يعد ياسين الحافظ -بحق- واحدًا من أبرز المفكرين القوميين الذين انشغلوا بالمنطقة العربية، من خلال الحفر عميقًا في تاريخها، لاستكشاف كل ما من شأنه المساعدة في تفسير تخلفها عن ركب الحضارة الإنسانية، وركودها، وتقوقعها على ذاتها، وبالأحرى تفسير تخلفها عن الحضارة الغربية ذات المفهومات الكونية. وهكذا، فإنها لم تتجاوز مستوى العالم المملوكي الذي لم يسمح للعرب بإنتاج دولة تتجاوز في تطورها مستوى الحضارة المشار إليها. ولعل هذا هو السبب الذي جعل الدولة العربية دولة سلطانية من الناحية السياسية، وريعية من الناحية الاقتصادية.
والنتيجة المترتبة على ذلك هي أنه لم يكن في وسع الدولة العربية إلا أن تكون مهزومة دومًا، فبنيتها السياسية والاقتصادية غير العصرية لا تؤهلها إلا لخسارة معاركها كلها في وجه غزاة المنطقة والطامعين في السيطرة الاستراتيجية والهيمنة العسكرية ووضع اليد على خيراتها ومواردها الطبيعية. ومرد ذلك كله -في نظر ياسين الحافظ- إلى التخلف السياسي الناجم عن الإغراق في النزعة المحلية والبعد عن المفهومات الكونية، وضعف البرجوازية المحلية، وهشاشة الإنتلجنسيا التي ظلت قطاعتها معظمها محكومة بوعي (محلوي) أو محلي، بدلًا من السعي إلى (كوننة) وعيها وتخطي عزلتها عن العالم الراهن الذي تنفرد الأمم الغربية بإنتاج أهم مفهوماته وقيمه ذات الطابع الكوني الإنساني الشامل.
والخلل كله -في نظر ياسين الحافظ- قائم في السياسة؛ نظرًا وممارسة. ومن ثم، فلا سبيل إلى النهوض والارتقاء بالحياة، في هذه المنطقة إلى مستوى العصر، إلا بضرب من الراديكالية السياسية التي تؤدي إلى قطيعة مع العالم القديم، والاندماج في العالم الراهن. ذلك لأن من شأن هذا الاندماج أن يسمح لمقولات الحداثة والعلمانية والمجتمع المدني والديمقراطية السياسية بإعادة إنتاج مجتمعات المنطقة، وفقًا لها، إذ ينبغي النظر إليها بوصفها ملكًا للإنسانية جمعاء، بدلًا من النظرة القاصرة والضيقة إليها، بوصفها مقولات قومية تنتمي إلى أمم بعينها. وهكذا، سيظل انعتاق الرجال والنساء في هذه المنطقة من العالم من ربقة التقليد البغيض المتمثل في الأيديولوجيات الدينية والسياسية، مشروطًا بالخروج من مستنقع النزعات المحلية التقليدية، وبصور شتى من القمع الروحي والمادي الذي تمارسه السلطات المتوحشة التي قد تستمد مبررات عدوانها من نصوص سماوية أو أرضية.
لقد كشفت تحليلات ياسين الحافظ عن بصيرة وعمق نظر عزّ مثليهما لدى المفكرين القوميين الذين قصر نظرهم، حتى استمدوا مقومات الحاضر من بعض العناصر التي وجدت في الماضي، وبلغ استبدادهم حدًا لا مثيل له، عندما قرروا أن هذا الماضي أو ما بقي منه، هو (الرسالة الخالدة للأمة). وهكذا، لم يعد للأمة لا حاضر ولا مستقبل، ما دام وجودها كله أضحى قائمًا في (الماضي الخالد) أو في (الماضي الأبدي). ولقد وقف ياسين الحافظ، بكل الصرامة المنهجية والنزاهة الأخلاقية، ناقدًا لكل ما من شأنه أن يفضي إلى ضياع الحاضر وخسارة المستقبل، وبقاء الجميع غارقين في التخلف وخاضعين لكل صور الاستبداد الديني والسياسي أو كليهما، نظرًا لما يمتلكانه من قدرة فائقة على عقد الصفقات والتحالفات ضد أنصار الحرية والمدافعين عن الكرامة الإنسانية. ومن أهم ما يمتاز به فكر ياسين الحافظ أنه تفكير في المفهومات وبالمفهومات، ومن ثم، فهو محاولة مستمرة لصوغ الجديد، وخلع دلالات مستحدثة على القديم منها. ومن ذلك كله، ينشئ ياسين الحافظ شبكة فعالة قادرة -على الأقل في نظره- على رسم طريق مؤد إلى الخروج من (التأخر التاريخي) -وهو واحد من أهم عناصر هذه الشبكة المفاهيمية- إلى العصرية والمعاصرة، ومشاركة الأمم العيش في عصر يفتح الطريق إلى تجاوز التأخر العربي وتخطي الاستبداد السياسي وكل مظاهر التخلف المقترنة بهما.