أولًا: مقدمة
قرأنا وسمعنا نقدًا متفاوتًا لمركز حرمون للدراسات المعاصرة في ما يتعلق بالندوة التي عقدها في موسكو في 4 و5 شباط/ فبراير 2017، بالتعاون مع مركزين بحثيين روسيين معروفين. بعض هذا النقد كان محترمًا، وجاء بعضه في صيغة الاستفسار أو محاولة فهم هذه المبادرة، وهذا نتعامل معه باحترام ونطمح إلى الاستفادة منه؛ فيما بعضه الآخر يدلِّل على ضيق الأفق وعدم الدراية في السياسة، وبعضه جاء في صيغة شعبوية وغوغائية، يعتقد أصحابه أن كل مواطن روسي هو بوتين، وهذا بلا شك اعتقاد ساذج.
تمنينا لو فكر هؤلاء قليلًا ليدركوا أن خطابهم وطريقة نقدهم متوقّعان ومعروفان لدى كثيرٍ من السوريين، ومن ثمّ بداهة إدراك أن إدارة مركز حرمون عندما قررت عقد الندوة في موسكو فهذا يعني أنها تمتلك سلفًا -على الأقل- ما يكفي من الحجج العقلية للردّ على هذا النوع من النقد المتوقّع؛ على أن ردّنا يأتي في سياق الإسهام، بدرجة ما، في منع بعض السوريين من الانجرار وراء الغوغائيات مرة أخرى.
من الغريب حقًا ألا يقف هؤلاء أمام أنفسهم -بعد ستّ سنوات مريرة- ويراجعوا أنفسهم ويطوِّروا تفكيرهم وممارساتهم، على أقل تقدير التوقف عن الاعتقاد أن الصراخ والعويل والشتائم يمكن أن تردّ عدوانًا أو تبني وطنًا ودولة أو تحقق حرية وكرامةً.
في حقل السياسة، من يحرِّكه الغضب فحسب لا يعتدّ برأيه، فالغضب غير العاقل لا يسير بالواقع والثورة نحو برّ الأمان، خصوصًا إذا كان هذا الغضب مقترنًا بأمية سياسية؛ مع علمنا أن الغاضبين الشتامين سرعان ما يغيِّرون آراءهم في اتجاهات معاكسة، لكنهم أبدًا لا يستطيعون تغيير نهجهم وطرائق تعاطيهم مع الوقائع والحوادث والأفكار.
ثانيًا: مركز حرمون للدراسات المعاصرة
بعد ستّ سنوات مرّة، لم يتعلم أصحاب الخطاب الشعبوي التمييز بين الميادين والحقول المتنوعة في النشاط البشري، بل ما زال كثيرٌ منهم يتعاملون مع أي شيء تحت شعار “كله عند السوريين صابون”، فهم لا يتقنون أبدًا التمييز بين الأحياز السياسية والثقافية والمدنية والبحثية والإغاثية والعسكرية، وأدوارها ووظائفها المختلفة.
مركز حرمون ليس مؤسسة عامة ولا جهة معارضة أو ثورية أو سياسية، مركز حرمون ليس منصة من منصات ما يسمى “المعارضة السورية”، وليس من اختصاصه إجراء أي “حوار سياسي” مع أي دولة؛ مركز حرمون هو مؤسسة خاصة، مستقلة، بحثية، ثقافية، تهتم بالشأن العام السوري وفق رؤية وطنية سورية ديمقراطية، على الرغم من أن جميع العاملين فيه هم من مؤيدي الثورة السورية بوصفها ثورة حرية وكرامة ولا أي شيء آخر؛ ولا نظن أن إحدى مهمات الثورة تأميم الدولة والمجتمع والوطن والسياسة والجامعات والمدارس والمراكز البحثية لتصبح جميعها “ثورية”، على شاكلة ما فعلته “ثورة 8 آذار”، خصوصًا أن أصحاب الخطاب الشعبوي الثوري لديهم مقاييس خاصة احتكارية لـ “الثورية”، يريدون فرضها على الجميع، وإلا قذفوه باتهامات شتى، على الرغم من أن الواقع أثبت عقمها.
مركز حرمون أيضًا ليس مؤسسة تمويلية، ولا مؤسسة خيرية، فهو في حاجة إلى من يدعمه، لكن المركز -وبوضوح شديد- ليس في وارد صرف ليرة سورية واحدة في غير مكانها، ونجاحه اللافت، نسبيًا، خلال الفترة الماضية (أُسِّس المركز في 17 نيسان/ أبريل 2016، أي منذ 10 أشهر فقط) لم يكن بسبب “كثرة المال” كما ألمح بعض هؤلاء، فكم من أموال أُنفقت على مراكز ومجموعات لم تنتج أي شيء مفيد ، بل إن ذلك يعود إلى أربعة أسباب رئيسة: الرؤية الواضحة والمتماسكة، التدقيق في اختيار العاملين وفرق العمل المنسجمة، الإدارة الناجحة للبشر والمال، الأمانة والنزاهة. ذكرنا ذلك لأن بعض الذين حاولوا الإساءة للمركز، تحت ذريعة عقده لندوة بحثية في موسكو، هم ممن توجهوا إلى إدارته طالبين التمويل أو التوظيف أو التبرع.
جدير بالذكر أن مركز حرمون للدراسات المعاصرة هو مركز مرخص في أربع دول حتى اليوم: تركيا، قطر، فرنسا، ألمانيا؛ وليس لديه مركز رئيسي، بل لديه إدارة مركزية رئيسة ممثلة بمجلس أمناء المركز وإدارته التنفيذية، وأعضاؤها موزعون في بلدان عدة؛ وسيعمل المركز من أجل الحصول على تراخيص أخرى في بلدان جديدة مستقبلًا. وخلال الفترة السابقة عقد المركز ندوات عديدة في مدن مختلفة: الدوحة، غازي عنتاب، إسطنبول، برلين، موسكو؛ وقريبًا سيعقد ندوات في باريس وبيروت، وربما غيرها.
ثالثًا: ندوة مركز حرمون في موسكو
ندوة مركز حرمون في موسكو هي ندوة علمية بحثية بين باحثين وكتاب سوريين وروس، من بين أهدافها التعرف عن قرب إلى رأي أكاديميين روس لا ينتمون إلى الجهاز البيروقراطي الروسي من أجل فهم أعمق للسياسة الروسية، والتعرف إلى رأي جزء رئيس من النخب الروسية التي تؤثر في صنع القرار؛ ومن ثمّ نقل رؤى وطنية سورية إلى نخبة من الباحثين الروس تختلف عن تلك التي يسمعونها عبر وسائل الإعلام الروسية التي تتبنى رؤية النظام السوري، ومن ثمّ التأثير في الرأي العام الروسي عمومًا ولو بدرجة طفيفة؛ فالعمل السياسي الصائب هو العمل الذي يراكم تدريجيًا، ويهتم بإحداث تغييرات وإنجازات طفيفة عبر الزمن، ربما تخلق مع الزمن شيئًا كبيرًا، هكذا يعلمنا تاريخ الناجحين، على العكس من العقليات الكسولة التي تريد أن يصبح العالم والدول كما تريد من دون أن تبذل أي جهد.
إن اللعب على التناقضات والخلافات الطفيفة بين الدول هو أحد النقاط الرئيسة في العمل السياسي الناجح، وإن التدقيق في تفاصيل المواقف والمصالح الدولية وتبايناتها هو من شروط التفكير السياسي الصائب؛ فسورية اليوم تعاني احتلالات عدة، وصراعًا دوليًا إقليميًا فيها وعليها، ومن المهم فهم تلك المواقف والمصالح وتبايناتها كمقدمة للتأثير فيها.
من المهم الاطلاع عن كثب على ماهية الموقف الروسي في سورية، فلو سألنا “المنتقدين” الشعبويين للندوة، بل ومعظم “المعارضة السورية”، عن سرّ الموقف الروسي إلى جانب نظام الأسد، لما وجدنا تحليلًا مقنعًا، فما لديهم هو محض كلام عام لا قيمة علمية أو سياسية له.
شارك في هذه الندوة باحثون روس لهم مواقف مختلفة تجاه ما يجري في سورية، وتجاه مشاركة حكومتهم وجيشهم في العدوان على السوريين؛ بعضهم مؤيد لبوتين، وبعضهم معارض، بعضهم رمادي التوجه، بعضهم عارف بما يجري في سورية، وبعضهم لا يعرف شيئًا إلا من الإعلام الروسي. من حسنات الندوة أنها دفعت بعضهم إلى الاقتناع بضرورة الاطلاع وإعادة بناء أفكارهم من جديد.
اهتم الباحثون الروس المشاركون في الندوة بشيئين لافتين: الدراسات التي قدّمها مركزنا حول إيران ودورها في سورية، والدراسة التفصيلية التي أنجزها مركز حرمون حول المرحلة الانتقالية في سورية، وطالبوا بعقد ندوات حول هذه الموضوعات، وما كان لهم أن يهتموا بذلك لو لم يصدر المركز هذه الدراسات ويوزِّعها باللغة الروسية. جدير بالذكر أن مركز حرمون يُصدر رأيًا سياسيًا تفصيليًا كل أسبوع، منذ تأسيسه وحتى اليوم، ويترجمه إلى اللغات التالية: الإنكليزية، الفرنسية، الروسية، التركية، الكردية؛ وهو ما لم تقم به أي جهة معارضة أو تحالف سياسي، إذ اكتفت “المعارضة السورية” في معظمها بإصدار بيانات شعبوية هزيلة لا يعرف بها إلا عدد محدود من السوريين.
كان رأي الجالية السورية في روسيا، الموالية للثورة والمعارضة لنظام بشار الأسد، معاكسًا تمامًا لرأي الناقدين في ما يتعلق بعقد ندوة لمركز حرمون في موسكو؛ فقد تواصل كثير من أفرادها مع مركز حرمون طالبين زيادة عدد الندوات وورش العمل في روسيا، لافتين الانتباه إلى أن هذا العمل كان مطلوبًا من البداية لكن “المعارضة السورية” لم تكن تسمع؛ ما يعني أنه يفترض بأولئك “الناقدين” التواضع قليلًا، والكفّ عن النظر إلى أنفسهم بوصفهم وكلاء حصريين للثورة.
أخيرًا، إن مثل هذه الندوة العلمية لا يتمخض عنها نتائج أو قرارات أو بيانات سياسية، بل رؤى وتصورات تنشر ليطلع عليها الجميع، تزيد من معرفتهم بالأمور، وتدفعهم إلى التفكير الجدي خارج نطاق الشعارات التي لا تقدم ولا تؤخر، ويمكن لكل راغب بالتعرف تفصيلًا على مجريات الندوة أن يشاهد تسجيلات الندوة كاملة على موقع مركز حرمون، فضلًا عن أوراق الباحثين المنشورة أو التي ستنشر تدريجيًا.
https://harmoon.org/archives/4084
رابعًا: موقف مركز حرمون من العدوان الروسي
مركز حرمون ليس منبرًا سياسيًا، ولذلك لا يصدر بيانات سياسية بل تقارير عن نشاطه وفاعلياته. لكن من الجدير بالذكر أن شبكة جيرون الإعلامية التي تصدر عن المركز ولها هيئة تحرير مستقلة، قد أطلقت حملة متكاملة في ذكرى العدوان الروسي على سورية، في أيلول/ سبتمبر الفائت، لم يشارك فيها هؤلاء الذين يدّعون الغيرة على الثورة السورية وينتقدون تنظيم مركز حرمون لندوة بحثية في موسكو، بل إن بعضهم طلب المال لقاء مشاركته.
في تلك الحملة، قدمت شبكة جيرون الإعلامية شيئًا مغايرًا -بحسب استطاعتها- كتعبير عن الموقف المعارض للعدوان الروسي: تنظيم تظاهرات داخل وخارج سورية، ندوات وورشات عمل تناولت العدوان على المستوى السياسي والعسكري ومن وجهة نظر القانون الدولي وحقوق الإنسان، أغاني مخصّصة لفضح العدوان الروسي، فيديوهات مصورة توضح الدمار الذي سببه العدوان، بروشورات وصور (مسابقة أفضل تصميم غرافيك يتناول العدوان الروسي)، مقالات ودراسات… إلخ.
واضح أن أصحاب الخطاب الشعبوي لا يميِّزون بين “الموقف السياسي” و”العمل البحثي”؛ موقف مركز حرمون تجاه الاحتلال واضح قولًا وفعلًا، وعمله البحثي والعلمي لا يحكمه إلا المهنية والبحث عن الحقيقة.
خامسًا: كلمة أخيرة
لا خوف على العاقل وصاحب الموقف الوطني الواضح من الحوار مع أي جهة؛ ومن يخاف لا يثق بنفسه أو بموقفه. ماذا يقول أولئك الشعبويون عن الوفد السوري الذي ذهب إلى باريس في عام 1936 مودعًا بأفخم مظاهر الحماسة الشعبية، للتفاوض مع فرنسا التي تحتل سورية، وكان الوفد مؤلفًا من مجموعة من الشخصيات التي أصبحت في ما بعد شخصيات وطنية سورية يفتخر بها السوريون، مثل هاشم الأتاسي (رئيس الوفد) وسعد الله الجابري وفارس الخوري وجميل مردم؛ هذا إن لم نذكِّر “الناقدين” بأمثلة من الواقع الحالي: مشاركة الفصائل “المعارضة” الأكثر راديكالية في حوارات رسمية مع الحكومة الروسية ذاتها، مثل “الائتلاف الوطني” و”الهيئة العليا للمفاوضات” و”الفصائل الإسلامية المسلحة”.
هناك رؤى وتصورات وآليات عدمية شائعة، تنطلق من قاعدة أساسية مؤداها رفض وإدانة كل شيء وصولًا إلى اللاشيء؛ أصحابها لا يعملون أو عاجزون عن القيام بأي عمل من شأنه أن يترك أثرًا إيجابيًا، ولذلك تراهم متفرغين لهدم أو إفشال أي عمل؛ ومن المعروف أن العاجزين يكرهون الناجحين. وهناك أيضًا كسالى يبنون قناعاتهم ومواقفهم استنادًا إلى الإشاعات والكلام المنقول أو المجتزأ؛ وهذا لا يزيدهم إلا تشويشًا وإرباكًا، بدلًا من الذهاب إلى النبع مباشرة أو اعتماد التحليل الموضوعي الهادئ لكل ما يسمعون ويقرؤون.
أخيرًا، يستند مركز حرمون للدراسات المعاصرة في نشاطه إلى رؤية في غاية الوضوح والحدة والتكامل، ويفتح أبوابه لكل صاحب نقد حقيقي، لكن لا تعوقه أبدًا الأصوات الشعبوية، بل على العكس تعطيه إصرارًا على العمل في الاتجاه الصحيح، والزمن كفيل بتمييز الغثّ من السمين، كما يقول مضمون الآية الكريمة “فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض”.
المكتب الإعلامي في مركز حرمون للدراسات المعاصرة
27 شباط/ فبراير 2017