عقد مركز حرمون للدراسات المعاصرة عبر البث المباشر، الثلاثاء 1 كانون الأول/ ديسمبر 2020، ندوة بعنوان “أثر السياسة على الاقتصاد ومستوى المعيشة”، شارك فيها من إسطنبول سمير سعيفان، الخبير الاقتصادي ومدير مركز حرمون للدراسات المعاصرة، وأدارتها الإعلامية السورية هنادي الخطيب.
ناقشت أثر النهج السياسي للدولة وسياساتها العامة في مجال السياسة والاقتصاد، على الأداء الاقتصادي وعلى مستويات الأجور والأسعار، وفرص العمل ومستويات المعيشة. ويأتي اختيار موضوع الندوة، في سياق ضرورة تسليط الضوء على الواقع الاقتصادي في سورية، الذي لم ينل حيزًا كافيًا من الاهتمام والنقاش، على الرغم من التأثيرات السلبية الكثيرة التي ألمت به بسبب التوجه السياسي للدولة.
تضمنت أعمال الندوة العديد من المحاور الهامة، كان أولها طبيعة العلاقة بين السياسة الاقتصاد، وماذا يعني التداخل بينهما، ومفهوم الدولة صاحبة السياسة التدخلّية أو غير التدخلية في الاقتصاد، وكيفية تأثير ذلك على المستوى المعيشي العام، وتحدث الضيف عن مفهومي إنتاج الدخل وتوزيع الدخل، وسياسات الدولة التي تؤثر في العملية الإنتاجية بشكل مباشر سلبًا أو ايجابًا، وتم استعراض أمثلة من العالم حول نماذج تدخل الدولة في الاقتصاد، منها النموذج السوفييتي القائم على امتلاك الدولة للاقتصاد بشكل كامل، والنموذج الاجتماعي الأوروبي القائم على اقتصاد السوق الحرة، وتتدخل الدولة فيه عبر سياسيات عديدة كالضرائب والضمان الاجتماعي، والنموذج الليبرالي وبشكل خاص الأنغلوسكسوني _ الأمريكي الذي يؤمن بالدولة الضعيفة التي لا تتدخل في الاقتصاد.
وفي المحور الثاني، ناقشت الندوة السياسة التدخلية للدولة السورية في الاقتصاد، وتأثيرها على المستوى المعيشي للمواطن، منذ عام 1963 وحتى وصول حافظ الأسد إلى السلطة،وتأميم الدولة للمصانع والشركات بشكل اعتباطي، واحتكارها لمردود القطاع الزراعي والصناعي وأموال المصارف. كذلك تناولت التأثير المتباين للسياسات الاجتماعية التي أجرتها الدولة كتوسيع التعليم والطبابة ودعم القطاع الزراعي، والتي انعكست ايجابًا على جزء من المواطنين، وألحقت ضررًا بالفئات الغنية أصحاب الحرف والخبرة، نتيجة استبعادهم عن مراكز الإدارة، واستبدالهم بأشخاص بعثيين لا يفقهون شيئًا في الاقتصاد، ما أدى إلى خلق مشكلة كبيرة في الإنتاج وألحقت به خسائر هائلة.
وفي المحور ذاته، ناقشت الندوة الدور التخريبي للاقتصاد الذي لعبته سياسة حافظ الأسد بسبب اعتماده على المساعدات الخارجية وخاصة من دول الخليج العربي، ما أدى إلى اضعاف قدرة الاقتصاد السوري، على الرغم من تنوعه في الزراعة والصناعة والتجارة والنفط، والموقع الجغرافي الاستراتيجي لسورية الذي كان من الممكن استغلاله في تجارة الترانزيت. كما تناول المحور عواقب المواقف السياسية التي اتخذها حافظ الأسد كالوقوف إلى جانب إيران في بداية الثمانينات، وخسارة المساعدات الخليجية، ما أدى إلى شح احتياطي الدولة من المال، وأصبح هناك فرزًا اجتماعيًا بين الفئات الغنية والفقيرة، وتزايد هذا الفرز خلال حكم بشار الأسد، وأصبح واحدًا من الأسباب المهمة التي أدت إلى الانفجار والثورة عام 2011.
وفي المحور الثالث، سلطت الندوة الضوء على التأثير المباشر للسياسة في سورية على الأجور والأسعار والمستوى المعيشي للمواطنين منذ عام 1963، وتأثير خسارة المساعدات الخليجية، على تراجع الدعم الحكومي للمشافي والتعليم والقطاع الزراعي، بالإضافة إلى تضخم الأسعار وبقاء الأجور على حالها، وحرمان المواطنين من الحصول على فرص عمل في الخليج، وارتفاع معدلات البطالة، وانعكاس ذلك سلبًا على المستوى المعيشي لغالبية المواطنين بشكل كبير. كما تطرقت الندوة إلى أسباب عزوف المستثمرين عن دخول سوق العمل في سورية، نتيجة عدم استقرار الوضع الأمني، وتقييد الحريات والسمعة السياسية السيئة للنظام السوري.
في المحور الرابع، ناقشت الندوة تأثير التكاليف الباهظة للقرار السياسي الذي اتخذه النظام بخصوص بناء جيش ضخم ودعم الأجهزة الأمنية، على الوضع الاقتصادي في سورية والمستوى المعيشي للمواطنين، بحجة المقاومة والممانعة ومواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وكيف أدت الإدارة السيئة لموارد الدولة إلى تحويل أكثر من 350 ألف جندي من دائرة الإنتاج إلى دائرة الاستهلاك، وخسارة جزء كبير من دخل الدولة، على حساب انشاء المصانع والمشافي وتحسين المستوى المعيشي للمواطنين.
وفي المحور الأخير، ناقشت الندوة مسألة ارتباط الفساد في سورية بالقرار السياسي، وأكد سمير سعيفان على أن الفساد لم يكن نتيجة سوء أو ضعف في الرقابة، بل كان بسبب خشية النظام من الجيش نتيجة للانقلابات العسكرية العديدة التي حصلت في سورية، ورغبته في الحفاظ على السلطة عن طريق رشوة القيادات السياسية والعسكرية والسماح لهم باستباحة كل شيء، بالإضافة إلى سعيه من أجل تأسيس قطاع خاص يخصه ويكون شريكًا له، فكان أن برزت ظاهرة رامي مخلوف وكمال الأسد وعائلة شاليش وغيرهم، الذين قاموا باستخدام السلطة من أجل تحقيق هذه الغاية.
وفي الختام، ناقشت الندوة سبل التوصل إلى الشكل الأمثل للعلاقة الصحيحة بين السياسة والاقتصاد، وماهي السياسة الأنجح اقتصاديًا من أجل استقطاب رؤوس الأموال والحفاظ عليها، وحول ذلك قال سعيفان إن شرط تحقيق ذلك مرتبط بعدم هيمنة الدولة على الاقتصاد، وأن يقتصر الدور التدخلي للدولة على ضبط الخلل، وخلق مناخ جيد جاذب للاستثمار الحر، وأن تكون هناك سياسة خارجية مفتوحة وصديقة، بالإضافة إلى ضرورة سيادة القانون ونزاهة القضاء وحرية الصحافة، وتوافر مناخ ديمقراطي يُمكّن المواطنين من الاحتجاج والتعبير عن الرأي، وأن يكون هناك نظام قابل للمحاسبة و تداول للسلطة ورقابة على المسؤولين.
واختتم سمير سعيفان الندوة بالتأكيد على أنه لن يكون من السهل أن يستعيد النظام الاقتصادي في سورية عافيته بسهولة، خاصة في ظل وجود النظام الحالي والانقسامات التي تعاني منها سورية، وهجرة ملايين السوريين إلى الخارج، وصعوبة عودة أصحاب الكفاءة والخبرة إلى البلد، مشيرًا إلى أن اتفاق الدول الإقليمية والدولية على حل سياسي في سورية، وخروج الميليشيات المسلحة، وتهيئة مناخ ديمقراطي، يمكن أن يكون انطلاقة لبناء نظام اقتصادي جديد في سورية خلال عشر سنوات، أما دون ذلك، فالأمر سيستغرق سنوات لا حصر لها.