أقام مركز حرمون للدراسات المعاصرة، عبر البث المباشر، الثلاثاء 13 تشرين الأول/ أكتوبر 2020، ندوة بعنوان “سياسات النظام الثقافية والإعلامية“، شارك فيها رياض نعسان آغا، وزير الثقافة السوري الأسبق والعضو السابق في الهيئة العليا للمفاوضات، وأدارتها الإعلامية نسرين طرابلسي.
ناقشت الندوة الوضع الثقافي والإعلامي في سورية، في الفترة التي سبقت وصول حزب البعث إلى السلطة، والحال الثقافي والإعلامي للسوريين في المرحلة الأولى لحكم البعث، ثم خلال فترة حكم حافظ الأسد، ثم فترة بشار الأسد حتى قيام الثورة، كما سلّطت الضوء على نتاجات الثورة الثقافية والإعلامية.
استهل الدكتور رياض نعسان آغا الندوة بالحديث عن الوضع الثقافي والإعلامي في سورية قبل انقلاب عام 1963، وارتباطه بالتاريخ السياسي لسورية، مبينًا أن الحراك الثقافي هو انعكاس للحياة السياسية والاجتماعية. وأشار إلى أن بداية الحياة الثقافية في سورية كانت عام 1918، عندما ظهر حراك ثقافي مضاد للاحتلال الفرنسي، حاول أن يأخذ أحد جانبين: إما التيار الإسلامي أو التيار القومي، لافتًا إلى أن دمشق كانت في ذلك الوقت منبعًا للبعد القومي الذي انتصر فيما بعد خلال فترة الأربعينيات. ونبّه نعسان آغا إلى أن القضية الفلسطينية كانت الشغل الشاغل في تلك المرحلة، وهذا جعل العنوان الأكثر بروزًا في الحراك الثقافي هو التحرر والاستقلال، كما برز عدد من الشعراء الكبار مثل عمر أبو ريشة، بدوي الجبل، نزار قباني، وعبد السلام العجيلي، الذين شكلوا عناوين مرحلة مهمة جدًا خلال فترة الأربعينيات، ما أدى إلى إعادة إحياء مفهوم العمل الجماعي أو الكيان الجماعي للأدب والثقافة، في رابطة الأدباء التي ظهرت مطلع الخمسينيات، مشيرًا إلى أن الصحافة في تلك الفترة بلغت مبلغًا يفوق ما هي عليه الآن، وصدر في مدينة حلب وحدها 18 صحيفة ومجلة، في دلالة على حيوية الحراك الإعلامي والثقافي. وأضاف نعسان آغا: “كان حضور سورية في هذه المجالات قويًا جدًا، وكانت منبعًا للإعلام والثقافة في الوطن العربي، وكان هناك صراع بين التيار الإسلامي والتيار القومي، لكن انتصار حزب البعث حسم الموضوع، مع أهمية الإشارة بكل موضوعية إلى وجود كتّاب ومثقفين كبار في التيار الإسلامي، كالشيخ علي الطنطاوي، ومن اللافت أن الإعلام لم يكن يهاجم الشيخ علي، وكان له برنامج إذاعي يُبث كل يوم جمعة، له نكهة خاصة”. وأشار نعسان آغا إلى أن فترة الخمسينيات شهدت سطوع نجم الأديب والكاتب السوري صدقي إسماعيل الذي لعب دورًا بارزًا في تأسيس اتحاد الكتاب العرب، حيث كان السوريون أول من بدؤوا هذا الحراك الثقافي في المنطقة، وشهدت سورية حالة ديمقراطية فريدة في تلك الفترة، وصدرت عدد من الصحف الناقدة للحكومة كتبت فيها أقلام سورية جسدت عبقرية النقد السياسي الأدبي بشكل ساخر، ولم يكن أحد يجرأ على أن يناقش صحفي في مقال كتبه، لأن الصحافة كانت حرة، وسلطتها أهم من أي سلطة أخرى.
تطرقت الندوة في المحور الثاني إلى سمات الحياة الثقافية والإعلامية في سورية في فترة حكم حزب البعث ونظام حافظ الأسد، وأدوات تنفيذ هذه السياسة، وذكر نعسان آغا أنه لم تكن هناك سياسة مكتوبة وقائمة بحد ذاتها، لا للإعلام ولا للثقافة، وكان الأمر متروكًا للتفاهم الضمني غير المعلن، ولم يكن هناك توجيهات تصدر من السلطة بشكل واضح وصريح، وكانت هناك بعض التدخلات لكنها ليست حادة، كما أشار إلى وجود عدد من المثقفين الناقدين للسلطة، كانوا يشغلون مناصب في مؤسسات وصحف النظام، كالكاتب ممدوح عدوان الذي شغل منصب رئيس القسم الثقافي لجريدة الثورة، وعُرف بأسلوبه اللاذع وكتاباته الناقدة، ورسام الكاريكاتير العالمي علي فرزات الذي كان أيضًا ينشر أعماله في صحف النظام. وأضاف: “هناك بعض الإعلاميين الذين عرفوا كيف يحتالون على النظام، وشهدت تلك الفترة أيضًا استخدام الكوميديا للتعبير عن الفكر النقدي والمعارض للسلطة، سواء في الأدب أو الدراما، وأبرز كتّاب هذا الأسلوب محمد الماغوط، وبتقديري أن النظام لم يكن يسعى للتصالح مع هذه الانتقادات، بل كان يحاول أن يخفف من وطأة الصدام بين المثقف والسلطة”.
وأشار نعسان آغا إلى أن النظام الاستبدادي فشل في خنق كثير من الأصوات المعارضة له، واستطاع بعض الكتّاب والمثقفين الاحتيال على النظام، من خلال قدراتهم التعبيرية الهائلة، واستطاع آخرون إغواء النظام عبر زرع أفكار تناسب سياساته، كالكاتب الكبير سعد الله ونوس الذي كانت مسرحياته جارحة، لكنه كان يبرر رسائله بأساليب تناسب فكر النظام، فيما اضطر آخرون إلى الهجرة لأنهم لم يجدوا من يحتوي فكرهم التحرري في وطنهم، كالكاتب والقاص حسيب كيالي الذي اضطر إلى مغادرة سورية أواخر الثمانينيات. وقال: “كان هؤلاء الأدباء يشكلون حجر عثرة ضخمة في طريق الاستبداد، وكان من الصعب أن يتم سجنهم أو اعتقالهم، وأود أن أشير إلى نقطة مهمة قد يخالفني البعض فيها، وهي أن الكارثة في سورية كانت في الفهم العقيم لدى القائمين على الحراك التنفيذي، إذ كان هناك أشياء يفتعلها بعض المديرين التنفيذيين بدافع الخوف الشديد، لأنهم لم يجرؤوا على الاقتراح والاختراق، واستغلال عدم وجود سياسات مكتوبة للنظام، وأنا -شخصيًا- استطعت الحصول على موافقة الرئيس في العديد من الأمور والمقترحات التي كانت مرفوضة من قبل الوزراء والتنفيذيين، وكما ذكرت سابقًا كان هناك ضغط ورقابة، ولكن ليست بهذه الشدة والحدة”.
ناقشت الندوة في المحور الثالث السياسات الثقافية والإعلامية خلال فترة حكم بشار الأسد، وإلى أي حد كان هناك اختلاف أو مسعى نحو التطوير من قبل الأسد الابن، وأشار نعسان آغا إلى أن بشار الأسد حاول في بداية حكمه أن يمنح المجتمع المدني هامشًا من الحرية، من خلال ما سُمي بـ “ربيع دمشق”، لكن هذا الأمر أزعج الأجهزة الأمنية بشكل كبير، التي كانت تعتاش على كتابة التقارير الأمنية، ووجدت نفسها غير قادرة على أداء هذا الدور، غير أنها تغلبت فيما بعد على “ربيع دمشق”، وسيطرت على النظام، وتم سجن العديد من الشخصيات المعارضة، منهم هيثم المالح ورياض الترك. وأضاف: “رغم أني كنت في تلك المرحلة سفيرًا ووزيرًا، فإني لم أكن أرى أن بشار الأسد يحمل كل هذا العنف، بل كنت أراه بطريقة مختلفة، وناقشته في العديد من القضايا، ووجدته منفتحًا، لكن الأجهزة الأمنية تغلبت عليه، لأن لها مناطق نفوذ وثروات، وأعتقد أنه توصل إلى نتيجة مفادها أنه إذا أراد أن يستمر في الحكم؛ فعليه ألا يجعلهم خصومه”.
وفي المحور الرابع، ناقشت الندوة أداء المؤسسات الإعلامية والثقافية بعد عام 2011، وإلى أي حد تتمتع هذه المؤسسات بالحرية والديمقراطية، ورأى نعسان آغا أن ما حصل في إعلام النظام بعد اندلاع الثورة هو مصيبة بكل المقاييس، وانهيار كامل في منظومة الإعلام، واضطراب فكري وصل إلى حد اللامعقول والعبث. أما على صعيد المعارضة، فأشار إلى وجود ظاهرة أو حدث جديد أضيف إلى الثقافة والإعلام، هو انتشار السوشيال ميديا، التي جعلت الإعلام بكل أشكاله في متناول الجميع، وأصبح الكل قادرًا على نشر مقال أو فيديو، فأدى ذلك إلى تراجع وسائل الإعلام وخاصة التلفزيون لحساب منصات السوشيال ميديا، لافتًا في الوقت ذاته إلى أن السوشيال ميديا لم تستطع أن تحجب النخب السورية التي التحقت بركب الثورة، كالمفكر السوري صادق العظم والدكتور أحمد البرقاوي. ولفت نعسان آغا النظر إلى الانتشار الواسع لروايات أدباء ومعارضين اعتقلهم النظام، وأنجزوا أعمال أدبية غاية في الأهمية، وبعضهم كانوا من النساء، كروايات الكاتبة السورية سمر يزبك، إضافة إلى ظهور العديد من الشعراء والفنانين خلال مرحلة الثورة، بعضهم كان معروفًا سابقًا وتعرض للاضطهاد والعنف من قبل النظام.
من جانب آخر، تحدث نعسان آغا عن مكامن الضعف في الأداء الإعلامي للمؤسسات والهيئات السياسية التابعة للمعارضة، ورأى أن من الصعب إطلاق أي حكم أو تقييم، لأن الإعلام في عهد الثورة منفلت وفوضوي، والأهم من ذلك كله هو إعادة إنتاج أخطاء الماضي أو أخطاء إعلام النظام، ما جعل الإعلام المعارض وسيلة للصراع وتصفية الحسابات. وأضاف: “لا يوجد أي كيان سياسي سوري معارض يمتلك منبرًا إعلاميًا مهنيًا، ولم يساعدنا أحد في إطلاق قناة تلفزيونية تعبّر عن الموقف، ولم ننجح في إطلاق جريدة يومية تنشر أخبار الثورة كل يوم صباحًا، وتتضمن ردودًا على من يحاولون أن يشوهوا الثورة، لكن في المقابل كانت هناك نشاطات فردية مهمة جدًا”.
وحول مدى الأضرار التي ألحقتها الفصائل الإسلامية المتشددة في الثورة السورية، والتي دفعت العديد من الأطراف للعزوف عن دعمها كثورة شعب، ذكر نعسان آغا أن الإسلام استُخدم لمقاومة الثورة، وتم القضاء على الجيش الحر على يد تنظيم “داعش” و جبهة النصرة، مشيرًا إلى أن أميركا وإيران وروسيا والنظام السوري هم من ساهموا في صناعة تنظيم “داعش”، وتم دعم جبهة النصرة أيضًا من قبل مجموعة أصدقاء سورية، وما زال هذا الدعم مستمرًا حتى الآن، حيث حمل التنظيمان المتشددان على عاتقهما مهمة تشويه الإسلام، وكنتيجة لذلك انتشرت ظاهرة “الإسلاموفوبيا” على نطاق واسع حول العالم.
وفي الختام، أجاب الدكتور رياض نعسان آغا عن أسئلة المتابعين الواردة على صفحة مركز حرمون في (فيسبوك)، وردًّا على سؤال حول مدى تأثير تقلّب الأديب، من جهة سياسية إلى أخرى، على إبداعه وتقبّل الجمهور له، قال إن ذلك يحدث فقط عند حدوث حدث جلل ومحوري يدفع المثقف إلى أن يغيّر موقفه، وأكد أن وجوده مع النظام في مرحلة ما من تاريخ سورية، وتقلده العديد من المناصب المهمة، لم يثنه عن الالتحاق بالثورة، بعد رؤية دماء الشباب تسيل في شوارع سورية لأنهم طالبوا بالحرية.