صدر العدد الثالث والعشرون من “قلمون: المجلة السورية للعلوم الإنسانية”، وقد ناقش ملفه الرئيس موضوع “اللجوء السوري في العالم الغربي؛ ضرورات الاندماج وتحولات الهوية” من خلال سبعة بحوث، عني في أولها علاء الرشيدي بتحليل مجموعة من النصوص الأدبية كتبتها نساء سوريات في صورة شهادات شخصية حول تجربة اللجوء من حيث هو (منفى). ولقد كشفت هذه الشهادات عن وعي السوريات العميق بالالتباس بين الوطن والمنفى، وبين الوطن والاغتراب، وفقد الحرية الشخصية، وتهديد الكرامة الإنسانية. أما البحث الثاني، فقد بنته إيناس حقي على مجموعة من المقابلات مع عينة من السيدات السوريات المقيمات في فرنسا. ولقد أظهرْنَ أن أول ما يخسره المرء في (الشتات) هو المكان، وأن أهم ما تخسره اللاجئة، نتيجة لذلك، هو المنزل، ومن هنا كانت الديار هي الوطن في رأي السوريات، وكل ما عداها نفي واغتراب.
وقد وضح رئيس التحرير يوسف سلامة في كلمة العدد أن البحثين الثالث والرابع من الملف يعالجان محورين متكاملين: أولهما يختص (بالفضاء العام) أو المشاركة في الحياة السياسية ونشاط المجتمع المدني. وثانيهما: يتعلق (بالفضاء الخاص) أو بالحياة الشخصية والأسرية للسوريين في ألمانيا. وفي ما يتعلق (بالفضاء العام)، فإن القوانين الألمانية جعلت المشاركة مفتوحة فيه للرجال والنساء، حتى قبل الحصول على الجنسية الألمانية. وقد أظهر طارق عزيزة في بحثه بجلاء أن العقبات التي تمنع الأفراد من المشاركة في هذا الفضاء لا تزيد عن ثلاث: صعوبة اللغة الألمانية والتعقيدات البيروقراطية والمواقف العنصرية. وكل من يجتازها يكون قادرًا – إن شاء– على المشاركة في هذا المجال من باب الانتساب إلى الأحزاب السياسية أو من باب الانخراط في نشاط المجتمع المدني، وللسوريين تجارب ناجحة في الحقلين كليهما.
غير أن الأمر لم يكن على هذا القدر من اليسر والبساطة في (فضاء الحياة الخاصة) للفرد والأسرة على حد سواء، فالقوانين الألمانية في هذا المجال سمحت بتعزيز (الفردية) وضمان (الحقوق المتساوية للجميع)، ما أفضى إلى خلق ((فرصة للتعبير عن الذات لكثير من النساء ممن اخترنّ مقاومة (الهيمنة الذكورية) التي قمعت خياراتهنّ سابقًا)). وقد أدى ذلك – في رأي الباحثة علياء أحمد – إلى زعزعة سلطة الأسرة المعيارية، المستندة إلى قيم ومعايير ذكورية. ونتيجة لذلك كله ظهر التناقض بين اتجاه يرغب في الإبقاء على الحق التقليدي للأسرة بالتحكم بمصير أفرادها من جهة، ومن جهة أخرى اتجاه يسعى إلى تعزيز حق الأفراد في أن يشكلوا فرديات جديدة مستقلة، لم يكن وجودها ممكنًا في ظل القوانين والقيم السائدة في المجتمع الأم. وبذا أصبح السير ممكنًا على الطريق المفضية إلى خلق أسرة جديدة تكرس قيم المساواة بين أفرادها، وتحفظ حقوقهم الشخصية. فكان من نتيجة ذلك أن عانى كثير من الأسر صعوبات في التكيف ناجمة عن تغير الأدوار التقليدية داخل الأسرة، ما جعل واقعة الطلاق ظاهرة بارزة في حياة الأسر المهاجرة، وهو ما لا يصح تجاهله من قبل الباحثين وسائر المعنيين باستقرار المجتمع وتوازنه.
وفي تعليق سلامة على بحث “الهوية الاجتماعية ودورها في اندماج اللاجئين السوريين في فرنسا” لطلال مصطفى وفراس حاج يحيى ” يرى أنه ينطلق من نغمة متفائلة مبنية على مجموعة واسعة من مؤشرات الاندماج التي يبديها السوريون في تفاعلهم مع المجتمع الفرنسي، من مثل الرغبة القوية في الاندماج في سوق العمل، والانخراط في النشاط الاجتماعي، إضافة إلى أن فئة كبيرة منهم تخطط للحصول على الجنسية الفرنسية، ويستعد كثيرون منهم للعيش مع شريك فرنسي. وإذا كان إتقان الفرنسية يشكل تحديًا أمام اللاجئين جميعهم، ومع ذلك يمكن اجتيازه، فإن العقبة الأهم التي لا سلطان للاجئ عليها تبقى مشاعر العنصرية المتنامية اليوم في المجتمعات الأوروبية.
وفي المضمار نفسه ترى الباحثة عمارة عمروس أن اليمين الأوروبي المتطرف يبني مواقفه على سرديات أسطورية مثل القول: إن اللاجئين والمهاجرين يهددون الهوية القومية والثقافة الوطنية للشعوب الأوروبية. وهم يحاولون صوغ ذلك في نظريات وأيديولوجيات ينقصها التماسك المنطقي والإمكان الواقعي، مثل نظريتهم عن (الاستبدال العظيم). ويتمثل هذا الاستبدال في حلول شعوب همجية مكونة من المسلمين والعرب والأفارقة محل الشعوب الأوروبية. وسيفضي هذا الاستبدال إلى استئصال المسيحية وتدمير الحضارة الأوروبية. وللمرء أن يكمل بقية الحكاية بالفنتازيا التي يراها مناسبة.
ويختتم الملف ببحث في (صورة السوري في السينما العالمية) لعلي سفر، يرى فيه أن صورة السوري كانت منذ نشأة هذا الفن في العالم الغربي تشكل جزءًا لا يتجزأ من الصورة النمطية المشوهة للعربي والمسلم، والتي استمرت في الظهور على الشاشات لمدة قرن من الزمن تقريبًا. ولكن مجموعة من التغيرات والتحولات الدولية لعبت دورًا إيجابيًا في زحزحة هذه الصورة النمطية عن تطرفها ومغالاتها بدءًا من ثمانينيات القرن العشرين. ومع اندلاع (ثورات الربيع العربي)، وقيام (الثورة السورية)، تحطم الإطار المرجعي للنمطية التقليدية التي كانت مسيطرة على الذهن الغربي. فصار (السوري)، في إثر ذلك، (شخصية مستقلة) يستحق من السينما الهوليودية أن تصنع عنه فيلمًا روائيًا كاملًا. وهكذا صارت سرديات السوري تستحق الإصغاء.
والجدير بالذكر أن مجلة قلمون أحدثت في هذا العدد بابًا جديدًا حمل عنوان “ظواهر وشخصيات”، أفردت مساحته لدراستين نقديتين في بعض المنجز الروائي للسوري خيري الذهبي (1946-2022)؛ الأولى لماجدة حمود “المسكوت عنه في رواية خيري الذهبي “لو لم يكن اسمها فاطمة”، والثانية لأسماء معيكل بعنوان “تجليات العنف في تجربة الأسر عند خيري الذهبي.
يضاف إلى هذين البابين دراسات أخرى خارج الملف لكل من منتصر فايز الحمد وفاروق إسماعيل وفاطمة عبود وخالد أبو صلاح، ومراجعتان نقديتان لكتابين صدرا حديثًا كتبهما عمار السمر وعبد الإله فرح.
يذكر أن المجلة ما زالت تقبل مقترحات الباحثين لدراسة شخصيات مؤثرة في التاريخ والثقافة السوريين أو ظواهر حديثة في المجتمع السوري جديرة بالدرس والبحث. للمزيد عن هذا الباب والمقترحات البحثية فيه يمكن زيارة الرابط أدناه.
وللاطلاع على سياسة النشر في المجلة يرجى زيارة الرابط أدناه.