في أواخر نيسان/ أبريل المنصرم، نشر مركز حرمون للدراسات المعاصرة مشروع وثيقة توافقات وطنية. ووضّح في مقدمتها أنها ليست الأولى من نوعها، مدرجًا جملة أسباب مهمّة لفشل المبادرات السابقة، و “اصطدامها من العتبة برفض الآخرين، بسبب مُصدّريها أو بسبب محتواها”، موضحًا الحاجة إلى “مشروع وطني متكامل، يقدّم رؤية متقدّمة لقضايا الوطن السوري الراهنة والمستقبلية”.
حوار النخب والقوى الاجتماعية
بعد تقييم الجهود المبذولة التي يتضّح معها العمل الجاد والمسؤول للتوصّل إلى تفاهمات، حول 12 قضية من القضايا المهمة والأكثر تعثرًا سياسيًا ومجتمعيًا، في الوضع السوري السابق والراهن الذي أفرزه الصراع، فإن إيجاد توافق عليها مسألة مهمة، ليس على مستوى النخب فحسب، بل على مستوى المجتمع أيضًا.
أشارت الوثيقة إلى إطلاق حوار وطنيّ بين “النخب السورية”، حول القضايا الوطنية المهمّة والخلافية، من أجل إيجاد حلول وصياغات ملائمة للجميع قدر الإمكان، إذًا فإن هذه الوثيقة اعتمدت بالدرجة الأولى على رؤية 186 شخصًا من النخبة، بالرغم من أن الاتفاق على الخطوط العريضة والنقاش حولها وإصدارها يأتي تحت ظل التوق والأمل، لاعتبارها خارطة طريق للمستقبل، لكنه يبقى غير كاف، ما لم يرافقها العمل الفعلي والدؤوب من قبل الجميع، لتحقيقها وبناء مستقبل الدولة. وبالتالي فإنّ رسم سياسات العمل عليها والدفع لتبنّيها من قبل الطيف الأكبر هو المعضلة الأساسية التي تواجه “النخب”[1]، خصوصًا بعد أن شهدت سورية العديد من الإرهاصات الفكرية والخلافات والاختلافات الممتدة منذ حقبة الدكتاتورية، وقد جرى تعزيزها في فترة الصراع المرير، وجعلت ما تُقدّمه النخب يصبّ نسبيًا في واد آخر غير الذي يسير فيه الواقع، وهذا يدفعنا إلى السؤال عن دور هذه النخب الفاعل والمهمّ في القضايا الاجتماعية التي تتصل بالعلاقات الاجتماعية والتمثيل والسلطة والطبقة والتطور الاجتماعي وقوة التأثير وغيرها. وذلك بوصفهم يشكلون الجماعة التي تُساهم في ابتكار ونقل الأفكار ونقدها؛ كما أشار إليها توماس بوتومور في (1920- 1992)[2]، وهذا السؤال يبدو مشروعًا، نظرًا لأن القوة الاجتماعيّة لا تنحصر في المجال السياسي ونُخبه، بل تمتد إلى مختلف المجالات في المجتمع، وتتشكل من تقاطع النخب عمومًا، حسب ما يوضحه بيير بورديو[3].
وكذلك يبدو الحوار ضروريًا في الفترة الراهنة التي تحتاج إلى كثير من الفعل، والنقاشات العامة غير القاصرة على النخب، لأجل تثبيت الأفكار ومعرفة الآليات الممكنة للقيام بها، وهذا يشمل العديد من المسائل المطروحة في الوثيقة، خصوصًا الخلافية منها، إذ استفادت الوثيقة، بحسب ما ذكر ص 2، من أبرز الأفكار التي طرحها المشاركون/ كات في الحوار، ولا سيما التوافقية منها، وبالتالي ركزت الوثيقة بشكل أو بآخر على تقليل مستوى الخلافات الكامنة خلف معطيات الوثيقة، على الأقل، في الصياغة والشمولية بطرح مواد الوثيقة. وهذا لا يُجنّبنا أثر تلك الخلافات وإضعافها، من الناحية العملية والتطبيقية، كلّ ما يُنجز من توافقات عامة. ولأجل تعزيز التوافق، فإن نقله إلى نقاش عام ومفتوح لا يتجنب الدخول بكل التفاصيل الخلافية يُمثّل خطوة إيجابية باتجاه التفكير على مستوى مجتمعي واسع، في كيفية الحدّ من الخلافات والاختلافات، واقتراح البدائل المناسبة بالإجماع العام.
حقوق النساء والالتفاف عليها
تشكّل حقوق النساء ومواطنيتهن قضية مفصلية في الوثائق المطروحة سوريًّا كافة، فهذه الحقوق ما عاد من الممكن إهمالها أو عدم الخوض بتفاصيلها، بشكل صريح وحقيقي، ليس من باب ما قدّمته وتحمّلته النساء في فترة الصراع والأثمان التي دفعنها، مثلهن مثل الرجال وأكثر، بل لأن بناء دولة مستقبلية تقوم على الديمقراطية والحرية والعلمانية، حسب ما تبينه الخطوط العامة للوثيقة، يَصبّ في معالجة قضايا المرأة ومعوقات مشاركتها للمساهمة في بناء هذه الدولة.
أشارت وثيقة الأسس والمبادئ (الفقرة خ) إلى الحقوق والحريات، وكذلك الصفحة 12، رقم 3 الحقوق والحريات في سورية الجديدة، الفقرة أ: “تتبنى الدولة السورية القادمة الشرعة الدولية لحقوق الإنسان وتعمل على تكريسها دستوريًا وقانونيًا..”. ونظرًا لأن هذه المرجعية تخضع للعديد من الاعتبارات في طريقة فهمها وفي طريقة تطبيقها، أُتبعت بالعديد من المواثيق والقرارات المتعلقة بالنهوض بالمرأة والتأكيد على ضرورة إزالة أشكال التمييز ضدها كافة، وهذا لم تُشر إليه الوثيقة. ومن الناحية النظرية، تعتبر سورية من أوائل الدول الموقعة على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، منذ 1948، وكذلك تُعدّ طرفًا في العديد من المواثيق الدولية[4]، والأكثر من هذا أنها أدخلت مسألة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والمساواة وتكافؤ الفرص والمواطنة وسيادة القانون، في مقدمة دستور 2012، إلا أنها لم تقدّم جديدًا، ليس بسبب الظروف والصراع، إنما لأن قضايا الحقوق والحريات وحقوق النساء تتحول في الأنظمة الدكتاتورية إلى دعاية إعلانية لإرضاء الغرب، ليس إلا، من ناحية أولى.
ومن ناحية ثانية، تبقى الممارسة رهنًا بالمجتمع، وحساسية قضايا النساء، وبما أن المشروع يتحدث عن سورية المستقبل، فإن تبنّي منظومة حقوق الإنسان لن يكون كافيًا، ما لم يرافقه تغيير على صعيد المجتمع، ومنع إعادة إنتاج السلطوية والدكتاتورية التي تشكل تهديدًا لأي مشروع يخصّ حقوق النساء. وقد ذكرت الوثيقة معالجة مسألة تعارض الحقوق مع ثقافة المجتمع وقيمه، في (الفقرة ب) “عبر اجتراح الحلول المناسبة لها، أسوة بدول أخرى ذات أغلبيات مسلمة، وذات مستوى حضاري متقارب، ونجحت في تبني المعايير الدولية..”، ليكون لافتًا استتباعها بـ (الفقرة ت): السعي إلى إقناع الناس يكون بالحوار التدريجي، وعبر آليات واضحة، مع تجنب طرح أفكار ومفاهيم ومصطلحات تحظى بسمعة سيئة لديهم، والاستعاضة عنها بإبراز مضامينها.
وعلى الرغم من وضوح الإشارة إلى مصطلح “النسوية”، باعتباره المفهوم الأكثر إشكالية حاليًا، ويصعب على النساء في مناطق سورية مختلفة التصريح به، فإذا أردنا الخوض في الإشكاليات، وجدنا أنها لا تتعلق بالمصطلح فقط، بل بالمحتوى وحالة الذعر من إقرار حقوق وحريات النساء، وجعلها مرتبطة بما يقبله أو يرفضه المجتمع. وحسب التجربة السورية السابقة، فإن القيمة الإيجابية لهذه الحقوق اقتصرت، على صعيد القاعدة الشعبية عمومًا، على حقّ تعليم النساء وعملهن، ولكن هذا لم يساهم في تخفيف إقصائهن والاعتراف بضرورة إقرار حقوقهن، أو الحد من التمييز ضدهن، لأسباب مختلفة لسنا بصددها الآن. فالمهم في الموضوع هو تعارضها مع (الفقرة ب)، وبالتالي، يحقّ لنا كنساء، بعد قراءة (الفقرة ت)، السؤال عن القيمة الفعلية للحديث عن توفر الإرادة السياسية، التي تعني المقدرة على اتخاذ القرار بعيدًا عن الضغط الداخلي والخارجي، بما يخدم الأهداف الاستراتيجية للدولة[5]، والقوانين المتطورة والحكومة الوطنية وبرامج التوعية وغيرها، إذا لم تستطع حلّ هذه المشكلة الناتجة عن المصطلح. وهل ستقدّم الدولة المستقبلية دعمًا لحقوق وحريّات النساء والعدالة تجاههن بالخفاء، ودون ذكر ذلك لكونه يتعارض مع المجتمع؟ وكيف يمكن لهذا أن يتم؟
وعليه، إذا أردنا أن نفسّر بشكل صريح ما جاء في (الفقرة ت)، فإنها تشكل ضمانة لأشكال الهيمنة المجتمعية وإعادة إنتاجها، والابتعاد عن إرساء قيم ثقافية جديدة تتبدل معها التقاليد والعادات بالتدريج. ويمكن تبرير ورودها لتوليد الرضا لدى بعض المشاركين/ات، ومحاولة الوصول إلى توافقات واسعة، لدعم التأسيس للدولة السورية القادمة، أو عدم استفزاز المتدينين، كما ذُكر في بعض البنود المشابهة. الأمر الذي يعني ضرورة الالتفات إلى أثرها على ما طرح في نص الوثيقة، وقدرتها على تعطيل ما يمكن إنجازه في مسألة حقوق وحريات النساء، كجزء غير منفصل عن حقوق الإنسان المشار إليها في الوثيقة صفحة 13، والمشروحة في الهامش رقم 1، في الحقّ في المساواة وعدم التمييز، التي تتعلق بشرعية ومصداقية نموذج الدولة في فرض القوانين حول علاقات القوة غير المتساوية بين أصحاب الحقوق، والعمل على تحسين الظروف للنساء اللاتي ما زلن، رغم ما قدّمنه، يعانين التهميش والإقصاء على مجمل الأصعدة، وضمان عدم تحولها إلى لغة مزخرفة لا تساهم في تحقيق العدالة لهن.
وبالانتقال إلى (الفقرة ث)، للتغلّب على صعوبة توفيق قوانين الأحوال الشخصية مع الشرعة الدولية، يمكن إصدار قانون مدني ينظم الأحوال الشخصية، إلى جانب تلك القوانين الخاصة بالطوائف والمذهب، ويسري على الجميع، وتترك للناس حرية الاختيار. لقد قدمت هذه الفقرة حلًا في الزواج المدني، لكنه كان حلًا إشكاليًا، في تركها القوانين الخاصة بالطوائف والمذهب على حالها، لسببين: الأول أنها لم تطرح فكرة تعديل هذه القوانين بما يتناسب مع بناء دولة المواطنة والديمقراطية والعلمانية، التي يفترض بها أن تكون داعمة لحقوق النساء وعدالتهن. وبالتالي ستقسم النساء بين نساء يعشن زواجات في أنظمة مدنية تقوم على التشاركية، ونساء خاضعات لقوانين الأحوال الشخصية ولذكورية المجتمع، والبنيات الاجتماعية (علاقات السلطة والهيمنة) والممارسات الاجتماعية، والقوانين التمييزية، والتصورات الرمزية، التي تمس حياتهن على الصعيدين الخاص والعام.
والثاني أنها لم تطرح فكرة قانون موحّد للأحوال الشخصية يتفّق عليه رجالات الطوائف والأديان، بحيث نُصبِح -المواطنين والمواطنات- خاضعين له، باعتباره جزءًا من منظومة دولة القانون الجامعة، فعدم وجود قانون موحّد ومحكمة موحّدة يخضع لها السوريون والسوريات، في إدارة أحوالهم الشخصية، يترك فجوة كبيرة في التأسيس لدولة القانون المرجوة، ويساهم في استقرار واستمرار تحكم الطوائف في الأفراد، ويحدّ من إمكانية إدارة المسألة الطائفية وتحجيمها، بل يعمل في جانب كبير على تعزيز الطائفية وترسيخ الولاءات للطوائف، وغيرها من الأمور التي تتقاطع بين حقوق النساء والمسائل الطائفية الدينية.
فضلًا عن أنه لا يستوي مع المواطنة المتساوية في نصّ الوثيقة (الفقرة س)، المشار إليها في الصفحة 19، رقم 11: المواطنة المتساوية في سورية الجديدة، حيث تشير صراحة إلى كل الإشكالات السابقة، وتقول في (الفقرات، ب، ت، ث) بعدم التمييز، حيث لا يمكن ضمان مواطنة النساء اللاتي يشكلن نصف المجتمع، في حال وجود أي تمييز ينطوي تحت بنود القوانين المتحكمة في حياتهن الخاصة والعامة معًا. وأشير في المراجع إلى ما تعنيه المواطنة الحقيقية، وأن هذا الإشكال سيبقى قائمًا ما لم تغلق كل الثغرات التي تمهّد لسلب النساء أي مكتسب حصلن عليه خلال مراحل بناء الدولة السورية كافة.
وبالنتيجة إنّ الطروحات التي تضمّنتها الوثيقة هي طروحات قيّمة، ويمكن أن تساهم فعليًا في رسم خارطة طريق مستقبلية، ولأجل ضمان ذلك فإن تداولها بين السوريين/ات وتوسعة النقاش حولها على كل المستويات يُشكّل دعامة أساسية، للحدّ من الخلافات والاختلافات التي قد تؤدي إلى تعثر أي مسار مرجو لبناء دولة مواطنة ديمقراطية وعلمانية جامعة.
[1] أشارت الوثيقة إلى مشاركة المختصين، بين سياسي وأكاديمي ومثقف، ومن مختلف الانتماءات والاتجاهات.
[2] بوتومور، توم (1988). الصفوة والمجتمع، دراسة في علم الاجتماع السياسي (ترجمة محمد الجوهري وآخرون). مصر: دار المعرفة الجامعية ص87.
[3] بورديو، بيار (1998). أسباب عملية إعادة النظر بالفلسفة (ترجمة أنور مغيث). بيروت: دار الأزمنة الحديثة، ط 1، ص 36-38.
[4] وقّعت سورية على اتفاقات جنيف في 2 نوفمبر 1953، والبروتوكول الإضافي الأول (المتعلق بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة) في 14 نوفمبر 1983. وعلاوة على ذلك، أصبحت سورية من الدول الموقعة على اتفاقية حقوق الطفل في 15 يوليو 1993، والبروتوكول الاختياري لاتفاقية حقوق الطفل في 17 أكتوبر 2003. بالإضافة إلى ذلك، تمت المصادقة على الاتفاقيات الثمانية الأساسية لمنظمة العمل الدولية من قِبل الجمهورية العربية السورية.
حقوق الإنسان في سوريا، فناك، نشر في أبريل 12, 2016، أخر مشاهدة 16/6/2023 https://fanack.com/ar/syria/human-rights-in-syria/
[5] – بلعسل، محمد، دور الإرادة السياسية في تنمية المجتمع الجزائري، دراسة تحليلية نقدية. جامعة محمد بوضياف- المسيلة، العدد 8، مجلة الاناسة وعلوم المجتمع، تاريخ النشر 30/12/2020. ص 96-107.