عقد مركز حرمون للدراسات المعاصرة، عبر البث المباشر، أمس الثلاثاء 22 كانون الأول/ ديسمبر 2020، ندوة بعنوان: “الواقع المعيشي في سورية.. مآسي المدنيين وإخفاقات النظام”، شارك فيها: عبد الناصر الجاسم، أستاذ إدارة الأعمال في جامعة ماردين، وعمر إدلبي، مدير مكتب الدوحة لمركز حرمون، وأدارتها الإعلامية السورية ناديا كمال الدين.
ناقشت الندوة الأوضاع المعيشية للسوريين في سورية، وحجم ونوع المعاناة التي يعانيها السوريون على الصعيد المعيشي والاقتصادي والأمني في الداخل، وحجم التردي المعيشي الذي يكابدونه، وما يفتقدونه من أساسيات الحياة، وطريقة تعامل النظام السوري مع المأساة الإنسانية اليومية التي يعيشها السوريون.
وفي بداية الندوة، تحدث عبد الناصر الجاسم عن مظاهر الأزمة الاقتصادية في سورية وعن أهمّ مؤشراتها، مؤكدًا أن هذا الموضوع على درجة عالية من الأهمية، كون تأمين لقمة العيش أصبح اليوم بالنسبة إلى المواطن السوري الوجع الأكبر، واصفًا المشهد الاقتصادي في سورية بـ “القاتم”، بسبب الفقر وتدهور مستويات المعيشية والتفاوت الكبير بمعدلات الدخل، إضافة إلى تآكل مقدرات الدولة وانعدام مدخرات الأفراد. وقال إن “مؤشرات المشهد الاقتصادي تتراجع منذ العام 2011 حتى العام 2019، وفي السنة الأخيرة، بدت حدة التراجع واضحة جدًا، وكل هذا الانكماش الاقتصادي الحاد سيضرب معيشة المواطن وقدرته على الوصول إلى سبل العيش”. وأشار إلى أن حوالي 90% من السوريين ينعدم عندهم الأمن الغذائي، وأن الفرد السوري يحتاج إلى 1850 ليرة سورية ليأكل ويشرب فقط، عدا نفقات الطبابة والنقل والتعليم، وهذا يدل على المشهد المأسوي في ما يخص سلة الغذاء السوري، وقال إن “الأسرة السورية تحتال اليوم على لقمة العيش”.
انتقل الجاسم في حديثه إلى مؤشر آخر من مؤشرات الأزمة الاقتصادي، وهو نسبة الاكتفاء الغذائي، وقال إن “حلب تحتل الصدارة في عدم حصولها على الاكتفاء الغذائي، حيث إن حوالي 46% من أسر حلب لا يصلون إلى الاكتفاء الغذائي، تليها الرقة بنسبة 39%، ثم حمص وطرطوس واللاذقية بنسبة 35%، ثم دمشق بنسبة 18%”. ولفت النظر إلى مؤشر آخر وهو السكن، مبينًا أن سورية بلد متحضر عمرانيًا، لكن آلة الحرب، مع استعانة النظام السوري بالقوات الروسية والإيرانية، دمّرت البنى السكنية دمارًا هائلًا، وقال إن “حلب كان لها النصيب الأكبر من الدمار، حيث إن نسبة الدمار في مساكن مدينة حلب بلغت 77%، بحسب الأرقام الأممية، ثم حمص، ثم أحياء في إدلب، ثم دير الزور ومحيط دمشق وريف دمشق”.
وتناول في حديثه مسألة التهجير القسري وانعكاساتها على المواطن السوري، حيث إنها ولّدت كثافات سكانية غير متوازنة في المدن التي باتت نسبيًا آمنة، وهذا الأمر أدى إلى ظهور مظاهر أخرى، من أهمها ارتفاع إيجارات السكن وعدم كفاية البيوت الصالحة للسكن، وقد بلغ متوسط سعر إيجار المنزل في دمشق ما بين 200 إلى 250 ألف ليرة سورية، وهي أرقام مرعبة تفوق قدرة الأسرة السورية على التحمّل، ويضاف إلى ذلك ظاهرة “التعفيش” التي تفردت بها قوى النظام السوري وميليشياته حيث نهبت مساكن المدنيين. وانتقل بحديثه إلى مسألة الرعاية الصحية، مشيرًا إلى خروج 62% من المراكز الصحية عن الخدمة، وهجرة أكثر من 70% من عمالة القطاع الصحي، فضلًا عن الذين غُيّبوا منهم في السجون والمعتقلات، وأضاف أن الاستجابة الصحية ضعيفة جدًا في سورية، وأن الأسرة السورية تحتاج اليوم إلى 33 ألف ليرة سورية شهريًا، للطوارئ وشراء الأشياء الصيدلية المنزلية.
وفي المحور الثاني، تناولت الندوة الأزمات المعيشية والاقتصادية التي تعانيها مناطق الشمال السوري المحررة، وأشار عمر إدلبي إلى أن طبيعة الأزمات الاقتصادية والمعيشية لا تختلف كثيرًا في مناطق الشمال السوري عنها في مناطق النظام، ومن أبرز أوجه الشبه بين مناطق النظام ومناطق المعارضة، ارتفاع الأسعار وتقلّبها تبعًا لارتفاع وانخفاض قيم العملات الأخرى، كالليرة التركية والدولار. وأشار إلى أن الفروقات، بين مناطق المعارضة ومناطق النظام، هي الاستقرار الخدمي الذي تشهده مناطق سيطرة المعارضة السورية في ما يتعلق بتلبية خدمات المواطنين من المواد المعيشية، ولا يتوفر مثل ذلك في مناطق النظام؛ إذ “لم تشهد تلك المناطق على سبيل المثال طوابير طويلة بانتظار حصص الخبز أو الغاز أو الوقود، على غرار ما يحصل في مناطق النظام، ولا خللًا هائلًا في تقديم الخدمات الصحية، بالرغم من تعرّض المنشآت الصحية والخدمية والحيوية لدمار هائل من جراء القصف”.
وذكر إدلبي أن الوضع المعيشي في مناطق سيطرة النظام أسوأ من الوضع في المناطق المحررة، نتيجة عوامل تتعلق بطبيعة وبنية النظام السوري وحجم الفساد الهائل الذي يهدر أموالًا هائلة من خزينة الدولة، ومن الموارد التي كان يفترض أن توجه إلى خدمات المواطنين، وأضاف أن “هناك نقطة ثانية تتعلق بطبيعة الاقتصاد بين المنطقتين، ففي مناطق سيطرة النظام الاقتصادُ موجَّه، بينما في مناطق المعارضة هو اقتصاد حرّ، أي أن آليات العرض والطلب هي التي تتحكم في السوق والأسعار، وهي أكثر عدالة من حيث تسعير المواد ووصولها إلى الناس”.
وفي محور آخر، تحدث الجاسم عن أسباب الأزمة الاقتصادية الحالية في سورية، بعدما أوصلت المواطنين إلى هذا الوضع المزري اليوم، وقال إن “الأسباب يمكن تصنيفها في نوعين: الأول أسباب موضوعية اقتصادية، ومنها تراجع الناتج الإجمالي المحلي بنسبة 66% أي تعطّل عجلة الاقتصاد بشكل عام تقريبًا، وتراجع الاحتياطي النقدي، حيث كان الاحتياطي النقدي قبل 2011، بحسب مصادر النظام، 21 مليار دولار، أما اليوم فتراجع إلى دون المليار دولار، إضافة إلى تراجع نصيب الفرد السنوي من 3000 دولار سنويًا قبل 2011 إلى 500 دولار سنويًا، وذلك بحسب تقديرات النصف الأول من 2020، وتراجع الصادرات والواردات بشكل حاد، إضافة إلى تآكل القطاع الزراعي”.
وأضاف أن النوع الثاني من الأسباب التي أدت إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية وحدّتها هو كيفية التعاطي مع هذا التدهور، وقال: “لدينا في الإدارة مصطلح اسمه (الإدارة بالأزمات)، والنظام يعمل تمامًا بهذه العقلية، فهو يتاجر بأزمات المواطنين وبالأزمات الاقتصادية، ويريد أن يعاقب هذا الشعب الذي تحرك بلحظة تاريخية، من خلال إدارته الأمنية وعقليته الأمنية التي تُفاقم حدّة الأزمات المعيشية والاقتصادية، ويضاف إليها أسباب أخرى، منها هجرة الكفاءات والخبرات والعقول، وهجرة رأس المال البشري هربًا من بطش الحرب وآلة الدمار، ونقص التمويل الحاد، وكل هذه أسبابٌ أوصلت إلى مشهدٍ اقتصادي قاتم، ينعكس بالدرجة الأولى على معيشة المواطنين”.
من جانبه تحدث إدلبي عن الأسباب التي أدت إلى عجز النظام السوري عن إدارة الأزمة الاقتصادية، بالرغم من الوعود التي أطلقها بعد انتهاء العمليات العسكرية واستعادة السيطرة على عدد من المناطق، وأوضح أن المواطنين في مناطق سيطرة النظام، عقب توقف المعارك على الجبهات، أصبحوا أكثر وعيًا لعمق أزماتهم المعيشية ولسوء إدارة النظام للموارد التي تقدم من خلالها الخدمات لهم. وأشار إلى البطش الأمني الشديد لكل من ينتقد سلوك النظام الإداري وحكومته، وإلى أن المواطن لم يعد يخطئ تصويب الاتهامات إلى أصحاب الشأن الرئيسي الذين أفسدوا في سورية على الجانب الاقتصادي. وأعرب عن اعتقاده بأن الشعب السوري الواقع تحت سيطرة النظام “ربما سينتفض للمطالبة بطعامه وشرابه وغيرها من الاحتياجات الأخرى”، وربما نشهد “ثورة جياع” في سورية، إذا وصل التدهور الاقتصادي إلى مرحلة الجوع.
وفي رد على سؤال، حول شروط انفراج الأزمة الاقتصادية ومدى ارتباط هذه الأزمة بالجانب السياسي، أجاب الجاسم بأنه لا يمكن الفصل بين الجانب الاقتصادي والسياسي، فالمستوى المعيشي والضائقة المعيشية التي يعانيها السوريون الآن أصبحت شأنًا سياسيًا بامتياز، من ناحية أن النظام يتاجر بهذه الأزمات في جبهاته السياسية، ومن ناحية أخرى على مستوى الصراع الدولي والإقليمي وتقاسم الحصص والأدوار في سورية، إذ باتت القضايا الاقتصادية وعمق الأزمة المعاشية تطفو على سطح أي تفاوض وأي حديث سياسي.
وأكد أن أزمة السوريين لا يمكن أن تدوم أكثر من ذلك، وقال: “ربما في التبدلات في البيئة الدولية وفي إعادة التوازنات والمصالح، نكون دخلنا في الحلقة الأخيرة في هذه الأزمة”. وأضاف أن الشرط الأساسي لتلك الانفراجة، وتحسن مستوى معيشة المواطن في الداخل والخارج، هو إسقاط بشار الأسد وعصاباته، وهو شرط ضروري، ولا بد من إرساء قواعد انتقال سياسي مدروس، ومن الاتجاه نحو دولة المواطنة، وقال: “نريد حلًا لكل السوريين، سقفُه المقدس هو سورية فقط، دون أي اعتبارات أخرى”. وأشار إلى أن “الانفراجة تحتاج إلى أموال، في ظل الدمار الكبير الذي حل في سورية، وإلى مشاريع كبيرة لإعادة الإعمار، وهي تحتاج إلى تمويل، في حين أن الاتحاد الأوروبي وغالبية الدول تمنع دخول أي يورو أو دولار لإعادة الإعمار، بوجود هذا النظام وهذه السلطة الحاكمة”.
في ختام الندوة، استبعد إدلبي أن يكون هناك انفراجة قريبة للأزمة المعيشية في سورية، مُرجعًا ذلك إلى أن عصابة الأسد متمكنة جدًا من رقاب السوريين في المرحلة الحالية، وإذا لم يكن هناك حل سياسي؛ فلن يكون هناك حلّ للأزمة المعيشية، وستبقى ما بقي الأسد، لأن هذه الأزمة جزء من استثمار الأسد في مشروعه بإخضاع الشعب السوري، وما زال هناك جزء من حاضنة النظام يعتقدون أن استمرارهم متسلطين ومنتفعين مضمون ببقاء الأسد، ولذلك سيدافعون عنه حتى النهاية. ودعا إدلبي إلى ضرورة تحرك الشبكات الاجتماعية لتنظيم حركات احتجاجية وإيصال رسائل سياسية إلى من يمسك بملفات النظام السياسية، وقال “إذا لم تتحرك روسيا للضغط على النظام، ولم تتحرك أميركا جديًا للضغط على النظام سياسيًا؛ فإن الأزمات الاقتصادية والمعيشية ستبقى تثقل كاهل السوريين”.
عبد الناصر الجاسم: أكاديمي سوري، أستاذ إدارة الأعمال في جامعة ماردين – كلية الاقتصاد، عضو هيئة تدريسية جامعة حلب كلية الاقتصاد سابقًا، له العديد من المؤلفات والمنشورات العلمية والبحثية.
عمر إدلبي: مدير مكتب الدوحة في مركز حرمون، كاتب وشاعر وصحافي سوري، ناشط سياسي، عضو تجمع ثوار سورية، إجازة في الحقوق من جامعة دمشق، عضو اتحاد الكتاب العرب، له العديد من الدواوين الشعرية والدراسات المنشورة.