الإخوة الأعزاء في مركز حرمون للدراسات المعاصرة

أشكر لكم مشاركتي وثيقة التوافقات الوطنية التي أعدّها فريق إدارة الحوار في مركزكم، والتي استخرجت من “التقرير العام للحوار الوطني” الذي تضمن خلاصات جميع الحوارات التي شاركنا فيها في اللقاءات الكريمة مع الفريق، وآمل أن أقدّم ما هو مفيد وجديد.

سأركز ملاحظتي على عدد من المسائل:

في وثيقة الأسس والمبادئ:

ج- تعمل سورية على تعزيز علاقاتها الإيجابية مع الأسرة الدولية.

تجدر الإشارة إلى تنمية العلاقات بشكل خاص مع الدول الديمقراطية، والناجحة اجتماعيًا واقتصاديًا، وبناء الشراكات الإيجابية معها، وتجنب الدخول في تحالفات أو شراكات مع الدول الاستبدادية والدكتاتوريات، فقد أضرت هذه التحالفات كثيرًا بالواقع السوري، وكانت سببًا رئيسًا لتفاقم الكارثة السورية والإساءة إلى الوحدة الوطنية وتشميل سورية بمشروعات استبدادية إقليمية ودولية.

ويتعين اعتماد صيغة قانونية يقرّها البرلمان باستمرار، لتحديد الدول التي تحظى بالأولوية في العلاقات الدولية، والدول التي يشكل التحالف معها مخاطر على الشعب وقيم حقوق الإنسان.

ف – القواعد الدستورية المحصنة

وردت كلمة قابليتها “للتجميد”، وهي كلمة غير واقعية وغير دستورية أيضًا، والأصح التعبير بأنها مستقرة وراسخة لا يمكن للنظام الحاكم تعديلها بإرادة مؤسساته، بل يتطلب تعديلها استفتاءً شعبيًا حقيقيًا بإشراف دولي.

في مشروع وثيقة التوافقات الموسعة:

القواعد الدستورية المحصنة

كُرّرت العبارة السابقة، حيث وردت هنا في فقرة ج: “قابليتها للتجميد، بحيث لا تصطدم بحركة المجتمع وحاجته إلى التطور”. ويبدو أن الخطأ هنا لفظي، بحيث يكون المقصود قابليتها للتجديد لا للتجميد، وإذا كانت كلمة التجميد مقصودة، فأنا أعترض عليها، شكلًا ومضمونًا، وأطالب بتعديلها كالآتي:

رسوخها واستقرارها وقابليتها للتجديد وفق أسس قانونية صارمة، بحيث لا تصطدم بحركة المجتمع وحاجته إلى التطور.

سيادة القانون في سورية الجديدة

أؤيد بشدة ما ورد في الوثيقة من ضرورة النص دستوريًا على سموّ الاتفاقات والمعاهدات الدولية على التشريعات الوطنية، ويتعين النص أيضًا على وجوب الانخراط في الإجماع الدولي ومنع السلطة من القيام بحملات ممنهجة لتشويه الأسرة الدولية وتخوينها، وهي السلوك الذي أدى إلى عزلة سورية في العالم، وجعل الجواز السوري في القاع.

الحقوق والحريات في سورية الجديدة

يجب إطلاق الحريات إلى الغاية وحمايتها، وبخاصة في الشأن التشريعي، ومع ذلك لن يكون من الواقعي ولا المنطقي حذف المواد الدستورية المتصلة بدور الشريعة الإسلامية في التشريع، وذلك لأنها من الجهة الواقعية القانون التاريخي للبلاد السورية، وهي مستقرة في وجدان الناس، وعادة ما تنص الدساتير بكل أشكالها على الاحترام والتقدير للنصوص الدستورية السابقة والبناء عليها.

ولكن ينبغي أن تقوم سورية الجديدة ببذل جهد استثنائي في تقديم نموذج متقدم من الوعي الإسلامي في مسألة الحريات، وذلك اهتداء بالنماذج المتقدمة التي حققتها دول إسلامية رائدة في الجمع بين المختار من الشريعة وحاجات العصر التشريعية.

شكل الدولة في سورية الجديدة:

أوافق على التعبير بصيغة اللامركزية الإدارية الموسعة، ولكنني مع توفير مزيد من الضمانات للمحافظات التي عانت مخاطر جدية، وخصوصًا المنطقة الكردية، حيث تعيش الطائفة الإيزيدية التي تعرضت بصورة غير مسبوقة لشكل متوحش من الإبادة والسبي، وقد فشل الجيش المركزي فشلًا تامًا في حماية هذه الأقلية المستهدفة بسبب عقيدتها وموروثها.

ويتعين تأكيد حماية الثقافة واللغة الكردية السائدة في الشمال السوري بوضوح، وعدّها لغة رسمية ثانية في هذه المحافظات، واحترام أهل المنطقة في حماية ثقافتهم ولغتهم.

 ويتعين توفير قوة عسكرية محمية بالدستور مخصصة لحماية المنطقة ضمن تنسيق مع قيادة الجيش السوري، تخصص باستمرار لتوفير الحماية الكافية لهذا الجزء العزيز من أبناء الوطن.

وكذلك تتعين حماية الثقافة الأشورية والسريانية، حيث وجدت في سورية، وتخصيص كراسي أكاديمية لحمايتها في الجامعات السورية، وإدارة خاصة في وزارة الثقافة.

ويتعين وقف التلويح المستمر بتعريب سكان البلاد، وعدّ جهد التعريب القسري أعمالًا غير دستورية تتناقض مع حقوق الإنسان ويحاسب عليها القانون.

المسألة الطائفية:

 في المسألة الطائفية، انتهى المتحاورون إلى نتائج مهمة تنأى بسورية الجديدة عن الجحيم الطائفي الذي عاناه الناس وما يزالون نتيجة سياسات استفزازية خاطئة مارسها النظام، وقد ووجهت بردّات فعل عنيفة ومدمرة من التيارات الأصولية.

 أعتقد ان الجانب الأساسي في العلاقة مع المسألة الطائفية هو الاحترام، فقد عمد النظام تاريخيًا إلى انتهاج أسلوب طمس الهوية، وفرض نمط واحد على الشعب في الإطار الديني والمجتمعي والهوياتي، الأمر الذي وفر قدرًا مؤلمًا من التنمر على الطوائف واحتقار المذهبيات وتصاعد خطاب الكراهية.

ويتعين أن تعرّف الدولة بأجهزتها القانونية والتعليمية والثقافية والإعلامية والبلديات بمكونات الشعب السوري باحترام، والتعريف بطوائفه نشوءًا ورجالًا وقيمًا ومبادئ، وتخليد رموزه وأوابده بتقدير واضح، وتكريس ذلك في المناهج التعليمية، والتغيير الجذري للسلوك السابق القائم على رفض الاعتراف بالهويات المجتمعية.

وينبغي رصد كل ما يسيء إلى الوحدة الوطنية، وأن يشرع قانونيًا منع التمييز والتنمر على أساس طائفي أو مذهبي أو عرقي.

إن ما آمله في سورية الجديدة هو تأسيس مجلس للتلاحم المجتمعي يتولّى حماية القيم التاريخية للشعب السوري، والترويج للقيم الفاضلة في كل طائفة والتعريف برموزها وأعلامها ومساهماتها، وإحياء أدوارهم في المجتمع، وبخاصة أولئك الذين شكلوا إجماعًا وطنيًا وإنسانيًا.

إن الهوية الصغيرة لا تلغي الهوية الكبيرة، وهوية الطائفة أو المذهب لا تلغي الانتماء الوطني، إن ذلك مثلًا يتم بشكل عادي تمامًا في الأسرة السنية، على الرغم من التوزع بين المذاهب الحنفية والشافعية والمالكية والحنبلية وكذلك الصوفية والسلفية، وهي لا تدرس في جوّ من الشحناء والأحقاد والريب، بل في جو من إدراك جمال التنوع وعذوبته وقدرته على تلبية حاجات الناس، وإيقاظ المعاني الجميلة فيها.

ولكن الأمر يتخذ طابعًا تحقيريًا، عندما يتجاوز حدود الطائفة، وبذلك ينغمس المجتمع في جو من الريب والتحاقد، وتأليف الرؤى المظلمة عن الآخر الذي سيصبح تلقائيًا الغريب والمريب والمتخفي والغامض والمرتبط.

إنني أؤكد أن الحل الذي يعتمد طمس الهويات جاء بنتائج عكسية تمامًا، في حين أننا نستطيع اعتماد المذهب أو الطائفة أو القومية رافعًا وطنيًا، من خلال احترام الآباء المؤسسين وتكريمهم وتوفير بيئة صحيحة لهم في البناء السوري.

إن سورية مؤلفة من قوميات عدة، وعلى الدستور أن ينص عليها صراحة وباحترام، وهي كذلك تستخدم لغات عدة، وعلى الدستور أن يشير إليها باحترام، وأديان وطوائف عدة، وعلى الدستور أن ينص عليها باحترام يمنع كل سعي أسود في الظلام لتشويه هذه الهويات وشيطنتها.

إن وجود رموز مدمرة للوحدة السورية في الطوائف أمر وارد، ومن المنطقي وضع معايير لاحترام الرموز الطائفية والمذهبية والدينية، والتركيز على أصحاب الاتجاه الإنساني في كل ملّة ومذهب وقومية، وهم في الواقع يشكلون الأغلبية الساحقة من كل هوية، فالإنسانية تقدس تلقائيًا الزعماء الإنسانيين، وترفض تلقائيًا الزعماء المتوحشين مهما كانت قوتهم وسلطتهم، وليس عسيرًا أن يتم إحياء القيم النبيلة التي تحظى بإجماع كبير، وطرحها روائز للوحدة والوطنية والمحبة في كل برامج الوطن الجديد بدلًا من طمسها وتغييبها.

العلمانية

إن الخيار العلماني يقدم لنا نموذجين واضحين: الفرنسي والبريطاني، ومن دون تردد أرى أن النموذج البريطاني هو الأقرب إلى ثقافة شعبنا ومستوى تمسكه بالدين والطائفة والمذهب، وليس النمط الفرنسي اللائكي الذي صنّف نفسه تلقائيًا من حيث لا يريد معاديًا للقيم الدينية.

إن القسم الملكي الذي سمعناه بلسان الملك تشارلز، وكذلك قسم ليزا تراس أمام الملكة، يطفح بذكر هويات طائفية ودينية أساسية في بريطانيا، ويتعامل معها ليس بمستوى الاحترام فحسب بل بمستوى القداسة أيضًا.

وأعتقد ان النص على علمانية الدولة ليس مفيدًا، في الراهن الحالي على الأقل، في ظل وجود سببين أساسيين:

الأول: وجود ثورة عارمة ضد نظامٍ ادعى أنه يطبق العلمانية ستين عامًا، وأورث سورية هذا الواقع الكارثي، وقد ارتبط ذلك بشكل عنيف بخطاب الثورة والثورة المضادة وبات المصطلح غير حيادي على الإطلاق، ولم تعد تجدي الشروح الأكاديمية والتعريفات الأنيقة لانتزاع المصطلح من بؤرة التطاحن المجتمعي.

الثانية: تحول كثير من العلمانيين إلى التفكير بروح الطائفة العلمانية، بحيث يتم تلقائيًا زج التيارات الرافضة للعلمانية في دائرة التخوين والارتباط والارتهان، وهذه الطائفة أسهمت بشكل كبير أيضًا في إفقاد هذا المصطلح حياديته ومعناه الإيجابي.

واقترح بدلًا من ذلك مصطلح دولة القانون والمساواة.

التربية والتعليم

وجوب النص على حق كل مواطن في أن يتلقى التعليم العام، بشكل يضمن المساواة والتكافؤ مع المواطنين جميعهم، وواجب الدولة والمجتمع تأمين هذا التعليم قبل بلوغه السن القانوني، ومن ثم رفض تسرب الطلبة من التعليم العام إلى أي تعليم آخر، قبل اكتمال سن الرشد وقدرة الطالب على الاختيار.

الجيش

أما الجانب الأهم الذي أهملته الوثيقة فهو الجيش، مع أنه يقع في جوهر التوافقات الوطنية المطلوبة.

يتعين النص بوضوح على مسؤولية الدولة في تأسيس جيش احترافي وطني، يقوم بدوره المهني في حماية البلاد وصيانة حدودها، ويمتنع على أفراده وضباطه الانتماء إلى أي تنظيم سياسي، وبناء الجيش على أساس من الوطنية الخالصة، ومنع الترويج لأي معتقدات دينية أو حزبية أو سياسية فيه، واعتبار رفع صور الأشخاص والأحزاب انتهاكًا صارخًا لحيادية الجيش.

ويتعين النص بوضوح على أن الجيش المأمول هو جيش احترافي قائم على الراغبين في العمل العسكري والتفرغ له، وفق أرقى المدارس العسكرية الناجحة في العالم، بعيدًا عن جيوش النظم الشمولية والعقائدية.

ويتعين الوقف الفوري للتجنيد الإجباري الذي كان أكبر سبب لنزيف الخبرات المستمر في سورية منذ ستين عامًا، ما أدى إلى فقر واضح بالكفاءات والمواهب، إضافة إلى إفراز حالة القهر والعذاب التي شهدها الجيش السوري إبان الأحداث التي وضعت العسكري في أقسى خيار ممكن على الإطلاق، بإرغامه على حروب ضد أهله ومجتمعه، ودفعه إلى الفرار أو الانشقاق، الأمر الذي تسبب في إزهاق حياة عشرات الآلاف من أبناء الوطن العسكريين بأيدي السوريين أنفسهم.

إن قيام نظام خدمة وطنية مواز لمدة عام واحد ينخرط فيه المواطنون جميعًا من دون استثناء أمر إيجابي وممكن، بشرط أن يكون مدنيًا بالكامل، وأن ينص بصراحة على أنه لا يجبر الناس على حمل أي سلاح.