عقد مركز حرمون للدراسات المعاصرة ندوةً، بعنوان “العلمانية المناسبة لسورية الجديدة”، شارك فيها الباحث والكاتب علاء الخطيب، المهتم بدراسة الحركة الجيوسياسية والاجتماعية والفكرية، وبقضايا اللاجئين وإشكاليات الحوار الثقافي والإعلامي بين الشعوب؛ والباحث والأكاديمي خلدون النبواني، المتخصص في الفلسفة المعاصرة، والعضو في معهد العلوم التشريعية والفلسفية في السوربون؛ وأدارتها الإعلامية ديمة ونوس.
تناولت الندوة مستوى العلمانية التي يمكن تطبيقها في النظام السياسي السوري، وعلاقة الدين بالدولة والدستور، ومبدأ فصل الدّين عن الدولة، ومدى ضرورة اعتماد قوانين بعيدًا عن الشريعة الإسلامية، ودور المؤسسة الدينية في المجتمع والدولة، وعلاقتها بالسلطة الحاكمة، وعلاقة الديمقراطية بالعلمانية.
وخلال الندوة طُرحت أسئلة عدة، من أبرزها: هل للعلمانية مكان في المجتمع السوري؟ وهل هي حركة واقعية موضوعية اجتماعية وسياسية وثقافية؟ وما مدى ضرورة أن يكون لها مكانة أساسية؟ وغير ذلك من المواضيع ذات الصلة.
في بداية الندوة، تحدث علاء الخطيب عن أسس “العَلمانية”، وأضاف أن “العلمانية مثلها مثل أي مفهوم سياسي أو اجتماعي سياسي، وهي أحد الأطر أو أحد مكونات النظام والدولة، وعندما نُطبق العلمانية في بلد، فهذا يعني أن الدين ليس له علاقة بسلطات الدولة الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقانونية”.
ولفت النظر إلى أنّ “العلمانية تضمن أيضًا ألّا يتم استخدام أحد الأديان أو العقائد أو الطوائف في مجال إقصاء الآخرين وفق إيمانات دينية، أي ضمن سُلّم التقييم الاجتماعي بين الناس، وبالتالي فإن أساس العلمانية هو فصل الدين أي السلطة الدينية أو رجال الدين عن الدولة”.
وفي ردّ على سؤال عن المسؤول في الحالة السورية عن صورة العلمانية التي ارتبطت بأذهان كثيرين بالإلحاد وبعدم احترام الأديان وتسفيه القناعات والانتماء الديني، أجاب الخطيب: “في كل الدول العربية، عندما يقال كلمة علمانية، فإنها تُربط بالشيطنة والشرّ والكفر والإلحاد، وهذا له أسباب عدة: أن السلطات العربية كلها حاربت العلمانية والديمقراطية سلطويًا بشدة، ولا يوجد أي نظام عربي حتى نظام البعث تكلّم مع الناس عن العلمانية والديمقراطية، إضافة إلى أن الإعلام العربي كان يعمل -بطريقة أو أخرى- على تشويه العلمانية والديمقراطية، حتى إنه كان يثير الريبة والشكوك حول حقوق الإنسان، ويضعها من ضمن نظريات المؤامرة، وفي كل فضائيات العرب لا نجد فضائية واحدة تعطي مساحة للتيار الديمقراطي العلماني، ونرى جميعها -على اختلاف مذاهبها السياسية- لا تعطي مجالًا للناس لكي تسمع بالعلمانية”.
وأشار إلى أن هناك شيئًا أساسيًا افتقدته الثورة السورية منذ بدايتها، وكان من أكبر الخطايا التي ارتُكبت، “وهو إعداد تصوّر وشكل دقيق لشكل الدولة السورية مستقبلًا، وهذا الأمر كان ضرورة وخطوة أساسية لإيجاد الحل في سورية، إضافة إلى إهمال الإعلام وتركه إعلامًا شعبويًا أيديولوجيًا، فالإعلام له دور كبير، وهو يُغير التاريخ البشري واللعبة الجيوسياسية كلّها”.
وتطرقت الندوة إلى مسألة تطبيق الديمقراطية والتعددية السياسية واحترام حقوق الإنسان، ومدى ارتباط ذلك بتطبيق العلمانية.
وفي هذا الجانب، قال خلدون النبواني إن “العلمانية ذات تطبيقات مختلفة وتعريفات مختلفة، تصل أحيانًا إلى درجة من (التضاد)، ويصبح هناك اختلافات كبيرة في التطبيق”. وأضاف أن “الديمقراطية ممكنة في سورية إلى حد ما، ولكن ليس في سورية الجديدة، إذ يمكن للديمقراطية أن تفي بشكل كبير في شروط العلمانية، ولكن ليس دائمًا، وبتصوري: العلمانية لا بدّ منها، إذا أردنا أن نؤسس سورية ديمقراطية، لأن العدالة الاجتماعية تتطلب شيئًا من المساواة أمام القانون، وهذه المساواة غير متحققة في بلد مثل سورية، ليس لأنه بلد علماني أو غير علماني، بل لأنه بلد باسم العلمانية يقضي على العلمانية، وباسم الديمقراطية يقضي على الديمقراطية، أي يُطرح شيء، ويُمارس نقيضه في الواقع، وهذا ما يمكن أن نسميه (خباثة المصطلح)”.
وأشار إلى أنه “لا يكفي أن نطرح العلمانية، بوصفها ذلك الجدل الفلسفي القديم بمعنى فصل التفسيرات السماوية عن التفسيرات الأرضية، والاكتفاء بالتفسيرات المادية التي أسيء استخدامها أيضًا في الدولة الشمولية السوفياتية، على مدار تاريخي، وإنما نحتاج إلى العلمانية بمعنى سياسي أي حيادية الدولة تجاه جميع الأديان”.
وذكر النبواني أنه “في سورية تحديدًا، هناك شيء من العلمانية، بمعنى أن هناك درجات من العلمانية تكفي حجة السلطة لتقول إن هذا البلد علماني، وبالتالي لا نحتاج إلا إلى إصلاح هذا النظام، وفي الوقت نفسه، تمارس سيطرة غير علمانية، وهنا العلمانية قد تكون -بشكل أو بآخر- ضد الديمقراطية، ويمكن أن نسميها (العلمانية المشوهة أو المشتبه فيها والممارسة في بلد من البلدان)”.
وقال: “في سورية، كانت هناك محاولة من مفكّري الأقلية، لإدخال مفاهيم تضمن حقوق المواطنة، وتضمن شيئًا من المساواة، وكان هناك شيء من التوجه العلماني في منطلقات حزب البعث، ولكنها لم تكن كافية بالحد المطلوب، إذ كان في سورية شيء من التنوع الديمقراطي، بحيث يمكن قبول شخصيات قادمة من أقليات دينية، لكن منذ استلام البعث للحكم تمّ نحر العلمانية، مع الاحتفاظ بالجثة والقول بأن سورية علمانية، وقد حرص النظام السوري على إبقاء سورية مقسّمة طائفيًا، لأن هذا الانقسام يساعده في التسويق للغرب، حيث يريد أن يظهر على أنه علماني”.
وأكد النبواني في سياق حديثه أن “وجود دولة قوية في سورية تطبّق قوانين العلمانية بشدة وبصرامة هو أمرٌ لا غنى عنه، من أجل تأسيس الديمقراطية، ويجب أن يُعمل على مجتمع مدني، بحيث تتم إعادة التوازن ما بين الدولة والمجتمع المدني”.
وسلّطت الندوة الضوء على كيفية تعامل المعارضة السورية مع مسألة العلمانية، خلال العشر سنوات الماضية من عمر الثورة السورية. وذكر النبواني أن المعارضة السورية لم تكن بحال أفضل من النظام؛ إذ “تم التعامل مع العلمانية بشكل رخو، وكانوا يتحدثون عن دولة مدنية، ويرفضون أي حديث عن العلمانية. ويصفونها بنوع من التهكم بأنها (العلمانوية)، وهناك تيّاران متطرفان (الإسلاموية من جهة والعلمانوية من جهة أخرى)”.
وبيّن أن “العلمانية المتشددة القوية ضرورة لا غنى عنها في البداية، بمعنى أنه لا يجب أن يكون في سورية في البداية حتى أحزاب دينية، وإذا فتحنا هذا الباب، فسيكون هناك أحزاب منقسمة ضد بعضها، وهذا الموضوع يجب أن يكون مرفوضًا في البداية”.
وختم النبواني حديثه قائلًا: “أنا لا أدعو إلى فصل نهائي للدين عن السياسة، لكن على الدين أن يتربى على قيم السياسة، وألّا يحكم باسم مرجعياته الدينية، وبالتالي يجب أن يكون هناك علمانية قوية ومُواطنة قوية وديمقراطية قوية، وسلطة قوية متغيرة، لكن يحكمها قانون قوي”.