاعه باحتجاجات سلمية، عن مظالم كبيرة دفعت الأممَ المتحدة إلى اعتبار سورية “الكارثة الإنسانية الأكبر” منذ الحرب العالمية الثانية، وكان أبرز تجليات هذه الكارثة ظهور إحصائية جديدة لعدد الضحايا، كشفت ارتفاع عددهم إلى نحو 700 ألف شخص، ما يعني ضعف العدد الذي تتداوله مؤسسات أممية. فضلًا عن ارتفاع قيمة الخسائر الاقتصادية إلى أكثر من نصف تريليون دولار أميركي، وإلحاق الضرر بنحو 40 في المئة من البنية التحتية، إضافة إلى انحدار نحو 86% من الناس في الداخل السوري، وعددهم قرابة عشرين مليون نسمة، إلى ما دون خط الفقر؛ ولم يعد غريبًا أن يأتي ترتيب البلاد المنكوبة في المرتبة 180 (من 189) في مؤشر «التنمية البشرية». وإزاء هذه الأوضاع الكارثية؛ يصبح من الملحّ الحديث عن المخارج والحلول الممكنة التي تلوح في الأفق الدولي، بعد أن غاب أي أفق سوري – سوري، الأمر الذي دعانا، في مركز حرمون للدراسات المعاصرة، إلى أن يكون ضيف هذه الفسحة الحوارية، المعارض السوري الإعلامي المهندس أيمن عبد النور، مؤسس موقع “كلنا شركاء”، والقريب من دوائر صُنّاع القرار الأميركي، وأحد أبرز الناشطين السياسيين في صفوف الجالية السورية في الولايات المتحدة، للحديث معه حول راهن ومستقبل الملف السوري، بكل تعقيداته وتشابكاته ومشكلاته، ولا يخفي ضيفُنا أنّ “الملفّ السوري في أسفل قائمة الأولويات الأميركية”، وأنّ “سورية ليست من الأوليات الأولى للمجتمع الدولي..”.
هنا نص حوارنا معه:
لتكن فاتحة هذا الحوار بسؤالك: من هو أيمن عبد النور؟ وما دوافعك الشخصية والعامة لانخراطك في العمل السياسي؟
مهندس مدنيّ، تخرجت الأول على دفعة عام 1986 من كلية الهندسة المدنية في جامعة دمشق، وأدّيت خدمة الجيش الإلزامية المفروضة على كل خريجي كليات الهندسة، ومدتها خمس سنوات، وذلك كمهندس مفرز في الكلية، حيث قمت بتدريس مواد عملية لطلاب السنتين الثانية والثالثة فيها، بعد ذلك عملت بالهندسة في القطاع الخاص، وأيضًا درست الاقتصاد، حيث تابعت دراستي في الاقتصاد بالبحرين، وعملت بعدها مع منظمات الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، كمدير لعدد من مشاريعها في سورية. وكنت عضوًا في معظم لجان الإصلاح الاقتصادية التي انطلقت في سورية منذ عام 1999 حتى 2002.
أما عن دوافعي الشخصية للانخراط بالعمل السياسي؛ فالحقيقة أن كلّ شيء في سورية، وفي الدول ذات طبيعة الحكم المماثلة، يحتاج إلى سياسة، فشراء تلفزيون ملوّن يحتاج إلى استثناء من وزير الصناعة، وتخصيص جرة غاز بسرعة يحتاج إلى استثناء من وزير النفط، وتسريع عملية قلب مفتوح يحتاج إلى استثناء من وزير الصحة، وهذه كلها سياسة. وأنا نشأت في منزل سياسي؛ فوالدي كان من أوائل مؤسسي “حزب البعث” في الأربعينيات، قبل أن تختطف الحزب مجموعة عسكرية طائفية، وكوني من السريان الآراميين الذين يعيشون في هذه الأرض من آلاف السنين؛ أشعر أنّ علينا واجب المساعدة بالبناء وتقديم خبراتنا والتضحية في سبيل هذا البلد الغالي.
الثورة السورية اليوم على مفترق طرق
هلّا أعطيتنا صورة أشمل عن عملك الإعلامي، وأخبرتنا عن أكبر التحديات التي تواجهها فيه.
بدأت التفكير في العمل الإعلامي عام 2003، بعد سقوط بغداد على يد القوات الأميركية، حيث وجدت أنّ سورية أصبحت محاطة بدول معظمها لديه انتخابات، وبدا واضحًا حينها أنّ رياح الديمقراطية ستأتي للمنطقة، وستصل إلى سورية، ويجب أن نكون مستعدين للتعامل معها. وكان أفضل حلّ للتغيير السياسي -برأيي- لتجنب ما جرى من العراق من دمار وغزو خارجي، هو أن يتم الإصلاح والاستعداد من الداخل، بمشاركة كل قوى المجتمع المدني السوري، للضغط للوصول إلى التغيير المنشود، وكان الطريق لذلك هو توفير المعلومات والأخبار الصحيحة عمّا يجري في سورية، وتأمين ما ينشر عنها من مقالات وتحليلات في الإعلام الغربي (المحظور في سورية)، وأن نترك للناس والمثقفين أن يحكموا ويقوموا بالتشبيك مع نظرائهم وبالتواصل مع بعضهم، لتشكيل أجسام سياسية أكبر، لذلك أطلقت خدمة عبر البريد الإلكتروني فقط، تتضمن كل ما ينشر عن سورية في الخارج مما يُمنع نشره في الداخل السوري، وكانت هذه أول وسيلة إعلامية في سورية -من نوعها- في ذلك الوقت، في الأول من أيار/ مايو 2003 .
كنّا نرسل الأخبار التي تخصّ سورية وتُنشر في كل وسائل الإعلام العربية والدولية حتى المعادية منها، حيث نجمعها بعديد من الصفحات كملفّ وورد، نرسله بالبريد الإلكتروني إلى حوالي 1500 شخصية فقط، وذلك في أول شهر، ثم صار الجميع يرسل إلينا عناوين البريد الإلكتروني لرفاقهم، ويطلبون منا أن نضيفهم إلى قائمة المراسلات، حتى بلغ العدد حوالي 15000 خلال ثلاثة أشهر، وأصبح لدينا قائمة تضمّ مسؤولين وأساتذة جامعات وإعلاميين ومثقفين، وكلّ المعارضين الذين كانوا في الداخل والخارج. وصارت الأسماء والجهات الجديدة تضاف تباعًا، وممّا جعل هذا العمل يحظى باهتمام الجميع أنّ المشاركات بالتعليقات على المقالات والأحداث كانت تأتي من الشخصيات المعارضة والمسؤولين بالحزب الحاكم والدولة أيضًا. وتطور عملنا بعد أشهر من البحث، وأصبحنا ننشر مواد ومقالات خاصة لنشرتنا، كان يكتبها المرحوم ميشيل كيلو وكبار شخصيات “إعلان دمشق”، جنبًا إلى جنب، مع مقالات من سفراء ومعاوني وزراء على رأس عملهم، تناقش كثيرًا من القضايا المهمة، ووصلنا إلى مرحلة أن نقيم ندوات لتناقش موضوعًا مهمًا، ويتم نشر خلاصة ما يجري فيها، كما حصل في بداية 2004، عندما نظمنا ندوة في القامشلي تتحدث عن آفاق إيجاد حلّ للمسألة الكردية في سورية، بمشاركة كثير من قيادات كلّ المكونات في الجزيرة السورية.
وبعد النجاح الكبير الذي حققناه عبر المراسلة بالبريد الإلكتروني؛ تبرع الأستاذ سمير عيطة، في شهر آب/ أغسطس 2003، وأمّن لنا موقعًا على شبكة الإنترنت نستطيع من خلاله وضع النشرة اليومية، بحيث يتم إرسالها من الموقع، ويمكن لأي شخص أن يفتح الموقع ويحصل على النشرة اليومية، واستمررنا في ذلك حتى الأول من عام 2007، حيث تحوّلنا إلى موقع إنترنت تفاعلي أطلقنا عليه تسمية “كلنا شركاء”.
الصعوبات هي استمرار وديمومة عمل الصحفيين معنا في الموقع، وذلك بسبب أنّهم ينتقلون بعد فترة للعمل في مؤسسات إعلامية كبيرة، طبعًا هذا كان يفرحنا، وأستطيع أن أؤكد أنّ معظم الصحفيين السوريين الشباب قد مرّوا وعملوا مدة في موقع “كلنا شركاء”. والمشكلة الأهم هي مشكلة تأمين الموازنة لدفع الرواتب والاستكتابات، وهذا أمر صعب في ظل عدم وجود جهة ناشرة تتبنى الموقع، فهو مستقل تمامًا عن أي تأثير، لذلك كان هناك صعود وهبوط بمبالغ التبرعات، حسب المتبرعين، وصولًا إلى نهاية عام 2016 حيث أغلقنا الموقع الإلكتروني، وأقتصر عملنا على صفحات التواصل الاجتماعي، وأصبح العمل كلّه طوعيًا مجانيًا.
كيف تنظر إلى العقد الأخير من عمر السوريين؟ وماذا عن وضع الثورة السورية اليوم؟ أين نحن؟ وإلى أين المسير؟
يمكننا القول إن العقد الأخير من عمر السوريين هو أخطر عشر سنوات مرت بتاريخ سورية المدون، فلأول مرة يتعرض وجود “سورية” ككيان لمثل هذا الخطر والتحديات الهائلة، التي يمكن أن تؤدي إلى تقسيم كبير للبلد، قد يصل إلى خمس مناطق، ما لم تُحسن النخب والقيادات السياسية المعارضة والموالية أن تصل إلى حلّ لما يجري، هذا هو الواقع الذي يجب أن نواجهه.
إن وضع الثورة السورية اليوم هو على مفترق طرق، وعلى السوريين أن يُفرزوا من بينهم قيادات تستطيع أن تحظى باحترام الداخل، وأن يكون لها وعي للتعامل مع الخارج بِلغته، وتملك الدعم الشعبي والكفاءة والحنكة السياسية، لتستطيع أن تطرح حلولًا قد تكون مؤلمة، إذ لا يمكن الحديث اليوم عن تحقيق كامل مطالب الشعب السوري دفعة واحدة، وكأنّنا نعيش وحدنا في هذا الكوكب، من دون أن يتم الأخذ بعين الاعتبار مخاوف دول عالمية وإقليمية، وإنّ عدم توفر هذا الفريق السياسي سيعيق الوصول إلى أي حلّ، وسيثبت الواقع الحالي على الأرض وقوى الأمر الواقع وأمراء الحرب، سنين طويلة أخرى، ريثما تتغيّر ظروف دولية وإقليمية، وهذا سيجعل الواقع الحالي حينئذ صعب التغيير، بسبب بناء شبكات المصالح من المستفيدين من كل الأطراف، مع وجود وسائل إعلام تدافع عن كل منطقة، ومن ثم ستتجه البلد إلى التقسيم إلى أقاليم، ويجب أن نسعى جميعًا لنحول دون وقوع ذلك، وأن نعمل على تخفيف آلام شعبنا.
مِن المعارضين المخضرمين مَن يقول إنّ المعارضة السورية ماتت سياسيًا، كيف تنظر إلى قوى المعارضة السياسية الآن، ومدى حضورها وتأثيرها في المشهد السياسي السوري، ونحن نشهد غيابها التام عن المحافل والاجتماعات السياسية الدولية التي تناقش الملفّ السوري بتعقيداته المتشابكة؟
الوضع الحالي هو أنّ متصدري المشهد في المعارضة السياسية تقريبًا قد استنفدوا الوقت، بالمناكفات الحزبية الضيقة، واستنفدوا رصيدهم الشعبي وتفويضهم، واستهلكوا الأوراق المتاحة لهم، وأصبح هناك رفض شعبي في كل المناطق للأجسام والتيارات والمنصات والقيادات الحالية. ما زال هناك جزء من القيادات الموجودة حاليًا تحظى باحترام لدى الشارع السوري، لكنها لا تستطيع أن تغيّر كامل مسيرة الأجسام والهيئات والأحزاب المنتمية إليها، مع الأسف، وذلك بعد تحوّل هذه الجهات إلى أجسام تابعة أو ممولة من دول محددة، ولا يمكن الاتكال عليها لإنجاز وتحقيق التغيير المنتظر الذي يطمح إليه الشعب السوري. ولذلك نرى أنّ كلّ القيادات السياسية، لكلٍّ من المعارضة والنظام، تبقى بعيدة عن الجلسات المهمة والاجتماعات التي يتم من خلالها تقرير مصير سورية.
نطالب بتعيين مبعوث أميركي خاص لسورية
بعد قمة جو بايدن وفلاديمير بوتين؛ هل يمكننا القول إنّ واشنطن تقترب أكثر من المقاربة الروسية في المسرح السياسي السوري؟

بعد قمة الرئيسين بايدن وبوتين، تم وضع أساس للحوار الإستراتيجي بينهما يشمل قضايا كثيرة كبرى، وهي قضايا إستراتيجية كبرى ما بين دولتين كبيرتين الولايات المتحدة وروسيا، وسورية تأخذ حيّزًا صغيرًا جدًا من تلك المحادثات، والمشكلة التي نحاول أن نتجاوزها -كجالية سورية في الولايات المتحدة- هي أن نجعل الملف السوري مستقلًا، وبعيدًا عن تأثير الملفات الأخرى عليه. ولنعترف أنّ الإدارة الأميركية لديها ملفات ومشكلات كبيرة داخليًا، سواء في الاقتصاد أو الصحة، وملفات دولية كبرى كملف المنافسة مع الصين، وملفات عالقة وإشكالية مع روسيا، مما يجعل الملف السوري في أسفل قائمة الأولويات، وهو ما تسعى الجالية السورية إلى رفعه لمرتبة أعلى، كي يحظى بالاهتمام وبالوقت اللازم له، وصولًا إلى تعيين مبعوث خاص لسورية، كما نطالب.
ويجب أن ندرك أنّ وجهات النظر حول سورية مختلفة، حتى في الدولة الواحدة، ففي الولايات المتحدة هناك وجهتا نظر، الأولى في وزارة الخارجية وعلى رأسها وزير الخارجية السيد أنتوني بلينكن، تتفهم قضايا الشعب السوري، وتعمل لإيجاد حلّ سياسي شامل لكل سورية، وفق قرار مجلس الامن الدولي 2254، وحلّ سياسي تبقى فيه سورية واحدة موحدة ذات استقلالية. وهناك فريق آخر في مجلس الأمن القومي الأميركي لديه علاقات جيدة مع الإدارة الذاتية الكردية شمال شرق سورية، وهذا الفريق يعمل على أن تكون “الإدارة الذاتية” نموذجًا ناجحًا ومتطورًا، قانونيًا وإداريًا، يتضمن حريات ونجاحات في مجال الاقتصاد، وتكون نموذجًا يمكن التعويل علية لتنفيذه لاحقًا في مناطق أخرى داخل سورية، ومن أجل تثبيت مبدأ اللامركزية الموسعة جدًا، وصولًا إلى ما تطالب به بعض الدوائر في الولايات المتحدة، وهو حكومة معترف بها دوليًا في منطقة شمال شرق سورية، كما في كردستان العراق. مقابل ذلك ما زالت وزارة الخارجية الروسية تعمل على أساس أنّه يمكن فرض حلّ سياسي في كامل سورية.
بينما ما زالت وزارة الدفاع الروسية تعتقد أنّ أمر إعادة توحيد كل سورية تحت إدارة واحدة مركزية أصبح صعبًا، وأنّه يمكن الوصول إلى اتفاقيات وقف إطلاق النار في مناطق مختلفة من سورية، كلٌّ منها يحظى باتفاقية أمنية وعسكرية مختلفة تضبط أمنه بشكل مستقل، مما يثبت الأمر الواقع وتتحوّل سورية إلى أقاليم متعددة. وإضافة إلى كل تلك التعقيدات، فإنّ المفاوض الأميركي لا يثق بالمفاوض الروسي، وروسيا لا تثق بالنيّات الأميركية، وبالتالي تم الاتفاق على خطوة مقابل خطوة، خطوة من روسيا يتم بعدها اتخاذ خطوة من الولايات المتحدة، لكن -مع الأسف الشديد- من دون وضع مخطط نهائي لهذه الخطوات المتتابعة، يكون هو هدف الحلّ السياسي المنشود.
بتقديرك، بعد تمثيلية الانتخابات الرئاسية التي أجراها بشار الأسد في أيار/ مايو الماضي؛ ما الخطوات التالية الضرورية في خريطة الطريق السياسية، والدور الذي يمكن أن تلعبه واشنطن والأمم المتحدة لإيجاد حلّ يُنهي القضية السورية؟
تم تكليف المبعوث الأممي الخاص إلى سورية السيّد غير بيدرسون،من أجل الوصول إلى حلّ توفيقي خطوة مقابل خطوة، وتشكيل لجان، وأن يطرح خاصة ملفّ المعتقلين وعودة اللاجئين، وأن يكون الحلّ وفق لجان عمل مشتركة سورية – سورية.
حسب معلوماتك، هل تواصل مسؤولون أميركيون من إدارة الرئيس جو بايدن مع المعارضة السورية ممثلة بـ“الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية” و“الهيئة العليا للمفاوضات”، منذ تولى بايدن منصبه في كانون الثاني/ يناير 2021؟ وما موقف إدارة بايدن من قوى المعارضة؟
المسؤولون الأميركيون من إدارة الرئيس بايدن يتواصلون بشكل دائم مع “الائتلاف الوطني” و“الهيئة العليا للمفاوضات”، وأيضًا مع “اللجنة الدستورية”، وقبل أسبوع كان هناك اجتماع مطوّل مع الشيخ سالم المسلط رئيس “الائتلاف الوطني” من قِبل معاونة وزير الخارجية المكلفة بالملفّ السوري السيدة إيمي كترونا، وعندما استلمت منصبها في شهر كانون الثاني/ يناير 2021، تواصلت كذلك مع قيادة الائتلاف الوطني” و“الهيئة العليا للمفاوضات”، وبشكل دائم هناك تواصل. برأيي، هذا شيء طبيعي، والأميركيون يتواصلون أيضًا مع كل القوى والتيارات والأحزاب السورية، ومع ناشطين على الأرض، سواء من خلال المركز في واشنطن أو من خلال السفارات الأميركية المكلفة بمتابعة الملف السوري، وهي السفارات الأميركية الموجودة في دول الجوار، من لبنان مرورًا بالأردن والعراق وتركيا ومصر وفي دول الخليج العربي وصولًا إلى السفارات الأميركية في أوروبا، لذلك هناك فريق كامل يعمل على الملف السوري، يتجاوز عدده 110 أشخاص موزعين في كثير من السفارات الأميركية في دول العالم، وتواصل هؤلاء مع المعارضة السورية يتم ضمن مبدأ معروف لدى الخارجية، مفاده أنّه يجب التواصل مع كل من له وزن أو تأثير بأي ملفّ في العالم.
تزامن إصدار وزارة الخزانة الأميركية إعفاءات للنظام السوري مرتبطة بمواجهة جائحة كورونا (كوفيد-19) مع الذكرى السنوية الأولى لدخول “قانون قيصر” حيّز التنفيذ. في وقت تتعالى فيه الأصوات المنتقدة لتعاطي الرئيس الأميركي جو بايدن مع الملف السوري، وتغاضيه -حتى نهاية تموز/ يوليو الماضي- عن فرض عقوبات مرتبطة بالقانون. كيف تنظر إلى هذا الأمر؟
بالنسبة إلى إصدار قائمة عقوبات في ظل إدارة الرئيس بايدن، الحقيقة كان هناك ضغط كبير من الجالية السورية التي التقت مع معاونة نائب الوزير مرتين آخر شهرين، وأيضًا التقت ستة أعضاء في الكونغرس، وثلاثة أعضاء في مجلس الشيوخ، وطلبت من الجميع الضغط على الإدارة بخصوص ثلاثة قضايا مهمة هي: أولًا، فتح المعابر، وذلك عندما كانت القضية معلقة قبل اتخاذ قرار مجلس الأمن الدولي 2585؛ ثانيًا، تعيين موفد أميركي خاص لسورية؛ ثالثًا، فرض عقوبات وفق “قانون قيصر” أو القوانين الأخرى على المجرمين من عناصر وأركان نظام بشار الأسد، ممن يرتكبون جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. لذلك كانت هناك استجابة، وتم الضغط بشكل كبير على روسيا وصولًا إلى التعاون في مجلس الأمن الدولي وفتح معبر “باب الهوى” لمدة عام، وأيضًا زيادة حجم المساعدات الإنسانية والطبية إلى كل المناطق في سورية، كما تم إصدار قائمة عقوبات على سجون النظام وإداراتها التي يتم فيها تعذيب وقتل المعتقلين.


“قانون قيصر” حجّم قدرات النظام وجمّد عمل داعميه
بتقديرك، إلى أيّ مدى يمكن أن يُسهم تطبيق “قانون قيصر” في الحد من قدرة بشار الأسد وغيره من الاستفادة من الصراع الدائر في سورية؟ وأيّ مشاريع إعادة إعمار في البلاد بعد انتهاء هذا الصراع؟
بالنسبة إلى “قانون قيصر”، كان هناك حرص حقيقي من الجالية السورية في الولايات المتحدة على أن يصدر القانون، خاصة أنّها عملت عليه بشكل مكثف لمدة أربع سنوات، ولكن على ألّا يتضمن أي ضرر لشعبنا وأهلنا في كل مناطق سورية ومنها مناطق النظام، لذلك كان هناك حرص على أن يتضمن القانون استثناءً للأغذية والأدوية والتجهيزات الطبية. ما يهمنا أنّ تطبيق القانون أدى إلى تخفيف موارد النظام وتقليل تأمين المحروقات اللازمة لجيشه لقصف وقتل المدنيين، وبالتالي قلّت العمليات العسكرية التي كان يقوم بها النظام. أيضًا كانت عقوبات “قانون قيصر” تشمل كل طرف ثالث يمكن أن يتعامل مع النظام، لذلك تم تجميد عمل الشركات الروسية والإيرانية والصينية التي كانت تتأهب لمساعدة النظام في عدد من القطاعات، وتأمين الموارد اللازمة له كي يستمر في قتل شعبه. وكذلك كان للقانون أثر بتجميد التطبيع مع النظام وفتح سفارات كانت بعض الدول تسعى له. أما بالنسبة إلى مشاريع إعادة الإعمار، فهناك اتفاق واضح علني بين كل الدول، سواء الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا وأستراليا، أو المنظمات الدولية من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، على عدم تأمين أي تمويل للنظام، وعدم السماح لأي شركات عربية أو دولية بالمساهمة في إعادة الإعمار في سورية قبل الوصول إلى الحلّ السياسي وفق قرار مجلس الأمن الدولي 2254.
ما تفكيرك حول ما يجب القيام به لمنع حدوث مجاعة وتفاقم الأزمة الإنسانية والمعيشية في الداخل السوري؟
مع الأسف الشديد، إنّ الوضع الاقتصادي السيّئ جدًا في مناطق النظام مرده النظام نفسه، والإجراءات التي يتخذها ضد المواطنين، وليس للقوانين أو لقوائم العقوبات. البعض يقول إنّ أركان النظام لا يهمهم أي عقوبات، وأنّهم غير مهتمين أو متأثرين بها، وأنّ النظام العراقي السابق وكذلك الإيراني تحمّلوا العيش تحت العقوبات عشرات السنين، وهذا ما يمكن أن يحدث أيضًا في حالة النظام السوري. لكن الحقيقة أنّ النظام هو من يقوم بزيادة الضغط على الشعب، وقد أعلن رئيس النظام علنًا في التلفزيون السوري أنّ الوضع الاقتصادي السيّئ هو بسبب انهيار المصارف في لبنان التي أضاعت حوالي 20 إلى 30 مليار دولار، كان يملكها رجال أعمال تابعون للنظام، وليس بسبب “قانون قيصر”، كما اعترفت أستاذة في كلية الاقتصاد في جامعة دمشق، بصراحة، بأنّها قد أرسلت إلى رئيس الوزراء قبل سنتين أي قبل إقرار “قانون قيصر” مذكرة تطلب فيها إعداد دراسة عن الآثار السلبية التي يمكن أن تنتج عن “قانون قيصر”، فيما لو تم إقراره في الكونغرس الأميركي وتأثيره على المجتمع السوري وتأثيراته الاقتصادية لتحضير أفضل السبل لتجاوزها، ومع ذلك لم يقرّ مجلس الوزراء إجراء تلك الدراسة، ويبدو أنّ ذلك من أجل أن يكون هناك ضغط على الشعب السوري، يتم استغلاله أو إظهار الصور للمجتمع الدولي والإعلام من أجل ابتزاز المجتمع الدولي في زيادة المساعدات، التي يقوم النظام بسرقة 40 إلى 50% منها، من خلال المؤسسات السورية التي تجبر منظمات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة بالتعامل معها.
هل ترى أجواء جديدة في المجتمع الدولي لاتخاذ إجراءات جماعية لتحسين الوضع في سورية، بخاصة بعد سلسلة القمم والاجتماعات الدولية والإقليمية الأخيرة الباحثة في الملف السوري؟
سورية ليست من الأوليات الأولى للمجتمع الدولي، فهي في أسفل القائمة، ونعمل كجالية سورية في أميركا، بالتعاون مع الجاليات السورية في أوروبا، من أجل تشكيل لوبي في أوروبا داعم لرفع أولوية الملف السوري، ولتحظى المسألة السورية بعناية أكبر، ليس فقط على الصعيد الإنساني، فالشعب السوري لم يطلق ثورته من أجل المطالبة بالخبز، بل للمطالبة بالحرية والكرامة. من هنا دائمًا، يتم التشديد على الحلّ السياسي السريع، وليس فقط معالجة الملف بأبر تخدير من المساعدات الإنسانية. أستطيع أن أؤكد أنّ هناك نفسًا جديدًا، بدأ يتشكّل على الصعيد الدولي، بعد عشر سنوات من عمر الثورة، وهو أنّ نظام بشار الأسد لا يريد أن يساعد المجتمع الدولي في أي حلّ سياسي، ولا يريد أن يتعامل مع الشعب كمواطنين بل كعبيد، وهذا ما سيدفع المنطقة باتجاه عدم الاستقرار. لذلك بدأت تتشكّل معالم تنسيق دولي باتجاه إيجاد حلّ سياسي يحقق مصالح الدول الفاعلة، ولكن أيضًا مع الأخذ بعين الاعتبار استقرار المنطقة، وتحقيق بعض مما يصبو إليه الشعب السوري الثائر ضد الاستبداد الأسدي.

من موقعك، ما تقييمك لأداء المبعوث الأممي الخاص إلى سورية السيد غير بيدرسون؟ وكيف تنظر إلى دعوته لتشكيل مجموعة جديدة للاتصال بشأن الأزمة السورية وضرورة تعاون المجتمع الدولي في الحلّ؟
بالنسبة إلى تقييم أداء المبعوث السيد غير بيدرسون الذي ورث عن سلفه السيد ستيفان ديمستورا “اللجنة الدستورية” والسلال الأربعة، لم يطوّر، ولم يُدخل أي مفهوم جديد أو مقاربة جديدة للملف السوري، بل اكتفى بأن يعمل فقط كميسر لـ“الجنة الدستورية”، كلما اجتمعت، من دون تقديم أي أفكار أو اقتراحات من شأنها أن تُحدث اختراقات في مسار الحلّ السياسي. هناك الآن اتفاق أميركي – روسي لإجراء مقاربة جديدة بفتح ملفات غير “اللجنة الدستورية”، كملفي المعتقلين وعودة اللاجئين السوريين لديارهم. وبالنسبة إلى دعوة تشكيل مجموعة جديدة، أعتقد أنّه سيطرحها السيد بيدرسون، وستكون بمتابعة أميركية – روسية مباشرة، وستضمّ الاتحاد الأوروبي والدول الإقليمية والعربية، وسيتم من خلالها فتح ملفات أخرى، ليس فقط “اللجنة الدستورية”، بل العودة إلى السلال الأخرى، ومنها ملف المعتقلين وملف عودة اللاجئين، ومن خلالها سيتم تباعًا إيجاد حلّ يعني خطوة مقابل خطوة.
الوجود الإيراني في سورية صعب الاقتلاع
يومًا بعد يوم، نشهد انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في سورية من كل أطراف النزاع، ليس آخرها القصف الذي استهدف مستشفى مدنيًا في مدينة عفرين (شمال سورية). هل تعتقد أنّه يمكن للمنظمات الحقوقية السورية بمساعدة المجموعة الدولية فعل أي شيء لمحاسبة مرتكبي هذه الانتهاكات؟
بالنسبة إلى انتهاكات حقوق الإنسان، فإنّ قائمة العقوبات الأخيرة التي أصدرتها الولايات المتحدة والنص المرافق لها الصادر عن وزارة الخارجية، والتي شملت فصيلًا من الجيش الوطني وأفرادًا ينتمون إليه، توضح أنّ سياسة إدارة الرئيس جو بايدن ستعمل على ملاحقة كل منتهكي حقوق الإنسان، من أي طرف أو تنظيم، سواء أكانوا من فصائل الجيش الوطني أو من فصائل الأكراد أو من النظام. ويمكن لمنظمات حقوق الإنسان السورية الفاعلة تقديم وثائق ودراسات وصور توثق كل الانتهاكات، وسيمكن هذا من التعامل معها وإصدار العقوبات الأميركية والدولية المناسبة لها.
ماذا عن مستقبل الوجود العسكري الإيراني في سورية، خصوصًا في حال اتفاق أميركا وإيران على العودة إلى الاتفاق النووي، وربط ذلك بملفي التطبيع العربي وعودة دمشق إلى الجامعة والمساهمة في إعمار سورية؟
الوجود العسكري الإيراني عميق ومتجذر وموجود منذ عشرات السنين بطرق مختلفة، فإيران دائمًا تعمل بشكل سري، إذ تستخدم جنودًا على الأرض كميليشيات من أبناء البلد، ممن تشيعوا دينيًا أو سياسيًا، وكذلك عبر تقديم خدمات اجتماعية، كالمشافي والمراكز الثقافية وتقديم منح جامعية، وأيضًا من خلال الخدمات التي تقدمها الحسينيات، وهذا ما يؤدي إلى وجود ناس تابعين لها، كما تعمل على توطين أشخاص إيرانيين ليحصلوا على الجنسية السورية، وكما لاحظنا من ترشّح شخصية إيرانية لمجلس الشعب السوري العام الفائت، من عائلة “كرمنشاهي” التي مضى على وجودها في سورية عشرين عامًا فقط. كما تقوم طهران بربط مصالح عدد من الأشخاص ورجال الأعمال السوريين بإيران، وبالتالي يصبح الوجود الإيراني صعب الاقتلاع، لأنّه ليس مجرد وجود لجنود، إذ حتى لو تم إخراج الميليشيات العراقية والأفغانية من سورية، فإنّ بقاء المدنيين والناس المرتبطة مصالحهم بإيران والمجموعات المنظمة والحزبية المتشيعة سياسيًا، سيكون كافيًا للتأثير والنفوذ الإيراني السياسي، كما يحصل في لبنان والعراق واليمن. أعتقد في النهاية سيتم إخراج الميليشيات التابعة لإيران من سورية، ولكن العمل سيبقى للحد من تأثيرها السياسي، باستخدام سوريين مرتبطين بها.
متى تتوقع انعقاد مؤتمر دولي لإعمار سورية؟ وما شروط المساهمة الأميركية في إعمار سورية؟
انعقاد مؤتمر إعادة إعمار سورية لن يحصل إلّا بعد المضي قدمًا في الحلّ السياسي، وذلك لإيجاد المناخ الذي يؤمن لرجال الأعمال والمنظمات الكبرى الحفاظ على الأموال التي سيستثمرونها. البعض يقترح بأن يكون المؤتمر وتأمين الأموال بعد تشكيل هيئة الحكم الانتقالي، والبعض (ومنهم روسيا) يرون أن يُعقد المؤتمر كبادرة بناء ثقة بعد السير خطوات باتجاه الحلّ السياسي.
في الختام؛ هل ترى أملًا في انفراج قريب للقضية السورية، في ظل ما يصفه البعض بارتهان معظم الأطراف السورية السياسية لدول إقليمية ودولية لا تبحث إلا عن مصالحها الذاتية؟
هناك وعي حقيقة الآن، يتشكّل لدى الشارع السوري، بأنّ الحلّ لا يمكن أن يأتي من خارج سورية؛ فالدول ليس جمعيات ومنظمات خيرية، بل هي تبحث عن مصالحها، ومهما كان الحلّ الذي سوف تقترحه فلن يكون مناسبًا أو مطابقًا لمصالح الشعب السوري، لذلك يجب أن يكون هناك اختيار للقيادات السياسية ذات الكفاءة العالية لتحقق طموحات الشعب، ويكون لها امتداد واحترام داخليًا، ولها وزن وحضور دولي أيضًا يمكّنها من أن تحضر على طاولة المفاوضات، ومن ثم تضع مطالب الشعب كأولوية في هذه المفاوضات، وصولًا إلى حلّ يصبّ في مصلحة البلد، أو يقترب منها على الأقل. ضمن هذا المناخ العام، أعتقد أن هذا الوعي سوف يفرز قيادات جديدة من خلال مؤتمرات ومجموعات مختلفة، هذه المؤتمرات سوف تطرح أمام المجتمع الدولي قيادات جديدة تعمل، بالتنسيق مع الأجسام الحالية الموجودة، وفي كل الأحوال، إنّ العمل سوف يكون للتنافس حول من يقدّم الأفضل للشعب السوري الذي يرى كلّ شيء بعينه ويحفظه في ذاكرته الجمعية، وأعتقد أنّ الحلّ لن يكون بعيدًا جدًا، لكنّه لن يكون كما ينشده الشعب السوري مئة بالمئة.