عقد مركز حرمون للدراسات المعاصرة ندوة، بعنوان “العلمانية والعالم العربي.. بين الضرورة والإشكالية“، شارك فيها كلّ من الأكاديمية التونسية أسماء نويرة؛ والمحامية والسياسية المصرية نيفين ملك؛ والأكاديمي والباحث السوري حسام الدين درويش؛ وأدارتها الإعلامية ديمة ونوس.
ناقشت الندوة عددًا من المسائل: هل هناك علمانية واحدة أم علمانيات، وما هي عناصر العلمانية في الغرب بين ثقافتين: الإنكلو – ساكسونية واللاتينية؟ وألا تتناقضُ العلمانية كما عرّفها الغرب مع الثقافة العربية/ الإسلامية؟ وما هي العلمانية الصالحة للبلدان العربية؟ وهل تتلاءم العلمانية مع نظم الاستبداد العسكرية أو المدنية؟ وهل يمكن أن تكون العلمانية التي يتبناها بلد عربي ما ملائمةً للبلدان العربية الأخرى، أم أنها يجب أن تراعي في بعض عناصرها خصوصية كلّ بلد عربي؟ وغير ذلك من الأسئلة ذات الصلة.
وقدّم المشاركون في بداية الندوة شرحًا تفصيليًا عن مفهوم العلمانية، وعن السمة الرئيسة التي تجمع بين “العلمانيات”، ومدى ارتباط العلمانية بالأنظمة الاستبدادية.
وقالت أسماء نويرة: إن “مفهوم العلمانية يختزل عدة أشياء: أفكار وتجارب تاريخية، ويختزل كذلك خصوصيات بلدان متعددة. وكلمة علمانية ليست واحدة، وإنما تعبّر عن تجارب عدة، وهذا الاختزال هو الذي أوقع العالم العربي والعرب بشكل عام في الالتباس حول هذا المفهوم، وهو ما خلق المعاداة لهذا المفهوم دون فهم لحيثياته ومحتواه “.
وأشارت إلى أن العلمانية مرتبطة في الأذهان بالأنظمة الاستبدادية التي استخدمت شعارات كالعلمانية، لتنفذ مخططات أخرى متعلقة بالقمع وبالاستبداد.
ورأت أنه “لا يمكن الإقرار بأنّ الدولة في العالم العربي كانت علمانية في ظل هذه الأنظمة القمعية، ولو أردنا أن ننظر إلى مختلف هذه الدول، فسنرى أن الدولة هي من تسيطر على الدين وليس العكس، وبالتالي الأنظمة المعاصرة ليست أنظمة علمانية، بمعنى أنها فصلت الدين عن الدولة أو كانت محايدة تجاه الدين، وإنما كان هناك دائمًا سيطرة من الدولة على المجال الديني”.
وتطرقت نويرة إلى العلمانية في الحالة التونسية، وأوضحت أنه “منذ الاستقلال، كانت أول الإجراءات التي تم اتخاذها هي تحييد وتفكيك المؤسسة الدينية التقليدية، وهي مؤسسة اجتماعية تُدير الشأن الديني، وتعويضها بمؤسسات رسمية”.
وتابعت أنه إلى “حدود عام 2011، كان يُنظر إلى فصل الدين عن الدولة على أنه حلّ من أجل حماية الدين من الدولة، حتى يصبح هناك حريات دينية، ويصبح من حق المواطن أن يعيش دينه كما يريد، وأن الدولة تتدخل فقط على مستوى الضبط”.
أمّا بعد 2011، “وفي ظلّ تفكيك المؤسسة الدينية التقليدية التي كانت تدير المجتمع، وظهور العديد من الفاعلين والتيارات الدينية المختلفة المتصارعة أيضًا فيما بينها حول الشرعية الدينية، فقد أصبحت هناك فوضى على مستوى الفتاوى والمساجد وغيرها، وبالتالي ضَعفت سلطة الدولة على المجال الديني سنة 2011 ، وكان من نتائج ذلك فوضى في المجال الديني وصراعات كبرى، لأن هناك تيارات تريد أن تفرض سلطتها على المجتمع، لتصبح المسألة اليوم بحاجة إلى إعادة تفكير في هذه العلاقة بين الدين والدولة، وكيف يمكن أن نحقق التوازن بين مؤسسات الدين والدولة، دون أن يطغى أحدهما على الآخر”.
وتطرقت الندوة إلى العلمانية في الحالة المصرية، وإلى شعار “الدولة المدنية” الذي رفعه الإخوان المسلمون في مصر.
وقالت نيفين ملك، إنه “لا بد من التوضيح بأن هناك علمانيات في الفكر الأوروبي وفي الفكر العربي، فهناك علمانية يمكن القول عنها إنها ليبرالية، تؤمن بكل القيم الغربية الليبرالية دون أي مراجعات، وهناك علمانية تميل إلى المنهج الديمقراطي والحريات والتعددات وحرية المعتقد تحديدًا، وهناك العلمانية المتشددة أو الصلبة التي تكرّس كل معتقداتها لمحاربة الأديان والمعتقدات الأخرى”.
وزادت قائلة: “نحن أمام تطور فكري اجتماعي هو بالنهاية تطور بشري وأعمال بشرية قابلة للنقد، ويجب نقدها، ولكنّ الإيمان بأن العلمانية هي الحل، فهذا لا حلّ، والاعتقاد بأن الديمقراطية هي الحلّ هو لا حل أيضًا، وبالتالي يجب إعمال الفكر ويجب نقد هذه التجارب، ويجب أن يكون هناك فكر عربي قادر على استيعاب الشارع العربي”.
واعتبرت أن “العلمانية الحقيقية التي تصلح للمجتمعات العربية هي التي تسعى أيضًا للفصل ما بين الدَعوي والدولة، وفي النهاية يجب أن تكون محايدة”.
ولفتت الانتباه إلى أن “هناك علمانية صالحة وعلمانية غير صالحة للمجتمعات، وهناك علمانية تصادمية تكرّس كل نضالها فقط لمحاربة المعتقدات والأديان، دون أي نهج آخر، ورُفعت شعاراتها في كثير من المراحل عبر التاريخ”.
وبيّنت أن “العلمانية هي التي تعمل على إنشاء أفضل مساحة توافقية، ما بين قيم المجتمع والتطلع إلى قيم الديمقراطية والحريات والتعددية”.
وعن رأيها بعنوان “الدولة المدنية” الذي رفعه الإخوان المسلمون في مصر،قالت “أنا لست مع المواربات، لأن هذا الأمر هو من باب عدم الشجاعة لمواجهة الجماهير، حتى إن بعض التيارات الليبرالية أصبحت تتخفى وترفع هذه الشعارات، ولكنّ لا بد من الشجاعة وعدم التخفي وراء شعاراتٍ فيها شيء من الجدل”.
ودَعت إلى ضرورة “تصحيح مفاهيم العلمانية المغلوطة، تاريخيًا وأيديولوجيًا، من أجل أن يكون هناك فكر عربي تنويري حقيقي في المجتمعات لتلحق بركب الأمم وبالبنية المؤسسية للدولة الحديثة”.
وفي سياق الندوة، تحدث حسام الدين درويش، عن السمة الأساسية التي تجمع كل “العلمانيات”، موضحًا أن “التمييز والتمايز بين الديني وغير الديني، سواء على المستوى المعرفي أو على المستوى العملي، هو الشيء الوحيد الذي يجمع بين العلمانيات، وبالتالي يمكن أن تنشأ فلسفات أو سياسات أو أيديولوجيات، وهنا يحصل الاختلاف والعلمانيات المختلفة على أساس التمييز والتمايز المذكور”.
وذكر أنه “في التاريخ العربي الإسلامي لم يكن هناك دولة دينية، بمعنى أن رجل الدين هو الذي يحكم، كما أنه ليس هناك حاكم يقول أو يدّعي أنه يمتلك سلطة إلهية، وبهذا المعنى تحديدًا هي سلطات علمانية، بمعنى سلطات غير دينية وسلطات ليست مفوضة من الله وليست من رجال الدين، ودائمًا في التاريخ العربي وحتى الآن فإن رجال الدين تابعون أو خاضعون، أو في درجة أدنى من رجال السياسة”.
ورأى أن الدولة الدينية يمكن أن تكون دولة مؤسسات وليست بالضرورة دولة علمانية، والعلمانية يمكن أن تُفضي إلى المساواة بين الضحايا، عندما لا تكون الدولة ديمقراطية، ولا يهمّ كثيرًا أن تكون تلك الدولة علمانية أو غير علمانية، إذا لم تكن تلك الدولة ديمقراطية، حسب تعبيره.
واعتبر أن “العلمانية ليست قيمة إيجابية أو سلبية بحد ذاتها، إنما هي قيمة بمقدار ارتباطها بالقيم الإيجابية الأخرى وهي الديمقراطية”.
ووصف درويش، الدولة بأنها “شرٌّ لا بدّ منه”، وقال: “ليس الدين من يتدخل في الدولة في عالمنا العربي، بل إن الدولة هي التي تتدخل في الدين، وبالتالي الدولة شرٌّ لا بدّ منه لتنظيم العلاقات بين البشر، على أن لا تتغول أو تفرض أو تهيمن باسم أيديولوجية علمانوية أو إسلاموية، وبالتالي العلمانية يجب أن ترتبط بالديمقراطية أي بالانتخاب والحرية والفردية والتعددية، وأن لا يكون لأي طرف ديني أو غير ديني سلطة إكراه على غيره، وبالتالي فإن فصل العلمانية عن الديمقراطية يصيب العلمانية في مقتل، ويمكن أن يصيب الديمقراطية أيضًا”.
وأكد قائلًا إنه “إذا كنّا نؤمن بالديمقراطية، فينبغي لنا أن نؤمن بأن الشعب من حقّه أن يختار ما يريده في حدود تحفظ حرية هذا الشعب بكل أفراده، وفي حدود تحفظ فردية كل فرد من هذا الشعب، وحتى عندما نضع حدودًا فهي ليست لفرض أيديولوجيا مختلفة أو أفكار مختلفة”.