يحلُّ الناشط الحقوقي المحامي والمعتقل السياسي السابق إبراهيم القاسم، مسؤول (مجموعة ملفات قيصر)، ضيفًا على مركز حرمون للدراسات المعاصرة في هذه الفسحة الحوارية.
القاسم، المقيم في ألمانيا حاليًا، هو عضو مؤسّس لـ (مجموعة ملفات قيصر)، وعضو (المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان)، ومتعاون مع عدد كبير من المنظمات والمراكز والهيئات والمؤسّسات والروابط الحقوقية السورية، ومنها (المركز السوري للدراسات القانونية)، وهو من الوطنيين السوريين المؤمنين بأنه “لا يمكن أن يكون هناك سلام في سورية بدون عدالة، ولا عدالة بدون محاسبة”.
ضيفنا بدأ بمتابعة الانتهاكات والتحقيقات في ألمانيا منذ عام 2011، لتبدأ (التحقيقات الألمانية) بشكلٍ رسمي في 2012، ثمّ أصبح عمله أكثر تحديدًا في عام 2016 مع (المركز الأوروبي) مسؤولًا عن تشكيل الملفات والقضايا، ليتمّ عقب ذلك تقديم شكاوى جنائية في ألمانيا والسويد والنروج والنمسا وفرنسا، كما تمّ إصدار مذكرات توقيف دولية، في ألمانيا وفرنسا، بحقّ عدد من كبار مسؤولي الحكم في النظام السوري؛ مثل اللواء جميل الحسن (رئيس إدارة المخابرات الجوية السورية منذ عام 2009، حتى تمّوز/ يوليو 2019)، واللواء علي مملوك (مدير مكتب الأمن الوطني السوري)، والعميد عبد السلام محمود (رئيس فرع التحقيق في المخابرات الجوية، بمطار المزة العسكري). وفي هذا الحراك القضائي ضدّ نظام الأسد وأركان حكمه، قدّمت (مجموعة ملفات قيصر) آلاف الصور للضحايا الذين قضوا في الأفرع الأمنية الأسدية، بسبب التعذيب الوحشي أو ظروف الاعتقال السيئة. وشدد مكتب الادّعاء العامّ الفدرالي الألماني وهيئة محكمة “كوبلنز” على الأهمية الكبيرة لهذه الأدلّة ودورها في إجراءات المحاكمة.
وكان من أبرز مهمات (مجموعة ملفات قيصر) مساعدة السوريين في الوصول إلى معلومات عن أقاربهم المحتجزين والمختفين قسرًا، وكذلك تحقيق العدالة لجرائم الحرب السورية. وتأخذ المجموعة اسمها من اسم المصور العسكري المنشق، الذي كان مكلّفًا بتصوير الجثث الخارجة من مراكز التعذيب، والذي نجح في مغادرة سورية مع عشرات آلاف الصور التي تبرهن على الإساءات والجرائم التي اقترفها النظام ضدّ السوريين/ات، منذ اندلاع ثورة الحرّية والكرامة في آذار/ مارس 2011، وقد استُخدمت تلك الصور كدليل في محاكمة (فرع الخطيب) الأخيرة في محكمة “كوبلنز” الإقليمية في ألمانيا. ويدرس القاسم في برنامج (OLIve) في مجال حقوق الإنسان (BCB) في ألمانيا، وهو برنامج إعدادي جامعي للاجئين.
في حوارنا هذا مع الناشط الحقوقي السوري إبراهيم القاسم، توقفنا عند الدور الذي يقوم به اليوم من مكانه في منفاه الألماني، خدمة لمسار العدالة الانتقالية والمحاسبة وملاحقة مرتكبي الجرائم في سورية، وعمل (مجموعة ملفات قيصر)، وكذلك عن السبل والآليّات التي تفضي إلى محاكمة بشار الأسد وأركان حكمه ممن ارتكبوا جرائم ضدّ الإنسانية وجرائم الحرب في المحاكم الأوروبية، في ظلّ محدودية مبدأ الولاية القضائية العالمية. وتطرّقنا في حديثنا معه إلى عدد من المسائل الحقوقية والسياسية، وفي مقدّمتها الدعوى المنظورة أمام محكمة “كوبلنز”، بعد توقيف الضابط السابق “أنور رسلان”، وصفّ الضابط “إياد الغريب” الذي أدين بالمساعدة في ارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية في أثناء عمله في (فرع الخطيب)، والحكم عليه بالسجن بعد تخفيف مدّة العقوبة إلى أربع سنوات ونصف، وذلك بعدما قرّرت المحكمة الفصل بين الادّعاء على المتّهمين.
هنا نص الحوار:
إبراهيم القاسم، من معتقل سابق في سجون النظام الأسدي إلى محامٍ منشغل بمتابعة الانتهاكات والتحقيقات في ألمانيا منذ عام 2011، ليكون في عام 2016 ناشطًا مع (المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان) الذي من مهماته تشكيل الملفات والقضايا. ماذا تخبرنا أكثر عن سيرتك ومسيرتك الحقوقية، وعن الدور الذي تقوم به اليوم من مكانك في منفاك الألماني خدمة لمسار العدالة الانتقالية والمحاسبة وملاحقة مرتكبي الجرائم في سورية؟
معروف لكلّ مواطن سوريّ أو لأيّ شخص يعيش داخل سورية، أو لمن يقوم بزيارتها بشكلٍ مؤقّت، أنّ الوضع السيئ على كل جوانب الحياة، ومنها حقوق الإنسان، هو إحدى عواقب استمرار حكم النظام في سورية منذ عقود. ولكوني محاميًا ساعدتني مهنتي ودراستي للقوانين في مقاربة هذا الواقع السيئ من وجهة نظر قانونية، وأوضحت لي ما هي الإجراءات التي يجب القيام بها لوقف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في سورية. ومن قبل بداية الثورة حتّى الآن، لم أنتمِ إلى أي جهة سياسية، ولم يكن لي أي نشاط سياسي رسمي، ولكن موقفي كان جليًا بمعارضتي لكلّ ما يجري من انتهاكات، مع ترقب للفرصة المواتية لانتزاع حقوقنا. لذلك لم أتوانَ للحظة عن المشاركة في التظاهرات السلمية منذ بدايتها في دمشق، وبدأت مشاركتي بمحاولة تصوير التظاهرات وتوثيق العنف الذي يواجهه المتظاهرون من قبل الأجهزة الأمنية، مع العمل على تقديم المساعدات الإنسانية. كما قمتُ -بالتعاون مع زملاء محامين/ات- بتنظيم اعتصاماتٍ داخل القصر العدلي، وبمساعدة المعتقلين/ات الذين يتمّ تحويلهم إلى محاكم مدينة دمشق، وبالتواصل مع المنظمات الدولية والأممية والسورية لتوثيق الانتهاكات. وتعرّضت في تلك الأثناء لتهديدات ولمحاولات اعتداء بالضرب من قبل محامين “شبيحة”، وكانت النتيجة اعتقالي مدةً في (فرع فلسطين) في الربع الأخير من عام 2011، بعد تلقي تهديد مباشر من وزير العدل بتحريك ادّعاء بحقّي أمام (محكمة الإرهاب)، بسبب عملي التطوعي بدعم المعتقلين/ات. وبعد إطلاق سراحي، تابعت نشاطاتي السابقة، وغادرت سورية إلى لبنان في آواخر عام 2014، حيث تابعت العمل على توثيق الانتهاكات في سورية.
في بداية عام 2016، حصلت على فرصة التدرّب في (المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان) في برلين لمدّة ثلاثة أشهر، وذلك بسبب عملي التطوعي كمحام أعمل على توثيق الانتهاكات، يومها لم أكن قد أعلنت بعدُ تأسيس (مجموعة ملفات قيصر) مع المصور العسكري “قيصر”، وصديقه “سامي”، حيث كان عملنا يتّسم بالسرية الكاملة. بعد وصولي إلى برلين في بداية 2016، اقترحتُ على (المركز الأوروبي) التعاون مع المنظمات الحقوقية السورية، لوضع إستراتيجية لبناء الملفات القضائية في أوروبا، وتمّ الأمر من خلال تنظيمي لاجتماع تنسيقي في برلين، بين المركز والمنظمات السورية، حيث وُضعت الإستراتيجية، ثم تقدّمنا بشكاوى جنائية في ألمانيا ودول أوروبية عدة مثل السويد والنمسا وغيرها. وبعد أن عرض عليّ المركز العمل معهم بشكلٍ رسمي؛ أعلمت زملائي فيه بتأسيسي لـ (مجموعة ملفات قيصر) مع أصدقائي “قيصر” و”سامي” وآخرين، وبناءً على طلبي، أخفى المركز علاقتي بالمجموعة عن باقي المنظمات السورية الشريكة. عام 2016، كانت الانطلاقة لهذه الدعاوى، وكانت أولى الدعاوى التي عملنا عليها بالتعاون مع (المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان) هي دعوى العنف الجنسي والجنساني وجرائم التعذيب في سورية.
الدستور السوري الحالي يضمن للأسد الإفلات من العقاب
نرجو تعريف قرّائنا بعمل (مجموعة ملفات قيصر): النشأة والدور والغايات؟
(مجموعة ملفات قيصر) هي منظمة تطوعية غير ربحية، يعمل جميع أعضائها بشكلٍ تطوعي بالكامل، ولا نتلقى أي تمويل من أي جهة، سواء أكانت رسمية أم غير رسمية، وتعتمد المجموعة لتمويل أنشطتها على أعضائها. تمّ تأسيس هذه المجموعة في عام 2015، بعد أن تواصل معي “قيصر” و”سامي”، من خلال أصدقاء مشتركين، واتفقنا على تأسيس هذه المجموعة في سبيل دعم قضايا ضحايا الانتهاكات في سورية وعائلاتهم، مع الاستمرار بجمع الأدلّة والوثائق الكفيلة بمحاسبة مجرمي الحرب في سورية. ولا تزال المجموعة تعمل على ملفات عدّة، ليست على صلة بصور الضحايا التي سرّبها عضوا المجموعة “قيصر” و”سامي”، كالملف الكيمياوي والتهجير القسري وغيرها. وتستمرّ المجموعة في تواصلها مع المنظمات السورية والدولية والمؤسّسات التابعة للأمم المتّحدة ووحدات جرائم الحرب في العديد من الدول الأوروبية وغيرها.

كيف يمكن محاكمة بشار الأسد وأركان حكمه على ما ارتكبوه من جرائم ضدّ الإنسانية وجرائم الحرب في المحاكم الأوروبية، من قِبل عدد من المحامين السوريين والدوليين المناصرين ومنظمات المجتمع المدني السوري؟ ما السبل والآليّات، في ظلّ محدودية مبدأ الولاية القضائية العالمية؟
موضوع المحاسبة في سورية موضوع شاق ويحتاج إلى سنوات عديدة لتحقيق الغاية منه، حيث تحكمه القوانين المحلية السورية والوطنية والقوانين والاتّفاقيات الدولية المتعلّقة بحقوق الإنسان والجرائم الدولية. ووفق ذلك، لا يمكن في الوقت الراهن محاسبة رأس النظام السوري ومفاصله أمام القضاء السوري، بسبب سيطرة النظام على كلّ السلطات ومنها السلطة القضائية، وتحصين نفسه بالعديد من القوانين التي تضمن الإفلات من العقاب. وعلى الرغم من أنّ القوانين السورية لا تتضمن الجرائم الدولية، ولم يذكر الدستور السوري سموّ الاتّفاقيات الدولية على القوانين السورية، إضافة إلى التحفظات على أهم بنود الاتّفاقيات الدولية؛ فإنّ مجرد انضمام سورية إلى هذه الاتّفاقيات، وكونها عضوًا في الأمم المتّحدة، يلزمها بالالتزام بهذه القوانين والاتّفاقيات.
من جهة أخرى، لم تنضم سورية إلى المحكمة الجنائية الدولية، وأجهض الفيتو الروسي والصيني المحاولات في إحالة الملف السوري إلى هذه المحكمة أو إحداث محكمة دولية خاصّة. لذلك كان الخيار الوحيد المتاح حاليًا هو اللجوء إلى الدول الأوروبية التي يتمتع القضاء فيها بالولاية القضائية العالمية الشاملة التي يتيح القانون بموجبها للجهات المختصّة ملاحقة مجرمي الحرب الذين ارتكبوا جرائم في دول أخرى بحقّ مواطني دول أخرى.
هل هناك أرضية مشتركة بين المنظمات والمراكز والهيئات والمؤسّسات والروابط الحقوقية السورية في أوروبا بشكلٍ عامّ، وفي الساحة الألمانية على وجه الخصوص، لإنجاح الخطوات المختلفة للنضال من أجل العدالة من أجل سورية؟
هناك تعاون -بشكلٍ أو بآخر- بين هذه المنظمات. عندما بدأنا هذا العمل، كانت الفكرة الأساسية لدينا في (مجموعة ملفات قيصر) هي تعزيز العمل المشترك مع جميع المنظمات ذات الشأن، لذلك قمنا بدعوة هذه المنظمات والمراكز والهيئات والمؤسّسات والروابط الحقوقية السورية،للتعاون مع (المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان) في عام 2016، بعد أن بدأنا هذا التعاون مع المركز بشكلٍ عملي ورسمي. لكن مع الأسف، مع مرور الوقت، بدأت بعض هذه المنظمات والناشطين بالعمل على إقصاء الآخرين ومحاولة الاستئثار بالعمل. وكانت هذه التصرفات غير المسؤولة هي أحد الأسباب التي دعت (مجموعة ملفات قيصر) للظهور إلى العلن أكثر، لأنّ محاولات البعض طمس تفاصيل الحقائق هو أمرٌ مناف للعدالة، المفترض من هذه المنظمات مساعدة الضحايا في الوصول إليها. لذلك، من وجهة نظري، أرى أنّ واقع الحال في منظمات المجتمع المدني لا يختلف عنه في أجسام المعارضة، سواء السياسية منها أو العسكرية.
صور “قيصر” كشفت حجم المأساة وبشاعة جرائم النظام
ذكر تقرير أعدّته (الشبكة السورية لحقوق الإنسان)، ونُشر نهاية نيسان/ أبريل الماضي، أنّ قوات نظام الأسد نفّذت 184 هجومًا كيميائيًا بعد مصادقة الحكومة السورية على اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية في أيلول/ سبتمبر 2013. وفي الآونة الأخيرة، صوّتت 29 دولة (في مقدّمتها روسيا) ضدّ قرارات منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، ما يعني أنّ تصويتها يدافع عن استخدام النظام للأسلحة الكيميائية ويشجع على استخدام هذه الأسلحة المحرّمة دوليًا في العالم. سؤالنا: كيف يمكن التصدّي -سوريًا ودوليًا- لنظام الأسد الذي يواصل ارتكاب المجازر والقتل بالأسلحة الكيميائية، وهو يعتبر نفسه خارج نطاق المساءلة بعد انتهاك “الخط الأحمر” الذي وضعه الرئيس الأميركي الأسبق بارك أوباما في 2013، وهو استخدام نظام الأسد للسلاح الكيمياوي؟
بداية، أود أن أنبّه إلى أن أي إحصائيات أو أرقام تصدر عن المنظمات والجهات المعنية، هي أرقام وإحصائيات استطاعت الوصول إليها، وليست الواقع الحقيقي لحجم الانتهاكات. إنّ سورية عضو في منظمة الأمم المتّحدة، وهي منضمّة إلى العديد من الاتّفاقيات الدولية، ومنها اتّفاقية حظر استخدام الأسلحة الكيمياوية، وهذا يرتب عليها التزامات عديدة، وإن وجود لجان تحقيق دولية خاصّة بتوثيق الانتهاكات في سورية، ومنها استخدام الأسلحة الكيمياوية، هو ضمانة حقيقية لمحاسبة هذا النظام، كون هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم، مهما طال الزمن. لذلك يمكن القول إنه في الوقت الحالي يمكن اللجوء إلى المحاكم الأوروبية الوطنية التي تتمتع بالولاية القضائية العالمية الشاملة، وبالتوازي الاستمرار في العمل على توثيق هذه الجرائم، من خلال التعاون مع المنظمات الدولية والأممية المعنية بذلك، وهذا ما دأبنا على القيام به في (مجموعة ملفات قيصر) منذ سنوات.

التقرير قال: إنّ روسيا تحوّلت إلى مشارك حقيقي في استخدام أسلحة الدمار الشامل ضدّ الشعب السوري، حيث إنّ قوات النمر (نسبة إلى العميد سهيل النمر) مدعومةٌ بشكلٍ مباشر من روسيا؛ وهذا يجعلها شريكة في هذا الهجوم الكيميائي. السؤال هنا هل يمكن للمنظمات والهيئات والمراكز الحقوقية (التي تتّخذ من البلدان الأوروبية مقار لها) رفع دعاوى ضدّ الروس وفي مقدّمتهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بتهمة ارتكابهم جرائم حرب؟ وهل عملتم في (المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان) لإعداد ملفات خاصّة بجرائم المسؤولين والضباط الروس في سورية خلال السنوات العشر الدامية؟
يمكن القول إنه منذ اليوم الأول كان لروسيا دور في ارتكاب هذه الجرائم في سورية بمجملها، بحكم العلاقة القوية والقديمة بين النظامين. ومن ضمن هذه الجرائم، استخدام الأسلحة الكيمياوية والمحرّمة دوليًا، ولم تخفِ روسيا يومًا هذا الدعم، حيث صرّح المسؤولون الروس مرّات عدّة باستخدامهم أسلحة جديدة في سورية. هذا التدخّل أصبح أكثر وضوحًا بعد الاتّفاقية غير المعلنة عام 2015، بين حكومتي النظامين. وسمح بموجبها النظام السوري للحكومة الروسية بالتدخّل في كلّ الشؤون السورية، ومنها التدخّل العسكري الذي أنقذ النظامَ من السقوط الكامل في عام 2015. وفي ما يتعلّق باستخدام السلاح الكيمياوي لا تختلف الحال، فهي أحد أشكال التدخّل الروسي. وأعتقد أنّ الدور الروسي في استخدام الأسلحة الكيمياوية يتجاوز مجرّد دعم قوات “النمر”. وفي ما يتعلّق بمحاكمة بشار الأسد أو فلاديمير بوتين، بصفتهما رئيسين، يجب الرجوع إلى القوانين الدولية التي تمنع محاكمة الرؤساء ما داموا على رأس عملهم، ولكن هذا لا يمنع من محاكمتهما مستقبلًا.
كشفت قناة (سي بي أس) نيوز الأميركية، في شباط/ فبراير الماضي، عن عملية تسريب آلاف الوثائق الحكومية إلى خارج سورية، وتولّت أرشفتها (لجنة العدل والمساءلة الدولية) المموّلة جزئيًا من الولايات المتّحدة ومن سوريين. ويضم هذا الأرشيف أكثر من 900 ألف وثيقة حكومية تمّ تهريبها من سورية، تحتوي على “أدلّة قوية تؤكّد تورط النظام السوري، وعلى رأسه بشار الأسد، في ارتكاب جرائم حرب ضدّ الشعب السوري”. سؤالنا كيف يمكن لـ (مجموعة ملفات قيصر) استثمار هذا الأرشيف لمساءلة نظام الأسد ومحاسبته؟
في ما يتعلّق بهذه الوثائق، يجب توضيح أنها ليست جديدة، كما تداولت الأخبار. أما في ما يتعلّق باستخدام هذه الوثائق، فإنّ الجهة المسؤولة عنها تقوم بالتعاون -حسب علمي- مع وحدات جرائم الحرب في أوروبا، لتبادلها في ما يتعلّق بالتحقيقات الخاصّة بسورية، وقد شهدنا تقديم بعض هذه الأدلّة في محاكمة “كوبلنز” الألمانية المتعلّقة بمحاكمة “أنور رسلان” و”إياد الغريب” عن الجرائم المرتكبة في (فرع الخطيب) في سورية. وتمّ تقديم بعض هذه الوثائق أمام القضاء الأميركي في قضية الصحفية الأميركية “ماري كولفين” (Marie Colvin)، التي قتلها النظام في مدينة حمص (وسط سورية) في شباط/ فبراير 2012. وإنّ هذه الوثائق -بحسب ما لدينا من معلومات- تمّت مشاركة بعضها مع الآليّة الدولية المحايدة المستقلّة الخاصّة بالتحقيق في سورية ((IIIM. من جهتنا في (مجموعة ملفات قيصر)، نسعى دومًا إلى مساعدة الضحايا وذويهم، لذلك نعمل على الوصول إلى أية أدلّة من شأنها دعمهم، أو من خلال وضعهم على تواصل مع أي جهة لديها أدلّة تساندهم في مطالبهم المحقّة.

إلى أي مدًى أحدثت وفرة صور قيصر تغييرًا في المزاج الأوروبي والأميركي العامّ؟
منذ بداية الثورة الشعبية في سورية، الدول الأوروبية والولايات المتّحدة الأميركية تقوم بجمع المعلومات والوثائق والأدلّة على ارتكاب النظام السوري للجرائم، ولم تكن هذه الدول بحاجة إلى الصور للقيام بواجباتها وتحمّل مسؤوليّاتها في حماية المدنيين في سورية، ولكن تخاذل الدول استمرّ سنوات، حتّى جاءت الصور لتكشف حجم المأساة وبشاعة جرائم النظام، وهذا ما وضع هذه الدول تحت الضغط للقيام بواجباتها، والبحث عن حلول عملية لوقف الجرائم في سورية. ومع ذلك كلّ ما قامت به هذه الدول لم تكن حلولًا جذرية، بل كانت حلولًا مؤقّتة تساعدها في إدارة النزاع في سورية، وذلك لتبرير تقصيرها بحقّ الشعب السوري أمام شعوبها. ومن جهة أخرى، كان لهذه الصور دور في توضيح الصورة لدى الرأي العامّ الشعبي في أوروبا وأميركا، في فئاته المهتمّة بالشؤون الخارجية وحقوق الإنسان في العالم. كلّ هذا أدّى إلى فرض مزيد من العقوبات الاقتصادية على النظام وداعميه، ومن هذه العقوبات، جاء “قانون العقوبات الأميركية لحماية المدنيين” الذي حمل اسم “قيصر”. لكن مع كلّ ذلك لا يزال المجتمع الدولي بعيدًا عن القيام بواجباته المفروضة حسب القوانين والمعاهدات الدولية، وكلّ ما كانت تقوم به هذه الحكومات لا يعفيها من المسؤوليّة أبدًا عمّا يجري في سورية، ولا يمكن أن يكون البديل عن واجبها الأساسي في حماية المدنيين ومحاسبة مجرمي الحرب. من وجهة نظري، هذه الحال تنطبق على شعوب هذه الدول، لأننا نتحدث عن دول ديمقراطية يقوم مواطنوها باختيار ممثّليهم الذين يضعون السياسيات الداخلية والخارجية لدولهم، لذلك هم شركاء في التقصير بتحمّل المسؤوليّة تجاه ما يجري في سورية.
الإدارة الأميركية مطالبة بلعب دور أكثر جدّيّة في سورية
بتقديرك، ما التأثير الذي خلّفه “قانون قيصر” على نظام بشار الأسد، منذ دخوله حيّز التطبيق في 17 حزيران/ يونيو 2020؟ وهل هناك حزم عقوبات أميركية أو أوروبية جديدة في الأفق المنظور؟
بداية، من المهم التنبيه إلى أنّ هذا القانون هو قانون أميركي، وقد حاولت (مجموعة ملفات قيصر) الاستفادة منه، من خلال وضع قضية المعتقلين وإيجاد حلّ لها، كأحد الشروط لرفع العقوبات عن النظام وداعميه. وكان للمجموعة ملاحظات وتعليقات واقتراحات على القانون، حتّى لا يكون له تأثير سلبي على المدنيين في سورية، ومن هذه الاقتراحات، ضرورة فرض مثل هذه العقوبات بإشراف أممي ودولي، وضمان إيصال المساعدات الإنسانية للمحتاجين، من خلال أجهزة الأمم المتّحدة بشكلٍ مباشر، من دون المرور بالنظام. لكن حتّى الآن لم يحقّق القانون هدفه المعلن المتمثّل في حماية المدنيين، حيث يستمرّ النظام في ارتكاب الجرائم، ولم يقم بإطلاق سراح المعتقلين أو كشف مصيرهم. العقوبات ستستمرّ، وستشمل بشكلٍ دوري كلّ أركان النظام وداعميه، بغض النظر عن جنسياتهم وهوياتهم، واليوم الإدارة الأميركية الجديدة مطالبة بلعب دور أكثر جدّيّة في إيجاد حلّ في سورية. وهذا ما ينطبق على المجتمع الدولي بأكمله.
بعد أن عرف العالم حجم جرائم نظام بشار الأسد الوحشي المقترفة بحقّ السوريين، بماذا تفسر حالة الصمت والتجاهل الدولي تجاهه، فضلًا عن أن هناك عددًا من الدول العربية والغربية تسعى للتطبيع مع الأسد؟!
الصمت والتجاهل الدولي، تجاه الجرائم والمجازر التي تجري في سورية، ليس الحالة الأولى على الصعيد العالمي، ولعلّ ما حدث في دول أخرى مثل يوغسلافيا السابقة أو راوندا، أو ما يحدث حاليًا في ميانمار، هو أكبر دليل على ذلك. لكن الوضع المأساوي المستمرّ في سورية والأضرار والخسائر البشرية الكبيرة جعلت الحالة السورية واحدة من أسوأ النزاعات والمآسي في القرن الحالي. لذلك ليس من المستغرب هذا الدور السلبي للمجتمع الدولي تجاه سورية، كون الدول تبحث دومًا عن مصالحها على حساب الشعوب الأخرى، وهي تجد في هذه النزاعات متنفسًا لها للتهرّب من مسؤوليّاتها تجاه شعوبها، أو سوقًا لمنتجاتها من الأسلحة، أو سببًا لبسط نفوذها على منطقة أو لتحقيق التوازن فيما بينها. والأهمّ من كلّ ذلك -من وجهة نظري- أنّ معظم الدول الكبرى، كالولايات المتّحدة الأميركية وروسيا والدول الأوروبية الكبرى، لا تزال ترتكب جرائم دولية في مناطق النزاعات المسلّحة في العالم، وما جرى في العراق ويجري في أفغانستان ليس بعيدًا في الزمن كي يُنسى!
أثار الحكم الأول على مستوى العالم بشأن التعذيب في السجون السورية في محكمة “كوبلنز” على صفّ الضابط المنشق “إياد الغريب” رداتِ فعلٍ مختلفة بين السوريين، إذ رأى بعضهم أنّ الحكم الصادر كان خفيفًا، بينما رأى آخرون أنه كان قاسيًا للغاية. ما رأيك أنت؟ وما تقييمك لهذه التجربة في ساحة القضاء الأوروبي؟
في كلّ مرّة نكون فيها هناك أمام محاكمة متّهمين بارتكاب جرائم في سورية، سيكون هناك اختلاف في ردات الفعل. لكن المهم دومًا هو النظر إلى حقوق الضحايا وذويهم في المرتبة الأولى، مع مراعاة حقوق المتّهمين بتطبيق معايير المحاكمات العادلة. حيث إنّ مقاربة هذه المحاكمات دومًا، من وجهة نظر المتّهمين وانتماءاتهم ورتبهم وصلاحياتهم، ستجعلنا أمام مقارنات وتوازنات ومجاملات، يدفع ثمنها الضحايا دومًا لصالح أمراء الحرب. إن تجربة محاكمة “كوبلنز” يجب البناء عليها، لتجاوز السلبيات وتدعيم الإيجابيات فيها، هي خطوة أولى في طريق طويل نحتاج فيه إلى رفع صوت الضحايا، ودعمهم في مطالبهم المحقّة في تحقيق العدالة التي يمكن أن تتحقّق بأشكال عدة، وأكثرها وضوحًا أو خضوعًا لتسليط الأضواء المحاكمات، إلّا أننا يجب أن لا نغفل عن الأشكال الأخرى لهذه العدالة، وخاصّة العدالة الاجتماعية.
ننتقل معك للحديث عن تمثيلية الانتخابات الرئيسية الأخيرة التي زعم الأسد أنه فاز فيها بنسبة 95.1، والتي وُصفت بـ “الوهميّة” والمزوّرة”، والتي تنتهك “بيان جنيف1” 2012، وقرار مجلس الأمن رقم 2118 الصادر في أيلول/ سبتمبر 2013، والقرار 2254 الصادر في 18 كانون الأول/ ديسمبر 2015، وسبق أن حدث الشيء نفسه، عندما أجرى النظام الانتخابات الرئاسية من طرف واحد، في حزيران/ يونيو 2014. هل من إجراءات قانونية -على الصعيد الدولي- يمكن اتّخاذها في المدى المنظور، لتأكيد بطلان هذه الانتخابات وتعليق عضوية نظام الأسد في هيئة الأمم المتّحدة؟
هذه الانتخابات تخالف قرارات مجلس الأمن الدولي الخاصّة بسورية، بخاصّة القرار رقم 2254، المبني على “بيان جنيف 1” وبيانات فيينا الخاصّة بسورية، كونها الأرضية الأساسية لتحقيق عملية الانتقال السياسي بهدف إنهاء النزاع في سورية، وهي تؤكّد أنّ الشعب السوري هو من يحدّد مستقبل سورية. لذلك كلّ ما يقوم به النظام السوري، بدعمٍ من حلفائه، من مسرحيات انتخابية، لن يُكسب هذه الانتخابات أي شرعيّة، ما دامت تخالف القرارات الأممية ذات الصلة. وإنّ صمت الحكومات الأجنبية عن حماية السوريين لا يعني إعطاء هذا النظام أي شرعيّة، حيث إن جرائمه لن تسقط بالتقادم مهما طال الزمن.
مع التأكيد أنّ ترحيل اللاجئين السوريين من بعض الدول الأوروبية “ورقة سياسية للأحزاب المتشدّدة ومخالفة قانونية”، كما يرى ناشطون حقوقيون وخبراء، ما السّبل لإقناع السلطات الغربية بأنّ سورية “بلد غير آمن”، وأنّ نظام الأسد يواصل عمليات التضييق على السوريين في المناطق الخاضعة لسيطرته؟ وما الذي يمكن أن تقوم به المنظمات والمراكز والهيئات والمؤسّسات والروابط الحقوقية السورية في الناشطة في الساحة الأوروبية؟
هذه الدول لم تتحمّل أصلًا مسؤوليّاتها في حماية المدنيين/ات في الداخل السوري، وقد أدّى ذلك إلى وجود ملايين اللاجئين السوريين حول العالم، ومثلهم من النازحين داخل سورية. وهذا التخاذل في الحماية امتدّ إلى أراضي بعض هذه الدول التي بدأت تتعالى فيها الأصوات المطالبة بإعادة اللاجئين السوريين إلى سورية، بحجة أنها “آمنة”! متغاضية عن حقائق عدّة، منها أنّ هذه الإعادة القسرية تخالف كلّ القوانين والمعاهدات الدولية، ومنها اتّفاقية اللاجئين. وعلى فرض صحة المزاعم بأنّ سورية أضحَت “آمنة”، فإن على هذه الدول أن تأخذ بعين الاعتبار أنّ هذه العودة يجب أن تكون طوعية. من وجهة نظري، فإنّ العودة إلى سورية لا يجب أن تكون آمنة وطوعية فقط، بل يجب أن تكون عادلة وممكنة، حيث إنّ النظام عمل على اتّباع سياسة التغيير الديموغرافي من خلال التهجير القسري، ففي حال أراد اللاجئون العودة إلى سورية، مَن يضمن لهم العودة إلى منازلهم الأصلية، إضافة إلى أنّ التدمير شمل ما يقارب أربعين بالمئة من المنازل السكنية والبنى التحتية كالمشافي والمدارس وغيرها. ويمكن للمنظمات السورية أن تقوم بدور مهم في هذه القضية، من خلال مخاطبة الجهات الدولية والأممية المختصّة في هذا الموضوع، ونحن في (مجموعة ملفات قيصر) قمنا منذ سنوات بالتركيز على خطورة الإعادة القسرية إلى سورية، وذلك سواء بالتواصل المباشر مع المسؤولين عن هذه القضية في الدول المستقبلة للاجئين السوريين، فعلى سبيل المثال، تواصلنا مع (إدارة الهجرة الدانماركية) منذ سنوات عديدة، وزودناهم بالمعلومات التي توضح لهم المخاطر التي تحيق باللاجئين لدى عودتهم، كذلك الحال في ألمانيا. لكن أهم ما يمكن القيام به في هذا السياق هو تأمين الدعم القانوني للاجئين في دول اللجوء، لمساعدتهم في اتّباع القوانين والإجراءات التي تحميهم بموجب القوانين الدولية والمحلية، وهذا الأمر كان يُجدي بشكلٍ أو آخر في لبنان، لدى محاولاتي العديدة بتقديم الدعم القانوني للاجئين السوريين والفلسطينيين السوريين هناك.
تعنّت النظام يزيد من معاناة المعتقلين والمختفين قسريًا
هل لديكم معلومات جديدة عن حياة المعارضين السياسيين المعتقلين: عبد العزيز الخيّر، ورجاء الناصر، وإيّاس عياش، وماهر الطحان، وغيرهم من الناشطين السياسيين والحقوقيين في معتقلات النظام؟
مع الأسف، معاناة المعتقلين والمختفين قسريًا لا تزال ممتدّة منذ سنوات، في ظلّ تعنت النظام السوري في رفضه إطلاق سراحهم وكشف مصيرهم، وتصدّيه لكلّ المحاولات والمبادرات التي تطالبه بتحمّل مسؤوليّاته في هذه القضية، حيث لا يتعاون -على سبيل المثال- مع لجان التحقيق الدولية أو حتّى الصليب الأحمر الدولي في هذه القضية المهمة. كذلك لم تنفع أي وساطة سياسية من قبل أي دولة في إيجاد حلول. ومع الأسف، كلّ المبعوثين الدوليين إلى سورية أهملوا هذه القضية المهمّة، ورضخوا لتعنت النظام. وهذه الحال تنطبق على المعارضين عبد العزيز الخيّر ورجاء الصالح وغيرهما.
مضت ثماني سنوات ونيف على اعتقال المحامي خليل معتوق، الذي كان يشغل منصب المدير التنفيذيّ لـ (المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية)؛ هل هناك معلومات عن مصيره اليوم؟
مع الأسف، حال الصديق العزيز المحامي خليل معتوق لا تختلف عن بقية المعتقلين والمختفين قسريًا، حيث يرفض النظام بيان مصيره حتّى الآن.
هل لديكم معلومات عن أحوال السجناء في معتقلات قوى المعارضة المسلّحة؟
الأدلّة التي لدينا في هذا السياق ليست بحجم معلوماتنا عن أحوال المعتقلين/ات لدى النظام. لكن المعلومات البسيطة تشير إلى وجود انتهاكات خطيرة لحقوق المعتقلين لدى هذه الجهات، وإن كانت ليست بحجم انتهاكات النظام وحلفائه.
مع مرور عقد من الزمن على صرخة الحرّية الأولى واندلاع ثورة الحرّية والكرامة، نرى أنه لا بدّ من مراجعة نقديّة لمسار الثورة وما آلت إليه اليوم؛ فماذا تقول في ذلك من موقعك؟
أعتقد أنّ هذه المراجعة أضحت أمرًا دوريًا في حياة كلّ السوريين، حيث إننا نشاهد الرفض الدائم من قبلهم لأي أمر يحاول أي شخص أو أي جهة أن تفرضه عليهم، أو تحاول أن تلعب دور الوصي عليهم. لكنّ واقع الحال يفرض نفسه، حيث لا نرى التفاعل الكبير والمباشر دائمًا، وذلك بسبب الصعوبات اليومية التي يعيشونها، كلٌّ في مكانه، سواء في الداخل أو خارج سورية في بلاد اللجوء. السوريون سيختارون الطرق المثلى لتحقيق أهدافهم، وسيفرزون من بينهم من يكون قادرًا على تلبية متطلّباتهم وتحقيق العدالة لهم.
بالتطرّق إلى الوضع السياسي السوري العامّ؛ نسأل: كيف تنظر إلى ما يجري في سورية اليوم؟ وما دور الجهات الحقوقية تجاه ما يحصل، خاصّة أنّ هناك سوء فهم لدى الغرب لما جرى ويجري في بلدك؟
الثورة السورية كانت أمرًا محتومًا لا شكّ فيه، لكنّ الأمر كان يتعلّق بالوقت والشرارة الأولى، حيث إنّ الجرائم التي ارتكبها النظام الأسدي على مدار العقود الماضية كانت كلّها تهيئ لهذه الثورة. وما تحتاج إليه سورية وتعيشه حاليًا هو مرحلة انتقالية بدأت فعليًا، لكنّ المحزن فيها هو الثمن الكبير والغالي الذي دفعه السوريون. دور الجهات الحقوقية بالنسبة إلي هو أهم أدوار منظمات المجتمع المدني في هذا السياق، حيث إنّ الخطاب الحقوقي دائمًا هو الذي يضع حكومات الغرب وشعوبها أمام مسؤوليّاتها، لذلك على هذه الجهات أن تركز في خطابها على مواضيع وقضايا حقوق الإنسان، والابتعاد عن الخطاب السياسي الذي يرغب الغرب دومًا في الاختباء خلفه. فالثورة بالأساس في سورية نادت بالحقوق المدنية والسياسية، لكن النظام قام بتحويلها إلى مطالب اقتصادية واجتماعية، إلّا أنّ الخطاب الحقوقي يجب أن يكون هو الأعلى دومًا.
في الختام؛ بتقديرك، إلى أين المسير الآن وفقًا لآخر المستجدّات السياسية والعسكرية التي تشهدها عموم الجغرافيا السورية الممزّقة، خاصّة بعد تعثر مسار المفاوضات السياسية في جنيف إن لم نقل فشله؟
ما يحكم المشهد السوري منذ سنوات هو الجمود وعدم الوضوح في الرؤية للحالة التي نعيشها، وكلّ محاولات المجتمع الدولي المزعومة لإيجاد حلّ في سورية لم تكن إلا من باب ذرّ الرماد في العيون، ولا ترقى لأن تكون حلًّا جذريًا، بل هي مجرّد إجراءات لإدارة النزاع في سورية ليس إلّا. ولا يزال هذا النظام يلقى الدعم المطلق من حلفائه الروس والإيرانيين ومن ينتمي إلى معسكرهم، ولذلك لن يكون هناك أي حلّ في سورية، بخاصّة في ظلّ تخاذل المجتمع الدولي عن القيام بواجباته في تحمّل المسؤوليّة بحماية السوريين ودعمهم في سبيل وصولهم إلى حقوقهم. ولا وجود لأي حلّ في سورية، ما دام هذا النظام على رأس الحكم، وما لم تتحقّق العدالة للضحايا وذويهم وتردّ الحقوق لأصحابها، وأما الحلول المؤقّتة فهي لن توقف جرائم هذا النظام، وهي مجرّد أوهام يقدّمها الساسة في الدول الأجنبية، لتبرير تقصيرهم بحقّ السوريين أمام مواطنيهم ومجتمعاتهم، فالسوريون يعرفون ما هو الحلّ الأمثل بالنسبة إليهم، وهو يتمثّل بالانتقال السياسي وفق قرارات مجلس الأمن، وخاصّة القرار رقم 2254، و”بيان جنيف 1″، وبيانات فيينا الخاصّة بسورية.