أقام مركز حرمون للدراسات المعاصرة، السبت 20 حزيران/ يونيو 2020، ندوة بعنوان “من إعلام سلطة شمولية إلى إعلام حرّ“، شارك فيها من إسطنبول الصحافي والكاتب بشير البكر، رئيس تحرير “تلفزيون سوريا”، ومن كاليفورنيا الباحث والصحافي وائل السواح، المدير التنفيذي لمنظمة “مع العدالة”، وأدارتها الإعلامية ربا حبوش.
ناقشت الندوة وضع الإعلام السوري، منذ استلام حزب البعث السلطة في سورية، والإطار القانوني الناظم لملكية وسائل الإعلام، وسياسة كمّ الأفواه ومنع الأقلام التي مارسها النظام السوري طوال خمسة عقود. وتطرقت إلى أهمية وجود سياسة إعلامية وتحريرية مكتوبة، وكيف هيمنت وسائل الإعلام الرسمية وانحرف دورها، وصارت تُعبّر عن رأي الدولة رسميًا والسلطة الحاكمة فعليًا. وتطرقت إلى الإعلام المعارض “البديل”، ومدى نجاحه ومهنيته ورسوخه، والصعوبات التي يمكن أن يواجهها السوريون لتأسيس إعلام متوازن تحرري يُمارس سلطته الرابعة بفاعلية.
وبدأت الندوة بالحديث عن وضع الإعلام في سورية بعد استلام حزب البعث للسلطة، والإطار القانوني الناظم لملكية وسائل الإعلام، المتمثل بالبلاغ رقم 4 الصادر في 8 آذار/ مارس 1963، الذي أوقف الصحافة المطبوعة، وتأثير ذلك على الإعلام في العقود الخمسة التالية في سورية. وأشار وائل السواح إلى أن هذا التاريخ كان بداية لمرحلة جديدة من الكبت والتقييد، في تاريخ الإعلام السوري، وراح ضحية ذلك عشرات الصحف التي كانت تصدر في مختلف المدن السورية.
وقدّم السواح نبذة مختصرة عن حالة الإعلام السوري، قبل وصول حزب البعث إلى السلطة، وتحدث عن مستوى الحرية الذي كانت تتمتع به الصحافة حتى في مراحل الانقلابات، حيث لم يكن هناك إغلاق للصحف أو تكميم للأفواه، بل كانت تُفرض قيود أكثر على حرية التعبير، لكنها لم تصل إلى المستوى الذي وصلت إليه، في عهد جمال عبد الناصر الذي أغلق جميع الصحف، وفي عهد حزب البعث الذي فعل الشيء نفسه. ورأى السواح أن البلاغ رقم 4 كان تأسيسًا لعهد جديد من القمع الفكري والسياسي والإعلامي، وبداية تاريخ من العمل في الظلام لجميع مؤسسات الدولة دون رقيب أو حسيب. وأضاف: “على مدى العقود الثلاثة الأولى، لم يكن في سورية سوى ثلاث جرائد رسمية (البعث، تشرين، الثورة)، إضافة إلى عدد من الجرائد المحلية التي كانت تصدر في بعض المحافظات، ومحطة تلفزيونية واحدة، ثم أصبح هناك محطتان، وبعدها افتُتحت الفضائية السورية وأصبح هناك 3 محطات، وهذا كله كان قبل ما يسمى بمرحلة “الانفتاح”، في عهد بشار الأسد، الذي كان انفتاحًا تجاريًا لا يمت بصلة إلى حرية التعبير”.
وتحدث بشير البكر، عن غياب وجود سياسة إعلامية وتحريرية واضحة في سورية، وعن أهمية وجود سياسة تضبط وتنظم عمل المؤسسات الإعلامية، ورأى أن تعمّد النظام بأن لا تكون هناك سياسة تحريرية دليلٌ على أن الإعلام هو ملحق بالنظام والسلطة، وعلى عدم وجود إعلام حر تعددي يتطلب وجود سياسات إعلامية مكتوبة، بل وجود إعلام الحزب الواحد الموجّه لصناعة رأي يخدم النظام. وأضاف: “بعد السبعينيات، تحوّل هذا الإعلام من إعلام الحزب الواحد إلى إعلام الرجل الواحد، حتى إن هناك من يقول إن حافظ الأسد، بعد أن زار كوريا الشمالية، غيّر المزاج السياسي والإعلامي العام في سورية، وتم تكليف أحمد إسكندر الأحمد ليصنع الإعلام الذي يقدس الرجل الواحد، فنشأ نوع من الإعلام بعيد عن رأي الناس، ولا يحترم المجتمع، وأعتقد أن هذه المسألة أكثر خطورة من عدم وجود سياسات إعلامية، فالأخطر هو عدم الاعتراف بمجتمع موجود في سورية، وإن عدم وجود سياسات إعلامية سببه وجود إعلام مفصل على مقاس الحكم”.
وأشار السواح إلى أنه على الرغم من وجود وزارة للإعلام في سورية، فإن الرئيس كان يتدخل في كل التفاصيل في ما يتعلق بالسياسة والاقتصاد والعسكر والمخابرات والإعلام، حيث كان حافظ الأسد المرجعية الأولى والأخيرة للإعلام السوري، مستندًا في ذلك إلى أدواته الخاصة، وأهمّها الأجهزة الأمنية التي لعبت دورًا كبيرًا، وكانت قادرة على إقالة أو تعيين رؤساء تحرير الصحف. وأضاف: “على الرغم من الدور الذي لعبه وزراء الإعلام في تأليه حافظ الأسد وتكريس سياسة الرجل الواحد، فإن الكلمة الأولى والأخيرة كانت للأجهزة الأمنية”.
وتطرقت الندوة إلى أسباب هيمنة السلطة على الإعلام الرسمي في سورية، وتحويله إلى إعلام يمجد رئيس الدولة، وأرجع البشير السبب في ذلك إلى غياب مفهوم “الدولة” في سورية، وتحوّل الإعلام الرسمي إلى وسيلة من وسائل القمع، بدلًا من أن يكون إعلامًا للمجتمع، على عكس الدول المتقدمة التي يكون الإعلام الرسمي فيها، كأي قطاع حكومي، مؤسسة تخدم مصالح الشعب.
وناقشت الندوة مسألة غياب التنوع، والاستحواذ على المناصب في المؤسسات الإعلامية الرسمية من قبل فئات أو طائفة معينة، وكيفية تأثير ذلك على الحالة الإعلامية في سورية. وتحدث السواح عن استخدام النظام للطائفة العلوية التي سيطرت على معظم مناصب الجيش والإعلام، من أجل خدمة مصالحه، وأنّ الأمر لا يتعدى كونه رشاوى يدفعها النظام كي تلتف الطائفة العلوية حوله، لكنهم لم يتمتعوا بأي قدر من الحرية في التعبير، كحال بقية أفراد الشعب السوري.
وتطرقت الندوة إلى الإعلام المعارض أو ما يعرف بالإعلام البديل الذي نشأ بعد قيام الثورة السورية، والإنجازات التي استطاع تحقيقها والعقبات التي واجهته. وأشار البكر إلى غياب وجود صحيفة أو موقع إعلامي معارض يتمتع بمهنية عالية، على الرغم من مرور 10 سنوات على قيام الثورة، ووصف الثورة السورية بالثورة “اليتيمة” على المستوى الإعلامي، بالرغم من وجود عدد كبير من الكوادر الإعلامية المؤهلة. وقال: “مع الأسف، الذين يتصدرون الهيئات السياسية المعارضة لم يكلفوا أنفسهم عناء الجلوس مع الإعلاميين السوريين المهنيين، والحديث عن إمكانية بناء إعلام سوري يواكب الثورة السورية ويعبر عنها”.
كما تحدث السواح عن “المواطن الصحفي” والدور الكبير الذي لعبه في تغطية أحداث الثورة، وناقش مسألة اعتماد المؤسسات الإعلامية المعارضة على الصحفيين الناشئين بعد الثورة، وعدم امتلاك بعضهم ما يكفي من الكفاءة لشغل بعض المناصب الإعلامية. وقال: “لعب المواطن الصحفي دورًا لا يستهان به في تغطية الأحداث، والبعض منهم خسر حياته، إما عن طريق القنص أو تحت التعذيب في المعتقلات، لكن من جانب آخر، أصبحت هناك حالة من التقديس لهؤلاء الأشخاص، ففي بداية الثورة كان البعض منهم يخطئ بشكل غير مقصود، وآخرين عن عمد ويقومون بنشر أخبار كاذبة، كي يثيروا تعاطف العالم مع الثورة. ومع مرور السنوات، بدأت تظهر المؤسسات الإعلامية المعارضة، وكان من المفترض أن يتم الانتقال إلى مرحلة جديدة أو شكل جديد للإعلام، فمن واجب الائتلاف السوري -مثلًا- أن يكون لديه مكتب صحفي جيد ولائق، ومن المعيب أن يتم ائتمان أشخاص لا علاقة لهم بالإعلام على الميزانية المالية المخصصة للإعلام. إن ما تحتاجه وسائل الإعلام المعارض أن تعي أنها في مرحلة تأسيس، وأنها بحاجة إلى التعلم واكتساب الخبرات اللازمة”.
وفي المحور الأخير، تحدث بشير البكر، عن فشل إعلام النظام خلال العقود الخمسة الماضية، في التأثير على المجتمع السوري، وعن إثبات السوريين أن حالة الخضوع التي كانت سائدة خلال السنوات الماضية كانت نوعًا من المراءاة، وأنهم يمتلكون وعيًا كافيًا تجلى في الشعارات التي رفعوها خلال الثورة. وقال: “لقد تبيّن بعد خمسة عقود أن الشعب السوري كان يقرأ في صحيفة أخرى غير صحيفة النظام، ولم يستطع غسل أدمغة الناس أو يقضي على توقهم للحرية والتغيير”.
وفي نهاية الندوة، جرى نقاش مفتوح، أجاب خلاله الضيفان عن أسئلة المتابعين وتعليقاتهم.
يشار إلى أن هذه الندوة تأتي في إطار الحملة الإعلامية الشهرية التي يقوم بها مركز حرمون للدراسات المعاصرة، والتي تحمل عنوان #إعلام_بلا_قيود.