عقد مركز حرمون للدراسات المعاصرة ندوة بعنوان “سورية… الدولة الأمنية”، شارك فيها كلّ من اللواء محمود علي، قائد الشرطة سابقًا في السويداء؛ والعميد نبيل الدندل، رئيس فرع الأمن السياسي في اللاذقية سابقًا؛ وعبد الله النجار، ضابط منشق عن الأمن السياسي، وأدارتها الإعلامية ديمة ونوس.
تناولت الندوة واقع الدولة الأمنية في سورية، وتركيبتها وهيكلياتها، ومستوى تحكّم الأجهزة الأمنية في الدولة السورية ومؤسساتها، وتأثير سطوة هذه الأجهزة على الحياة السياسية والاقتصادية والعامة خلال خمسة عقود، والأدوار المنوطة بالأجهزة الأمنية، ومستوى تناقضها مع الدستور والقوانين السورية، ومدى قوة هذه الدولة الأمنية وتماسكها، ومواقع الخلل والضعف فيها، وتأثيرها على أيّ حلّ سياسي مُرتقب لسورية.
استهلّ اللواء محمود علي الندوة بالحديث عن بداية تأسيس الدولة الأمنية في سورية، وكيف تبلورت هذه الدولة، وكيف تكرّس النظام الأمني في سورية بشكل حقيقي.
وأوضح أن حكم الدولة الأمنية الحقيقي بدأ في السبعينيات، وكانت بداية التأسيس الأمني بعد أحداث “الإخوان المسلمين” التي وقعت في سورية في عام 1979 واستمرت حتى عام 1982، وسيطر بعدها رأس النظام “حافظ الأسد” على كلّ مفاصل الدولة التي أصبحت في خدمة النظام الأمني، وأكد أن “أجهزة الأمن كانت موجودة أصلًا في سورية، ولكن حافظ الأسد حوّلها بخطة معيّنة إلى خدمته شخصيًا، وتكرست هذه الخطة المحكمة نتيجة الظروف التي حدثت في سورية، من خلال ما يسمى حركة الإخوان المسلمين في حينها، وبهذا سيطر رأس النظام على كل مفاصل الدولة في سورية”.
وأضاف أنّ نظام الأسد ما يزال ممسكًا بكلّ قطاعات الأمن في سورية، وهو مستقرّ أمنيًا، وبقاياه ستبقى محافظة على نفسها وعلى صلاتها، حتى لو تلاشى وتدمّر بشكل شبه كامل، والسبب برأيه هو “الجذور التي زُرعت من قبل حافظ الأسد، وترسخت على مدى عشرات السنين”.
أمّا العميد نبيل الدندل، فرأى أن بداية التسلط الأمني في سورية على مركز الدولة كانت في عهد عبد الحميد السراج، “لكن بعد قيام ثورة البعث عام 1963، انتقل مفهوم الأمن في سورية، من مفهوم الولاء للوطن إلى مفهوم الولاء للحزب، ومن ثم تمّ تشكيل مكتب أمني في حزب البعث، يسمى “مكتب الأمن القومي”، بدأ يمارس سياسته الأمنية، في صيانة الحزب وعدم المساس بتوجه حزب البعث في ذلك الوقت.
وأشار إلى أنّ حافظ الأسد، بعد تسلّمه السلطة، “حوّل الأمن من مفهوم لأمن للحزب، إلى مفهوم الأمن لرأس النظام ولسلطة حافظ الأسد ولطائفة حافظ الأسد، وكان أول ما فكر به الأسد هو كيف يبدأ بالهيمنة الأمنية على مفاصل الجيش والشرطة والمجتمع، وكان إنشاء شعبة المخابرات العسكرية وسيلته للهيمنة على الجيش، وإعادة ترتيب الجيش بما يخدم نظامه وشخصه وتوجهاته”.
وذكر الدندل أن شعبة المخابرات العسكرية، منذ استلام حافظ الأسد حتى الآن، “لا يتناوب على رئاستها إلا أشخاص من الموثوقين ومن الطائفة العلوية، وتعتبر المفصل الأمني المهم بالنسبة إلى حافظ الأسد وبشار الأسد، وهي العمود الفقري لعمل أجهزة الأمن الأخرى في سورية، وهي الجهاز الوحيد الذي لا يُسأل المنتسبون إليه عن الجرائم التي ارتكبوها، وبالتالي فإن جهاز الأمن العسكري هو المسؤول رقم واحد عن كل الجرائم الكبرى في سورية التي مارستها أجهزة الأمن ضد الشعب السوري، وبعد أن أنهى حافظ الأسد تسلطه على الجيش، وانتهى من إعادة ترتيبه؛ بدأ يفكر في الوضع الداخلي، واعتمد بذلك على محورين: شعبة المخابرات العسكرية، والفرع الداخلي في أمن الدولة، وهو جهاز مستقل بحد ذاته”.
وتحدث الدندل عن سياسة حافظ الأسد الأمنية، وأشار إلى أن الجيش وخطر الجيش كان الهاجس الأول بالنسبة إلى حافظ الأسد؛ “لأن الجيش هو الأداة الوحيدة لقلب نظام الحكم في سورية، وهذا الأمر دفعه إلى تأسيس شعبة المخابرات العسكرية، لمراقبة الضباط والمجندين، وبعد أن أنهى ترتيب الجيش واطمأن إلى عدم بقاء أي خطر من الجيش، توجّه نحو الهيمنة على المجتمع السوري، وكانت أكبر مشكلة يفكر بها حافظ الأسد هي المدّ الديني في سورية، وكيف يمكن فرض الهيمنة الأمنية المطلقة على المجتمع السوري المتدين، وتمكن من ذلك تحت بند الإعدام لكل من ينتمي إلى الإخوان المسلمين، وعمل على تقسيم سورية إلى قطاعات من الاتهامات الأمنية، يدخل في دائرتها محاسبة كل شخص لا يروق للنظام وجوده أو شخصيته.. الخ”.
وبيّن أن سياسة حافظ الأسد الثابتة، في موضوع الهيمنة على كل قطاعات المجتمع في سورية، كانت تقوم على “إفساد الناس، سواء أكانوا عسكريين أو مدنيين، وإشغالهم بالنهب العام”.
وعن مستقبل الأمن في سورية ما بعد بشار الأسد، قال الدندل إن “القضية الأمنية قضية دستورية، وهي وضع آلية لعمل أجهزة الأمن وفق الحالة الوطنية، وبالتالي القضية ليست في تغيير الجهاز الأمني أو الأشخاص وإنما القضية تتعلق بتغيير العقل الأمني. الأمن في كل دول العالم يرصد ويقدم معلومة دون أن يتدخل، بل يكلّف الشرطة بالتدخل، لكنه في سورية هو صاحب السلطة التنفيذية في كل شيء”.
وعن الآلية التي اتبعها الأسد الأب ثم الابن، لتكريس مفهوم الدولة الأمنية في سورية، رأى الضابط المنشق عن الأمن السياسي عبد الله النجار أن الدولة الأمنية في سورية بدأت باستلام حزب البعث للسلطة، وانتهت بانتهاء أحداث الثمانينيات وتكريس الدولة الأمنية والانتقال إلى الدولة ما بعد الأمنية، التي نسميها “الدولة الأسدية”، وبنائها على إعطاء الأجهزة الأمنية الصلاحية المطلقة.
ولفت النظر إلى أن “الولاء بالمطلق أصبح فقط لرأس النظام الذي فَرض العداء البيني والتنافس البيني بين هذه الأجهزة، للمحافظة على سلطته، وحدد وظائف هذه الأجهزة بحماية رأس النظام تحديدًا، ولا علاقة لها بحماية الوطن، ومن هنا، استطاع الأسد الأب ومن بعده بشار الأسد، ترسيخ وتكريس مفهوم الدولة الأسدية، من خلال العامل الديموغرافي في هذه الأجهزة الأمنية”.
وأشار إلى أن كل الأجهزة الأمنية كانت قوية وضعيفة، في الوقت نفسه، وكان يريد حافظ الأسد لها أن تبقى على سوية واحدة، باستثناء بعض الشخصيات التي استلمت قيادة أحد هذه الأفرع، وكان لها حظوة لدى رأس النظام حافظ الأسد أكثر من غيرها، ومَنَح أجهزتها الأمنية صلاحيات كبيرة بعكس أجهزة أخرى، “أما اليوم، فأصبحت الأجهزة الأمنية لا شيء، أمام الميليشيات الإيرانية وغير الإيرانية التي اتخذت موقعها الأمني والعسكري على أرض الواقع”.
وفي ختام الندوة، أجاب النجار عن سؤال: “هل يمكن التخلص من الدولة الأمنية؟” بأن “الدولة الأمنية تمظهرت بعدة مظاهر، إضافة إلى تدخلها في كل مناحي الحياة، ولكي نستطيع التخلصَ من مظاهر الدولة الأمنية، يجب ترسيخ القانون، ويجب أن تخضع الأجهزة الأمنية للقانون، ويجب السماح بمحاكمتها أمام القضاء، ويجب وقوفها -كما الجيش- على الحياد، ولا يجوز لها أن تمارس السياسة لا لصالح حزب أو ضد حزب آخر. ودون إعادة هيكلة هذه الأجهزة الأمنية، لا يمكن لأي عملية أو حل سياسي أن ينجح”.
اللواء محمود علي: من عين الفيجة، يحمل إجازة في الحقوق، انتسب إلى وزارة الداخلية، خدم في مواقع مختلفة في وحدات الشرطة، منها ثمانية عشر عامًا رئيسًا لفرعي أمن جنائي في محافظتين، وقائد شرطة في عدة محافظات، انشقّ عام 2012 وغادر سورية.
العميد نبيل الدندل: أحد شيوخ قبيلة العقيدات في سورية، من مدينة البوكمال محافظة دير الزور، عميد سابق في وزارة الداخلية، شغل مناصب عدة في شعبة الأمن السياسي، آخرها رئيس فرع الأمن السياسي في اللاذقية.
عبد الله النجار: ضابط أمن سياسي، يحمل إجازة في الحقوق، عمل اثني عشر عامًا في محافظة الحسكة، انشق عام 2012، ويعمل حاليًا في مجال الدراسات والأبحاث المتعلقة بشرق الفرات، وبقضايا أمنية وعسكرية.