عقد مركز حرمون للدراسات المعاصرة ندوة، بعنوان “القوى السياسية الديمقراطية العربية: من أجل الحضور والفعل“، شارك فيها كلّ من الأكاديمي اللبناني سامي عون؛ الكاتب والباحث السوري وائل السواح؛ المحامية والسياسية المصرية نيفين ملك؛ والأكاديمية التونسية صابرين الجلاصي، وأدارها المترجم والكاتب بدر الدين عرودكي.
تناولت الندوة وضع القوى السياسية الديمقراطية في بلدان الربيع العربي خصوصًا، وأسباب تراجع القوى السياسية الديمقراطية أمام كلّ من المدّ الإسلامي وهيمنة العسكر، وسبل العمل من أجل استعادة الدور والفعالية في مواجهة هذا المدّ.
استهلّ سامي عون الندوة بالحديث عن وضع القوى السياسية الديمقراطية في مختلف الدول العربية، ورأى أن الربيع العربي داخليًا فضح العديد من العثرات والعورات في داخل الثقافة العربية، وبالتحديد “الثقافة العربية الإسلامية”.
ورأى أن الأنظمة العربية فشلت على مستويين: الأول أنها استعملت الحداثة للمزيد من القمع، واستعملت العَلمانية الظاهرية للمزيد من تغييب الديمقراطية والصدام مع الإسلاميين وغيرهم من اليساريين.
وعلى المستوى الثاني فإن الأنظمة القائمة، باتت فاشلة في تقديم ما يمكن أن نقول إنه استجابة لتغييرات ديموغرافية أو سكانية أو نمو شباب متعلم مثقف مرتبط عمليًا بالثقافة الغربية أو ثقافة (غوغل) أي أنهم كانوا على تواصل وترابط، وهذه الشريحة هي التي حركت الربيع، وهي التي خابت آمالها في مآلات هذا الربيع العربي”.
وفي ما يخص المشهد في لبنان، أوضح أن لبنان قدّم، قبل الربيع العربي، ما يمكن تسميته محاولة في “الديمقراطية الليبرالية”، ولكن الدولة كانت ضعيفة إلى درجة الاهتراء، وسط فساد مستشري في كل الطبقات السياسية وصولًا إلى قوى المجتمع المدني. وأضاف أن الديمقراطية اليوم في لبنان باتت شكلية، وأدى ذلك إلى غياب “الديمقراطية القيمية”.
وبيّن أنه في ظل “انفراط وسقوط الدولة” في لبنان، بات يُنظر إلى أن الخلاص سيأتي “من باب العسكر” الذي يمثل بحده الأدنى شيئًا بقي من الوحدة الوطنية، وربما يستطيع إنقاذها من السياسيين الفاسدين، وأيضًا هو من يكبح عودة لبنان إلى بؤرة الاقتتال الأهلي المذهبي بشكل مباشر، ويبدو أنه الملاذ الأخير، بسبب تفجّر الهويات المذهبية في لبنان.
واعتبر أن ما يجري عمليًا في لبنان هو أن القوى الديمقراطية الليبرالية لديها تقصير في ربط الديمقراطية بالليبرالية، وتقصير في ربط الديمقراطية الليبرالية بفكرة المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين كأفراد وليس مجموعات، وهذا ما يفسّر إلى حد كبير الفشل في المشهد السياسي في لبنان.
وذكر أنّ التيارات الإسلامية تشكو بدورها من تقصير كبير في عملية الانتقال من الاحتجاج ومن الرفضية والنقد، إلى تقديم بديل فيه قيم وبرامج اجتماعية اقتصادية قابلة للتطبيق، بمعنى أن هذا التقصير نراه في “التيار الإخواني، والتيار السلفي”. وأكد أنّ علينا أن نُبقي الأفق مفتوحًا، أي أن تصبح الفسحة العربية نموذجية في احترام حقوق الإنسان، وأن تعود إلى شيء من الألفة بين المكونات، وعدم اللجوء إلى العنف في حل الإشكالات والمشكلات.
أما نيفين ملك، فتحدثت عن رأيها في غياب القوى السياسية الوطنية، وذكرت أن هناك “تآكلًا” حقيقيًا في وجود القوى السياسية الحقيقة الفاعلة في مصر ما قبل ثورة يناير، وما يزال ذلك مستمرًا. وبيّنت أن هذا التآكل كان لصالح أحزاب تلعب أدوارًا شكلية، من دون أن يكون لها فعليًا أي دور على الأرض الواقع. وأن ما أسهم في ذلك هو وجود جماعات مسلحة مهيمنة على الأرض، أو وجود جماعات إسلامية بخطاب دعوي قادرة على أن تستحوذ على قطاعات كبيرة من الناس.
وكل هذه العوامل، بحسب تعبيرها، صبّت ضدّ الحراك الديمقراطي الذي رفع شعارات من دون برامج تنموية حقيقية واشتباك مع مطالب الناس، وهذا بدوره أدى إلى تفريغ الحياة السياسية وتفريغ الربيع العربي من معناه، وأخذه إلى مآلات أخرى، من خلال استحواذ تيارات إسلامية، ودخول التسليح لتفريغ الثورات لصالح أجندات أخرى.
بدورها، قدّمت صابرين الجلاصي وجهة نظرها في ما يخص القوى السياسية الديمقراطية وحضورها في تونس، وبيّنت أن المشهد السياسي ما قبل الربيع العربي كان “أحاديًا” أي إنه مرتبط بحزب نظام “بن علي”، في حين كان غالبية مؤسسي أحزاب المعارضة يقبعون في السجون أو ملاحقون أمنيًا أو خارج تونس.
ولفتت النظر إلى أن الثورة في تونس تفجرت بحراك شبابي بحت رفع شعارات والحرية والكرامة، إضافة إلى تفجّر قوى سياسية متعددة أغلبها لم يكن لديها أي خبرة سياسية، وكان التنوع والتعدد في القوائم السياسية المختلفة مصدرًا للقلق ومصدرًا للصراع، وأصبحت الأيديولوجيات تُوظف لـ “التكالب” على السلطة والهيمنة. يضاف إلى ذلك أن الفضاء العام أصبح، بعد الثورة، متاحًا لكلّ الحركات الدينية بتوصيفاتها المختلفة التي كانت وبالًا على تونس الذي لم يكن يشهد “ظاهرة التطرف والغلوّ الديني”؛ إذ أصبح الشعب التونسي يشهد حوادث انفجارات وعمليات ذبح وتنكيل بالعسكريين، في الجبال على الحدود مع الجزائر، وهذا المشهد المرعب أثار خوف التونسيين واستنكارهم للحركات الإسلامية، وخوفهم منها بما فيها حركة الإسلام السياسي (النهضة) التي وصلت إلى الحكم، باعتبارها داعمة لهذا الحراك الديني في مرحلة، خاصة أنها عجزت في عام 2012 عن السيطرة على الحركات السلفية، وهذا الانفلات الأمني وعدم الاستقرار والأمن حمّله الشعب التونسي لحركات الإسلام السياسي، أعقبها دعوات من أحزاب كثيرة، وخاصة العَلمانية منها، إلى إنشاء حراك مضاد لهذه الحركات الإسلامية السياسية.
وتطرقت الندوة إلى المشهد في سورية، ومسألة حضور القوى السياسية الوطنية، وذكر وائل السواح أن الوضع في سورية أشد صعوبة من أيّ وضع آخر، موضحًا أن هذا الوضع مختلف عن التجربة المصرية والتونسية، إذ إن كلا البلدين ظلا إلى حد كبير بلدين متماسكَين بوجود حكومة مركزية، وكانت التدخلات الخارجية أقلّ بكثير عما هي عليه في سورية.
وأشار إلى الأسباب التي أدت إلى تراجع القوى السياسية الوطنية، وأوضح أن القوى الديمقراطية تصارع قوى خلاصية وقوى لديها الحل المطلق، كالقوى الإسلامية والقوى السلطوية، في حين أن القوى الديمقراطية لديها عالم مفتوح، ولكن لا يمكنها أن تقدم أي وعود تتعلق بأي شيء، ما لم يكن هناك عمل جماعي للوصول إلى النتائج، الأمر الذي يجعل موقف القوى الديمقراطية أضعف من موقف القوى الخلاصية الأقلوية. وأضاف قائلًا: “نحن نعاني عوامل ذاتية مرضية كبيرة جدًا، وحالة تضخّم في (الأنا)، أي إذا لم يأت الحل عن طريقي فليس هناك أي حلّ”، وأشار إلى مئات المؤتمرات السياسية التي عقدت ولم ينتج عنها أي شيء.
وأكد أنه لا بد من تضافر جهود قادة ورموز المؤثرين في القوى اليسارية والليبرالية والديمقراطية، للاتفاق على مسألة أساسية وهي أنه لا يمكن أن يتم أي حل إلا من خلال عمل مشترك حقيقي، ولا بد من دعم خارجي لهذا الأمر، “إذ لا يمكننا بقوانا الذاتية فعل أي شيء”. ولفت النظر إلى أن الحل الحقيقي يكون بإقامة حل ديمقراطي حقيقي، مع الأخذ بعين الاعتبار أن لا نكون “ُمقلّدين”، وإنما نأخذ ما يمكن أخذه ونعتمد من بيئتنا على ما يمكن الاعتماد عليه.
سامي عون: أستاذ كرسي، كلية السياسة التطبيقية في جامعة شيربروك، مدير مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في جامعة كيبك في مونتريال، مؤسس مشارك لكرسي اليونسكو حول التطرف والعنف. له بحوث ومنشورات والعديد من الكتب.
وائل السواح: باحث سوري في قضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان، مؤلف للعديد من الأبحاث في هذا المجال، عضو المجلس الاستشاري لمعهد الشرق الأوسط في واشنطن، ومدير منظمة “مع العدالة” الأميركية، ورئيس تحرير موقع The Syrian Observer.
نيفين ملك: محامية وحقوقية مصرية، مختصة في القانون والترجمة القانونية وفي آليات الرصد والمتابعة، وشاركت في دورات متقدمة بالتعاون مع مفوضية الأمم المتحدة وحقوق الإنسان ومنظمة اليونسكو في مجالات حرية الرأي والتعبير وحقوق الإنسان.
صابرين الجلاصي: باحثة في علم الاجتماع، أستاذة متعاونة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في صفاقس، باحثة متطوعة سابقًا في مركز البحوث الاقتصادية والاجتماعية بتونس، لها عدد من المقالات العلمية المنشورة.