عقد مركز حرمون للدراسات المعاصرة، يوم الخميس 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ندوة حوارية تحت عنوان “ديناميات التعبئة والسردية الشعورية للمقاتلين: (الجبهة الشامية) أنموذجًا“، شارك فيها كل من: رهف الدغلي، مديرة قسم الأبحاث في مركز حرمون للدراسات المعاصرة؛ حمزة المصطفى، مدير تلفزيون سوريا؛ سعد الشارع، باحث سياسي؛ وأدارتها أسماء صائب أفندي، مديرة منتدى حرمون الثقافي في إسطنبول.
في بداية الندوة، قدّمت رهف الدغلي عرضًا تقديميًا تحدثت خلاله عن الدراسة والهدف منها، والأسئلة البحثية التي طرحتها، وأبرز النتائج والتوصيات التي توصلت إليها، وهيكليتها المقسّمة إلى أربعة أقسام، حيث يشرح الجزء الأول الخارطة الذهنية، تبعًا لمحاجة نظرية ونقد الأدبيات السائدة حول أسباب نشوب الصراع وجذوره، وأسباب طول أمده. ويدمج الجزء الثاني من الدراسة التحليل على المستوى الكلي والمتوسط، من خلال تبيين دور “الفاعل الخارجي”، وقياس تأثيره في الحوكمة والهيكلية واقتصاديات الفصيل، من جانب، وتفكيك أثره على المستوى الجزئي، من جانب آخر. وتابعت الدغلي قائلة: يتعلق الجزء الثالث والرابع من الدراسة بالمستوى الجزئي والتركيز على سرديات المقاتلين وبنائية ذهنية المقاتل والتكون الذاتي والتحولات الهوياتية التي طرأت على المقاتلين تبعًا لسياقات الحرب وطول أمدها.
تناولت الدغلي في العرض التقديمي للدراسة أبرز المغالطات في تحليل دوافع الأفراد للانخراط في القتال مع جماعات مسلحة دون دولة، ونبّهت إلى أن جميع الأسباب التي قدّمها حقل الدراسات الأمنية والاجتماعية لموجبات انخراط الأفراد في القتال يمكن تصنيفها وفق منظورين عريضين: الأول يركز على المصالح المادية أو المظالم، والثاني يركز على قدرة المجموعة العسكرية على التعبئة وتقديم الحوافز. لكنها لفتت النظر إلى أن كلا هذين المفهومين كان منقوصًا، إذ اعتمد كلاهما على الفرص والدوافع، كشرطين ضروريين لانخراط الأفراد في القتال.
تحدثت الدغلي عن خصوصية الجبهة الشامية كنموذج يدحض الأدبيات السائدة التي تربط ديمومة البقاء عند فصيل عسكري بقدرة الفصيل على تقديم حوافز مادية تنافس المجموعات الأخرى. وأشارت إلى أن الدراسة استخدمت منظور “قدرة التعبئة النسبية”، لقياس مدى أثر الحوافز المادية على التماسك الداخلي للمجموعة. وشرحت أسباب ضرورة التركيز على سرديات المقاتلين، وكيف يمكن أن يساعد ذلك في تقويم استراتيجيات حل النزاعات وإعادة الإعمار.
وتابعت الدغلي العرض التقديمي بالحديث عن عيّنة المقابلات، ومعارك الجبهة الشامية، ونقاط تمركزها، واقتصاديات الجبهة وإدارة الموارد، لفهم ديناميات العلاقة بين المقاتل وقدرة الفصيل على الإدارة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وأفردت مساحةً للحديث عن الجدل الأكاديمي حول دور الحوافز الشعورية في النزاعات والحروب، وانتقلت إلى الحديث عن سرديات المقاتلين والأسئلة البحثية، وبنائية المشاعر، وبنائية الاستذكار والتحولات الهوياتية.
في الختام، سلطت الدغلي الضوء على نتائج الدراسة، وبيّنت أن الهدف من أخذ الجبهة الشامية نموذجًا وحيدًا في هذه الدراسة هو دحض الأدبيات السائدة التي تعتبر أن الموارد المادية من أهمّ ركائز انخراط المقاتلين واستمرارهم في القتال أو الانضمام إلى مجموعة ما. وأشارت إلى أن المقابلات مع المقاتلين وممثلين سياسيين وقادة تابعين من مجموعات صف مختلفة تفيد في استشراف مستقبل الجبهة الشامية، إذا كانت هناك تسوية سياسية.
تلا العرض التقديمي للدراسة قراءة نقدية قدّمها كل من الدكتور حمزة المصطفى والباحث سعد الشارع.
البداية كانت مع المصطفى الذي أشاد بالدراسة، واعتبر أنها معطى جديد في الدراسات السورية التي تشتبك مع مقولات نظرية، وتنبع أهميتها من كونها حللت ونقدت الكثير من النظريات القائمة في حقل الدراسات الأمنية.
قدم المصطفى جملة من الملاحظات حول الدراسة، أُولاها عدم وضوح الدور الذي يلعبه الجانب الشعوري لدى المقاتلين، هل هو في الانخراط، أم في استمرارهم في القتال؟ وانتقد توغل الدراسة في إعطاء مساحة للدراسات وتحليلها، في مقابل غياب الداتا الأمبريقية المهمة في هذا النوع من الدراسات، على حد تعبيره. وأضاف أنه من غير المفترض أن يُستخدم التحليل على المستوى الكلي والمتوسط والجزئي في جميع الدراسات، وأن الدراسة ستكون أكثر جدوى لو أنها ركزت على تحليل المستوى المتوسط.
في السياق ذاته، ذكر المصطفى أنه كان من الأفضل أن يتم استهداف المنافسين والمعارضين للجبهة الشامية، وسماع سردياتهم في ما يتعلق بمقاتلي الجبهة. وعقّب على مسألة إدراج تصورات المقاتلين عن بطولاتهم في الدراسة. وفي الختام، أثنى المصطفى على الدور الذي يؤديه مركز حرمون للدراسات في إنتاج دراسات تساهم في التنظير، وليس في السرد والاستعراض، لأنها الوظيفة الأساسية لمراكز الأبحاث.
بدوره، وصف الباحث سعد الشارع الدراسة بالتشريحية، وبأنها نقطة تأسيسية في تفسير سردية المقاتلين. وأضاف أن التحدي الذي واجهته الدراسة هو أخذ الجبهة الشامية كنموذج، فعلى الرغم من كل المعلومات والتحليلات التي وردت عن الجبهة، فإن كثيرًا من الديناميات الداخلية لهذا الفصيل ما زالت مبهمة وغير مفسّرة، وغياب هذه المعلومات ربّما يتسبب في أخطاء في تحليل السياق العسكري السوري، خاصة في الشمال.
وأوضح الشارع أن دراسة سردية المقاتلين لا بدّ من تأخذ الحالة العسكرية الحالية بعين الاعتبار، وانتقد عدم ذكر الدراسة وجود عاملين أساسيين للوضع العسكري الذي يحيط بالجبهة الشامية في الشمال السوري: الأول هو حالة الاستكانة العسكرية، والثاني هو حالة الاقتتال الداخلي أو داخل المناطق التي تتعرض لظرف معين، بين الهيئة من جهة، وبين بقية فصائل الجيش الوطني من جهة أخرى.
وتحدث الشارع عن تأثير الهويات العسكرية في بناء سردية المقاتل، وأوضح أنه خلال السنوات الأخيرة رَشَحَت ثلاث هويات أو أنماط عسكرية عبّرت -بصورة أو بأخرى- عن حالة التشعب في الملف العسكري السوري. الهوية الأولى هي الهوية الدمشقية، وأسس لها جيش الإسلام تحديدًا، وكان لها لون مختلف، وأداء عسكري مختلف. والهوية الثانية هي الهوية الشمالية، وأسس لها الجبهة الشامية، أما الهوية الثالثة فهي الهوية الشرقية، مضيفًا أن لكل هوية أيديولوجية عسكرية معينة، وموجبات تأسيس خاصة بها.
ذكر الشارع أن أكثر ما يميز الجبهة الشامية محاولتها احتضان شخصيات مجتمعية واقتصادية مؤثرة، بالتوازي مع عدم وجود أي تركيز على استقطاب الشخصيات العسكرية. وتابع القول إنّ الجبهة كانت السبّاقة في موضوع التخصصات العسكرية داخل الفصيل، واعتمدت على موضوع التوازن المناطقي في الشمال السوري، وساهم ذلك في تكريس حالة من الانضباط داخل الجبهة.
في ختام حديثه، أضاء الباحث على مسألة التعارض مع الفاعل الخارجي، كأداة للضبط داخل الجبهة، وعلى أهميتها كضرورة لخلق التوازن العسكري الداخلي، الذي يؤثر بدوره في سرديّة المقاتلين، ويعزّز انتماءهم للجبهة وعدم ذهابهم إلى فصائل عسكرية أخرى، بعيدًا عن المغازلة الأيديولوجية التي تأتيهم بين الحين والآخر، من قبل هيئة تحرير الشام، وما شابه ذلك.
اختُتمت الندوة بنقاش مفتوح بين المتحدثين والحضور حول الدراسة. والندوة متاحة للمشاهدة على فيسبوك عبر الرابط أدناه:
https://www.facebook.com/HarmoonCenter/videos/998015367919019/