عقد مركز حرمون للدراسات المعاصرة، عبر البث المباشر، الثلاثاء 15 كانون الأول/ ديسمبر 2020، ندوة بعنوان: “الهوية الوطنية السورية بين الإشكالية والالتباس“، شارك فيها بدر الدين عرودكي، كاتب وباحث، نشوان أتاسي، كاتب وباحث، والباحث حسام الدين درويش، وأدارها عمر إدلبي، مدير مكتب الدوحة لمركز حرمون.
ناقشت الندوة البحث الذي نشره مركز حرمون للدراسات المعاصرة أخيرًا، وهو بعنوان “الهوية الوطنية السورية بين الإشكالية والالتباس“، للباحث بدر الدين عرودكي، حيث تناول مجموعة من الموضوعات حول وضع الهوية السورية خلال قرن كامل، وإشكالاتها والتباسها، منذ إعلان المملكة السورية العربية حتى انهيارها بحلول سورية سايكس-بيكو تحت الانتداب الفرنسي. وطرحت الندوة نقاشًا حول مستقبل الهوية الوطنية السورية في سورية الجديدة المنتظرة، وما يمكن اعتماده من مقومات أساس لا بدّ من تظهيرها كي تتحول من هوية موجودة بالقوة إلى هوية وطنية موجودة بالفعل، في ظلّ ورعاية وضمان دولة مدنية ديمقراطية.
في بداية الندوة، وصف عرودكي بحثه المتعلق بالهوية الوطنية السورية بأنه طرحٌ حديث وشديد القرب تاريخيًا، وتناول الفرق بين الهوية الوطنية والهوية القومية، مبيّنًا أن أول إشكال في مفهوم الوطنية السورية هو أننا نتحدث عن مفهوم وطني، كي نتلافى القول مفهوم قومي، لأنه ما إن تقول مفهوم الهوية القومية وتضيف عليها السورية، حتى تلتصق بأيديولوجية قام عليها حزبٌ كامل، وهو الحزب القومي السوري، ولذلك استُخدم مفهوم “الهوية الوطنية” من قبل اليسار الشيوعي بعد استقلال عن سورية، وعندما بدأ الحديث عن وحدة عربية وقومية عربية، وكان الحزب الشيوعي أحد الأحزاب المناهضة لأي وحدة تقوم على أساس قومي، ولا سيما الوحدة السورية المصرية، ولذلك استخدم كلمة وطنية، أما حزب البعث الاشتراكي، فقد استخدم كلمة القطرية، وبقي على المفهوم القومي، بدليل أن ميشيل عفلق (مؤسس حزب البعث) لم يذكر اسم سورية في 6 مجلدات حوَت كتاباته، إلا عندما كان يتحدث عن الوحدة السورية المصرية في بعض مقالاته.
وأوضح عرودكي أن “الإشكال في مفهوم الوطنية السورية يبدأ في هذا التمايز بين الكلمتين، إذ كيف نقول مفهوم الهوية الوطنية الذي هو بالأصل مفهوم معاصر في استخدامه، لا سيما أنه لم يبدأ كمفهوم مستخدم في الدراسات إلا منذ سبعينيات القرن الماضي في فرنسا بشكل خاص”، مبينًا أنه في منتصف القرن الماضي، لم يكن هناك حديث عمّا نسميه الآن “الهوية الوطنية أو الهوية القومية”.
وأضاف أن البحث يتحدث عن مفهوم الأمة ومفهوم القوميات الذي وُلد بعد الثورة الفرنسية مباشرة، وعن هيمنة مدرستين: الألمانية التي اعتمدت اللغة مبدأً جوهريًا في وجود الأمة؛ والمدرسة الفرنسية التي اعتمدت الإرادة الحرة أساسًا لوجود الأمة. وأشار إلى أن هذا المفهوم أدى إلى تعريف مصطلح الهوية على أيدي الأحزاب اليمينية المتطرفة التي كانت تستهدف من ورائه الانغلاق والحفاظ على نقاء الانتماء إلى هذه البلد، دفعًا للهجرات المتتالية التي كانت موجودة ولا سيّما في فرنسا.
وأشار إلى أنه استعرض في بحثه وضع الهويات الوطنية في العالم العربي، بدوائره الأربع، أي التمايز في أربع مناطق عربية هي: الجزيرة العربية، بلاد الشام، وادي النيل (مصر والسودان)، والمغرب شمال أفريقيا، موضحًا أنه أراد دراسة تكوّن الهويات الوطنية في هذه المناطق الأربع، وصولًا إلى القرن العشرين، عندما قامت في بلاد الشام “المملكة السورية العربية” عام 1920، التي أرادت أن تكون ممثلة لبلاد الشام بكاملها، ومنذ ذلك الوقت، بدأت إشكالية الهوية الوطنية، كونها سورية عربية، وهذا الإشكال ارتبط بارتباط مفهوم الهوية بقضية الأمة، وبمدى استطاعتنا أن نقول إن هناك أمة سورية.
وأشار إلى أن السوريين، إبان الانتداب الفرنسي، بدؤوا يشعرون بانتمائهم من خلال الثورة السورية ضد هذا الانتداب عام 1925، التي هيأت أول وعي بالانتماء إلى سورية الطبيعية، وليس فقط “سورية سايكس بيكو”، وبعد انهيار الوحدة السورية المصرية وقيام الانفصال ومن ثم الانقلاب البعثي عام 1963، بدا وكأن الهوية العربية هي السائدة، لكن خلال الفترة البعثية التي امتدت بين عام 1963 وعام 1970، أو “الفترة الأسدية” من عام 1970 حتى عام 2011، كان موضوع الهوية غائبًا كليًا، ولم تكن تُستثمر الهوية العربية إلا لذرّ الرماد في العيون، ولم يكن هناك أي مجال حتى للكتابة حول هذا الموضوع، طوال تلك الفترة.
وأضاف أن موضوع الهوية الوطنية بدأ يُطرح منذ اليوم الأول للثورة السورية في آذار/ مارس 2011، وبدأ بطرح: “واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد”، وانتبهت الجماهير السورية إلى محاولة النظام السوري اللعب على هذه الهوية، والتقسيم الطائفي والإثني، ومن هنا بدأت إشكالية الهوية السورية مرة أخرى، والتبس هذا الانتماء مع تطور الأحداث في سورية.
وفي المحور الثاني للندوة، تحدث نشوان أتاسي، عن تحطيم النظام السوري لأسس الهوية الوطنية السورية أو ما بقي منها، وقال إن “نظام البعث كان نظام انتداب احتلال، بكل معنى الكلمة، إنما تحت غطاء حكم وطني وبشعارات زائفة، حتى الطرح القومي لحزب البعث كان شوفينيًا لدرجة أَبعَدَ فيها كل ما هو عروبي، وقبل عامَين، ألغى بشار الأسد وجود كل عروبي، معتبرًا أن الفتح الذي حصل لبلاد الشام هو غزو من البدو”، وأضاف أن ممارسات نظام حكم الأسد كانت علامة نفي للدولة، لا علامة تأكيد لها، و”حينما ننفي الأمة، فإننا ننفي الهوية”.
وعن رأيه في بحث “الهوية الوطنية السورية بين الإشكالية والتباس”، أكد أن الدراسة غطت معظم المراحل التاريخية للهوية السورية، ليس فقط خلال مئة العام الأخيرة، إنما عاد بالتاريخ إلى أن بلاد الشام لم تشكل يومًا كيانًا مستقلًا بذاتها أو لذاتها، ولم تنجح بذلك إلا تحت سلطة احتلال خارجية، وهنا نجد أن المثال يختلف تمامًا في مصر، كونها كيانًا مستقرًا منذ آلاف السنين، فالهوية المصرية ليست موضع نقاش أو جدال، والسبب في ذلك يعود إلى ما يمكن أن نسميه حضارات الأنهار الكبرى، فوادي النيل هو بحد ذاته انتماء، وهذا الانتماء تجذر في لا وعي المصريين، سواء أيام الفراعنة أو أيام الرومان أو في زمن الحكم الإسلامي، فكان هناك وعي مصري بالهوية موجود ومستمر، وهذا الأمر لم يتوفر في أي منطقة أخرى في العالم العربي.
وقال أتاسي: إن “مشكلتنا في سورية بدأت عندما قُسّمت لنا مساحة جغرافيا معينة عبر (سايكس بيكو) ورفضناها بالكامل ليس لصالح بديل واحد، إنما لصالح بدائل عدة متناقضة ومتناثرة ومتصارعة فيما بينها، كالبديل الإسلامي والبديل العربي والبديل القومي السوري والبديل الأممي، وكل واحد منهم كان يستخدم سورية كمنصة للوصول إلى هدفه الأيديولوجي، ولم يكن أحد يعدّ سورية كيانًا نهائيًا، وبالتالي، لم يكن ممكنًا إنتاج هوية وطنية في بلدٍ أبناؤه يرفضون هذا الانتماء ولا يقبلونه لصالح انتماءات أخرى”.
وأكد أتاسي أن الجغرافيا السياسية هي الأساس في تشكّل الأوطان، وأن الشعوب لا تصنع جغرافيا سياسية بل تصنعها ظروف العلاقات الدولية، وعندما تكون هناك جغرافيا سياسية معينة، ويقبل بها القاطنون فيها وطنًا، ويؤسسون عليها نظام حكم رشيد وعادل؛ تبدأ من هنا عملية خلق الهوية الوطنية، ومثال ذلك حضارات الأنهار الكبرى في مصر، وهي فعليًا جغرافية سياسية أنشأت هوية ووطنًا بمعزل عن المحتلّ، ومن هنا فإن مشكلتنا في سورية أننا رفضنا جغرافيتنا السياسية، ولم نُنتج بديلًا، بل أنتجنا بدائل عدة متناقضة ومتصارعة، إلى أن جاء حزب البعث، وهنا كانت الطامة الكبرى، حيث رُبطت الهوية السورية بـ “سورية الأسد”.
وفي محور آخر من الندوة، طرح حسام الدين درويش، تساؤلات عدة من أبرزها: هل بإمكان الشعب التعبير عن قبوله أو رفضه للهوية الوطنية؟ وهل لديه الإرادة السياسية للتعبير عن ذلك، قبولًا أو رفضًا؟ وهل تكوين الهوية يسبق نشوء الدولة أم يليها؟ وقال: إن “الرأي المهيمن في الدراسات المعاصرة يقول: إن الدولة هي التي تسبق نشوء الهوية والأمة والشعب، وليس العكس”.
وأشار في معرض حديثه إلى أن ما يُسجل لبحث “الهوية الوطنية السورية بين الإشكالية والإلتباس”، هو ربط الهوية الوطنية السورية حاليًا أو ممكناتها المستقبلية، بالديمقراطية، وربطها بعقد اجتماعي، وربطها بتوافق، وهذه مسألة في غاية الأهمية، “حتى لو افترضنا أن التاريخ شهد وجود قوًى استبدادية فرضت أو أنشأت دولًا وطنية أو قومية ما؛ فإنّ الاستبداد مع القومية، غالبًا، إن لم يكن دائمًا، يُنتج فاشية، ولا يُنتج وطنية بالمعنى الإيجابي، ومن المهم هنا التمييز بين الوطنية والقومية”، مؤكدًا أن “الوطنية السورية المنشودة ليست بحاجة إلى سوابق أو عراقة تاريخية، إنما هي ما نأمل أن يكون، وليس ما كان”.
ورأى درويش أن “الوطنية ضرورة مصلحية لجميع الأطراف ولجميع السوريين الذين يمكن أن يعيشوا في هذا البلد، بناء على قيم مشتركة لجميع الأطراف، وأيّ محاولة لاستئصال أو تغليب طرف أو تحقيق مصلحة طرف، هي منافية للوطنية، وستفضي إلى القضاء على ممكنات تحقيق هذه الوطنية”.
وفي ختام الندوة، رد نشوان أتاسي على سؤال من أحد المتابعين للندوة: ما الذي يمكننا القيام به في ظروفنا الحالية لمنع المزيد من تمزق وطنيتنا السورية التي كانت حلمنا طوال السنوات العشر الماضية من عمر الثورة السورية؟ إذ قال: “لسوء الحظ، لم يعد هناك سوريّ واحد، لا في المعارضة ولا في النظام، يمتلك القدرة على الفعل أو يمتلك المبادرة، والكل واقع في المطب نفسه، سواء من المعارضة أو النظام، ونحن اليوم تحت خمس احتلالات ضمن سورية، واحتلالات للمعارضة خارج سورية، ولا نعرف مطلقًا ماذا سيحصل غدًا، فالواقع مؤلم جدًا”.
في حين قال حسام الدين درويش: إن “الثورة السورية أفضَت إلى ظهور انتماء وطني سوري، على الأقل منذ العام 2011، وعلى الرغم من كل التمزقات التي حصلت، كانت هناك أشياء على المستوى القيمي، حصلت بعيدًا عن التصنيفات الدينية والمناطقية والطائفية، وأنتجت قيمًا إيجابية”.
نشوان أتاسي: كاتب وباحث سوري مقيم في فرنسا حاليًا، له كتاب بعنوان “تطور المجتمع السوري 1831 – 2011″، رصد فيه التطوّرات التي طرأت على المجتمع السوري، سياسيًا واجتماعيًا، بين أربعينيات القرن الماضي وبدايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.
حسام الدين درويش: باحث سوري في مركز الدراسات الإنسانية للبحوث المتقدمة “علمانيات متعددة: ما وراء الغرب، ما وراء الحداثات” في جامعة لايبزيغ، ومحاضر في قسم الدراسات الشرقية في كلية الفلسفة في جامعة كولونيا في ألمانيا، حاصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة بوردو في فرنسا، له كتابان باللغة الفرنسية، وكتابان باللغة العربية، ونشر عشرات الأبحاث والدراسات المحكَّمة.
بدرالدين عرودكي: كاتب ومترجم وصحافي، صاحب إسهامات فكرية وثقافية واسعة، ليسانس في الحقوق، ثم في الآداب، دكتوراه من جامعة باريس، كتب في مجالات النقد الأدبي والسينمائي والفني، مدير مجلة (اليوم السابع) سابقًا، ترجم أكثر من ثلاثين كتابًا، المدير العام المساعد لمعهد العالم العربي سابقًا.