عقد مركز حرمون للدراسات المعاصرة، عبر البث المباشر، يوم الثلاثاء 19 كانون الثاني/ يناير 2021، ندوةً بعنوان: “البحث الاجتماعي في سورية وسبل النهوض به”. شارك فيها برهان غليون، أستاذ علم الاجتماع السياسي في السوربون، وفايز القنطار، الأكاديمي السوري، وبتول الطويل، طالبة علم الاجتماع، وشارك فيها وأدارها خلدون النبواني، الدكتور في الفلسفة.

سلّطت الندوة الضوء على مشكلات البحث الاجتماعي في سورية، حيث حالَ النظام السوري دون القيام بأي دراسة اجتماعية جادة تتعرض للأوضاع الاجتماعية المختلفة في سورية، وقد كبح بذلك تطوّرَ هذا النوع من البحوث التي تشخّص المشكلات الاجتماعية، مكتفيًا بتسخير البحوث الجامعية في هذا الميدان، لخدمة توجهاته السياسية والإستراتيجية. وتطرّقت الندوة إلى مسألة مصادرة النظام لأدوات التفكير لدى النخب الأكاديمية في محاولة لإعاقة تطور المجتمع، وإلى أسباب خوف النظام من تطور العلوم والبحوث الاجتماعية، وكيف كان يمكن لهذه العلوم أن تُغيّر في المجتمع السوري وفي نظام الحكم.

وناقشت الندوة بعجالة نتائج “المؤتمر الأول للباحثين السوريين في العلوم الاجتماعية” الذي أنهى أعماله، الأحد الماضي، بتنظيم من مركز حرمون للدراسات المعاصرة، والجمعية السورية للعلوم الاجتماعية، وبالتعاون مع مجلة قلمون، كمبادرة جديدة تفتح الأبواب أمام الباحثين السوريين في العلوم الاجتماعية ليقدّموا نتاجاتهم، وليناقشوها مع زملاء وأكاديميين آخرين، وليستعرضوا التحديات التي تواجههم، كما ناقشت الندوة مدى تحقيق هذا المؤتمر للغاية الأساسية في تكوين نواة أولية لجماعة علمية سورية خبيرة في علم الاجتماع، يمكن الاعتماد عليها في بناء سورية المستقبل، اجتماعيًا وفكريًا.

تطرقت الندوة في بدايتها إلى مشكلات البحث الاجتماعي في ظل النظام السوري، ولماذا يخشى البحث العلمي؟ وكيف يوظف الباحثين لخدمته. واستهلّ خلدون النبواني الندوة، بمقولةٍ لعبد الرحمن الكواكبي، أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي، في كتابه (طبائع الاستبداد): “نعم، ترتعد فرائص المستبدّ من علوم الحياة، مثل الحكمة النظرية، والفلسفة العقلية، وحقوق الأمم، والسياسة المدنية، والتاريخ المفصل، والخطابة الأدبية، وغيرها من العلوم..”. وأضاف أن العلوم الإنسانية هي ما يثير رعب المُستبد، وهو يخاف على نفسه من الباحثين، ويتحسّس مسدسه كلما سمع كلمة مثقف. مؤكدًا أن العلوم الإنسانية كانت مهملةً في ظلّ نظام الأسد، لأنه كان يُخشى منها، وكانت تُوضع أمامها العوائق، ولم تكن هناك أبحاث حقيقية في سورية، وفي بلدان الاستبداد عمومًا.

وتوضيحًا لواقع البحث العلمي والاجتماعي في سورية، قال برهان غليون: لا يوجد في سورية سوى مركز واحد يهتم بالبحث، وهو “أجهزة الأمن”. وأضاف: “لا يوجد شيء اسمه بحث اجتماعي أو بحث علمي في سورية، وإنما البحث العلمي موجود في مكان واحد هو (أجهزة المخابرات) التي تعدّ مراكز بحث حقيقية، لأنها تبحث بدقة وتأتي بالمعلومات -بأدق التفاصيل- عن الشعب والشارع، وهي من يجمع المعلومات ويحللها”.

وأشار غليون إلى أنه لا يحدث أي شيء في سورية إلا ضمن إطار أجندة الحكم التي هي الحفاظ على السلطة، لذا فإن البحث العلمي في سورية، في حال كان له وجود، موجودٌ فقط في أجهزة الأمن، ومن أجل خدمة السلطة اللاشرعية والقائمة على العنف والقهر، من دون أي سعي لطلب رأي الجمهور حتى بالتأييد بل من المفترض أن يبقى الجمهور تحت الأرض، وهذا هو هدف البحث العلمي في سورية وهدف أجهزة الأمن. لذا يهمنا في الأيام المقبلة أن نرى بحثًا علميًا جديًا حول البحث العلمي في سورية، وهو نداء موجه إلى الشباب الناشط والساعين لتطوير مهنتهم كباحثين.

من جهة ثانية، رأى فايز القنطار أن البحث العلمي يحتاج إلى مناخ من الحرية، ليتمكن الباحث من حرية التفكير وحرية التعبير، وهذا غير موجود في المجتمع السوري ككل، ولا يقتصر الأمر على الجامعات السورية وخاصة جامعة دمشق التي باتت تعاني وضعًا كارثيًا، بعد أن دخل إليها الفساد والتخريب الذي أصاب المجتمع السوري برمته، وهو مؤشرٌ على الخراب الحقيقي الذي وصل إليه البحث العلمي والتدريس الجامعي في سورية.

وأضاف القنطار أن “النظام السوري، كغيره من الأنظمة العربية، أضاع من عمرنا خمسين عامًا من التقدّم، ومن محاولة اللحاق بالعصر والنهوض بمجتمعاتنا في مختلف الميادين. واليوم، كل المجتمعات الحديثة تولي البحث العلمي أهمية قصوى، لأنه صلة الوصل بين المجتمع وبين المنجزات الحديثة وبين التطورات التي تحدث في العالم، لذا فإن البحث العلمي هو خميرة حركة التطور والنهوض في المجتمع”.

وتابع: “في سورية، يُصرف على البحث العلمي ما قيمته أقل من 0.3 من الدخل القومي في سورية، بينما يُصرف في إسرائيل على البحث العلمي 4.7%، وهنا نلاحظ الفرق الهائل، بين ما تنفقه إسرائيل على البحث العلمي، وما تنفقه سورية التي كذب علينا هذا النظام بأنه سيقيم توازنًا إستراتيجيًا معها، وقد شبعنا من هذه الأكاذيب”.

وأضاف أن “الموازنة الإسرائيلية لا تقلّ عن 12 مليار دولار مخصصة للبحث العلمي، في حين أن موازنة (الدولة الأسدية) لا تتجاوز 6 مليار دولار، وهذه الأرقام هي أرقام مخيفة، بمعنى أن موازنة البحث في إسرائيل هي ضعف موازنة دولة (آل الأسد) في 2021، وهي مخصصة فقط للبحث العلمي. وهنا لا بد من لفت النظر إلى الهوّة الواسعة التي أصبحت تفصلنا عن عدونا الذي يحتلّ أرضنا، وهذه مسألة بمنتهى الخطورة، وهي ترتبط بالوضع العام الكارثي الذي عاشته البلاد تحت حكم عائلة (آل الأسد) التي لا همَّ لها سوى التمسك بالسلطة، في حين لم يكن لدينا مشاريع لرؤية مخصصة لأجيالنا، وقد قلتُ ذلك في جامعة دمشق: (لا أحد يفكر في أبناء وبنات سورية) كُنّا نُخَرّج عاطلين عن العمل، ولا أحد يفكر ماذا سيفعلون غدًا”.

وتابع: “إن وضعنا التعليمي في ميادين الجامعات هو وضع كارثي مأساوي، يحتاج إلى إعادة النظر وإلى إعادة البناء مجددًا، وعلينا أن نفكر كيف نبني نظام البحث العلمي المرتبط بالنظام التربوي الذي يزود الجامعة بأجيال من الطلاب والطالبات، وكل هذا يحتاج إلى إعادة نظر، لكي نبدأ بداية صحيحة، ونضع بلدنا على طريق التنمية الحقيقية، وربما نتمكن من مسايرة العصر والدخول في عالم العصر”.

بدورها، قالت بتول الطويل: “في سورية، وفي ظل حكم الأسد بشكل عام، لم يكن هناك اعتناء بالنشاط الفكري والثقافي، ولم تعطَ الأهمية والمقومات الكافية لنشوء أساليب علمية. وعلم الاجتماع في سورية لم يسهمفيعملية تطوير المجتمع؛ حيث لم يكن لدى الباحث الاجتماعي فرصة لتحليل الظواهر ولفهم المجتمع وتطويره وحل مشكلاته، ولم تكن هناك مؤسسات بحثية للبحث الاجتماعي، ولم يكن هناك تحريض للطالب على البحث، ولم تكن هناك منهجية تحرّض الطلاب على البحث الاجتماعي، وهذا يرجع بتصوري إلى البعد السياسي وغياب الحرية الفكرية في سورية”. ورأت أن المجتمع السوري اليوم بحاجة إلى العلوم الإنسانية، وبخاصة علم الاجتماع، لأن المجتمع السوري شهد تطورات جديدة، ومن أجل ذلك نحن بحاجة إلى علم الاجتماع، فالإنسان السليم يُبنى من المجتمع السليم.

وتناولت الندوة، في محور آخر، أهمية “المؤتمر الأول للباحثين السوريين في العلوم الاجتماعية” الذي نظمه مركز حرمون للدراسات المعاصرة والجمعية السورية للعلوم الاجتماعية، بالاشتراك مع مجلة قلمون، تحت شعار “الحرية الأكاديمية الكاملة للباحثين الاجتماعيين“، واستمرّ من 15 حتى 17 كانون الثاني/ يناير الجاري، بمشاركة مجموعة كبيرة من الباحثين.

وقال برهان غليون: إن “فكرة المؤتمر مهمة جدًا، كونه يدعم فكرة أن هناك مجموعة من الباحثين السوريين اجتمعوا وناقشوا آليةً تنظّم عملهم، كباحثين حول مشكلات بلدهم، وهي مشكلات كبيرة ومعقدة ستأخذ وقتًا كبيرًا وجهدًا كبيرًا”. وأضاف أن “المؤتمر كان ناجحًا إلى حد بعيد، ودارت فيه نقاشات مهمة جدًا، وخرجنا منه ببعض الخلاصات، من أجل تطوير واستمرار النقاش، وفتح أمامنا آفاقًا مهمة لنقاش موسع حول المشكلات التي طرحت خلال النقاشات التي دارت”.

وتابع أنه من المهم وجود جمعية علمية، وأن الهدف من كل ذلك هو خلق فرصة للتواصل بين مختلف الباحثين، من أجل تنسيق الجهود بينهم حول قضايا عدة، ومن أجل أن يكون هناك إطار لتبادل الرأي وتطوير الأبحاث المشتركة فيما بينهم، أي خلق جماعة علمية تتفاعل فيها الأبحاث مع بعضها البعض لتطوير الرؤى وخلق مناهج جديدة لمقاربة الأوضاع السورية.

أما فايز القنطار، فقال إن “المؤتمر كان نقطة مضيئة في غربتنا التي نعيشها بقسوة، فنحن، الأكاديميين الذين خرجنا من سورية، وجدنا أنفسنا في وضعٍ لا نُحسد عليه، ولم نتمكن من التواصل، والقليل من الجامعات التفتت نحونا، وخلقت لنا بعض الفرص، ولكن الغالبية العظمى منا ما زالت تعاني مسألة الشتات ومسألة فقدنا للحياة المهنية وفقدنا للقدرة على العيش، كأكاديمين وباحثين، وجاء هذا اللقاء ليجدد الأمل، في تشكيل نواة بحثية حقيقية تمكننا من التواصل، وتشكل منبرًا لتلاقي الأفكار وللتلاقي مع الأجيال الشابة، ونحن بحاجة إلى تطوير البحث في هذه المرحلة بالذات، وعلينا أن لا نستسلم لذلك”.

وفي السياق ذاته، قالت بتول الطويل: إن “وجود منصة، كمؤتمر حرمون، أتاحَ فرصةً للسوريين من أجل التعبير والبحث في قضايا المجتمع السوري”.

وطُرح خلال الندوة سؤالٌ من أحد المتابعين للندوة: أمام هذا الوضع الكارثي الذي استمر 50 عامًا للبحث الاجتماعي في سورية، ما هي الحلول التي ترونها للخروج من هذا الوضع من أجل سورية الجديدة؟ وأجاب فايز القنطار أن “الحل هو حل سياسي أولًا، فمن خلال الأوضاع القائمة لا أمل في التغيير، والأمل يعقد في لحظة حدوث انتقال سياسي حقيقي، وزوال هذه الطغمة التي تتحكم في مصير شعب منذ 50 عامًا”.

وأضاف: “أعتقد أن سورية مليئة بالكفاءات والخبرات، لكنها في عهد هذا الاستبداد المجرم كانت طاردة للعقول والخبر والكفاءات، وعندما تتغير هذه الظروف ويجد أبناء سورية إمكانية العيش بحرية وكرامة وتُحترم إنسانيتهم، فإنهم سيعودون ويبنون بلدهم بناءً سليمًا، وستعود سورية لتأخذ دورها في مقدمة البلدان العربية، كبلد ديناميكي ومتقدم، وكبلد خلفَهُ 8000 سنة من الحضارة. وستكون لحظة التغير السياسي لحظة تاريخية في تغيير هذا الوضع المزري الذي نعيشه، من نواحي البحث العلمي ومن نواحي التربية ومن نواحي الحياة الاقتصادية”.

في ختام الندوة، قال غليون: “البحث العلمي هو جزء من سياسة تنموية وجزء من مشروع وطني للتنمية، وعندما لا يكون هناك سلطة لديها سياسة لتنمية المجتمع وتقدمه وتحسين شروطه، ويكون ذلك من آخر همومها، فلن يكون هناك بحث علمي، لذلك فالبحث العلمي هو قطاع من قطاعات الاستثمار الوطني الذي يجب أن يُبحث بحسب الحاجات، ولا بدّ أن يكون هناك برنامج واستثمارات مهمة ومدروسة، وقبل أن نفكر بالبحث العلمي، لا بدّ من أن يكون هناك مشروع وطني يشارك فيه الجميع، والبحث العلمي جزء منه، وهذا المشروع لا يتمّ من دون تغيير سياسي”.

برهان غليون: أستاذ علم الاجتماع السياسي، ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون في باريس. ساهم في تأسيس المجلس الوطني السوري وتقلد رئاسته في مرحلته الأولى. صدر له عشرات الأبحاث والمؤلفات باللغتين العربية والفرنسية.

فايز القنطار: عضو هيئة التدريس في جامعة بيزانسون في فرنسا، وفي كليات التربية في الكويت، وفي كلية التربية بجامعة دمشق حتى نهاية العام الدراسي 2013، نشر العديد من الكتب والبحوث والدراسات. يقيم حاليا في المنفى بفرنسا.

بتول الطويل: طالبة سنة ثالثة علم الاجتماع في جامعة ابن خلدون بتركيا.

خلدون النبواني: دكتور في الفلسفة الغربية المعاصرة، حائز على شهادة ماجستير ودكتوراه من جامعة السوربون – باريس، باحث ومدرس في معهد العلوم التشريعية والفلسفية في جامعة السوربون. له كتب عدة بالعربية والفرنسية.