يقول المفكّر العراقي علي الوردي (1913 ـ 1995) “لو خيّروا العربَ بين دولتين دولة علمانية ودينية، لصوّتوا للدولة الدينية، وذهبوا للعيش في الدولة العلمانية”. بالرغم من التعميم الموجود في هذه العبارة، فإن الواقع يكشف لنا كثيرًا من التناقضات والمفارقات في الوعي عند الإنسان العربي، ومنها تفضيله الذهاب إلى الدول الغربية، حينما يُجبر على ترك بلاده، ويحافظ في الوقت نفسه على كرهه العلمانية، أو على تحفظاته الكثيرة على قبول العلمانية، كأحد المفاهيم المنظّمة للمجال السياسي ومؤسسات الدولة.
ستركّز مقالتي هذه على القول بأن المفهومين الأوليين في الحداثة السياسية هما مفهوما الديمقراطية والعلمانية، وأن شرط العلمانية الضروري للممارسة السليمة للديمقراطية لا يعني الأخذ بآخر ما توصلت إليه المجتمعات الحديثة في هذا المضمار، وأن توفّر البيئة الوطنية المواطنية سوف يكون بداية جيدة لتحقق كل مستويات العلمانية الأخرى مع الزمن، أي بتحقّق حالة من التمايز متقدّمة بين الدين والدولة، وكذلك حيادية الدولة الكاملة، والتي لا تعني عدم احترام الثقافة الدينية لغالبية السوريين.
مقدمة نظرية
هناك تشوش كبير في النقاش حول العلاقة بين الديني وغير الديني، وفي المصطلحات المستعملة من قبل الفلاسفة وعلماء الاجتماع، لتحديد أُطر هذا النقاش تحت هذا العنوان الكبير. والمصطلحات الأكثر استعمالًا وراهنية وإجرائية، في فهم هذه العلاقة وتطورها عبر التاريخ، هما مصطلحا العلمنة والعلمانية.
رأيي الخاص أنّ النقاشات حول هذا الموضوع يجب أن تدور حول هذين المصطلحين الرئيسين: العلمنة والعلمانية، ولا تتشعب وتتعقد وتتيه في مصطلحات فرعية عديدة بدأت تظهر منذ فترة قريبة. وقد بدأت بمصطلح العلمنة (سيكولاريزاثيون أو لاييسيزاثيون)، لأمرين: الأول أنه المصطلح الرائج في العلوم الاجتماعية لبحث عمليات التمايز بين المجالات الدنيوية عن سلطة الدين. وتوفر هذه الأبحاث نظرة تاريخية بعيدة عن سطوة الأيديولوجيا التي أحاطت ظهور مصطلح العلمانية (سيكولاريزم أو لاييسيتي)؛ والثاني أن العلمنة في التاريخ سبقت العلمانية بقرون، وتميّزت بعمليات التحديث في مجالات عدة، نتج عنها تمايز كثير من المجالات الاجتماعية الدنيوية عن الدين (كالفلسفة، العلوم الدقيقة، الاقتصاد والتجارة، التعليم الجامعي.. إلخ)، وتمت كل هذه العمليات بالتدريج وبهدوء، من دون أي عمليات مقاومة كبيرة من قبل الكنيسة في ذلك العصر (باستثناء الانقلاب الكوبرنيكي الذي زلزل الوعي الديني). والشيء نفسه حصل عندنا في العالم الإسلامي بداية من التنظيمات العثمانية، خط أو فرمان كلخانة عام 1839 في عصر السلطان عبد المجيد الأول، وخط أو فرمان همايون عام 1856 في عصر السلطان عبد العزيز الأول(1)، ومن ثم ظهور الدولة الحديثة عن طريق الاستعمار في عملية زرع خارجية لم تترك لهذه المجتمعات الوقت الكافي لإدارة علاقة صحية بين التقليد الموروث عن قرون طويلة من الحكم الإسلامي والتحديث القسري، وشكلت هذه الفجوة عنصرًا من عناصر الرفض للحداثة، حيث بقيت معظم هذه المجتمعات خاضعة لنوع من الحداثة الرثة، هي في الحقيقة تحديث مقطوع عن الحداثة الفلسفية والدينية والسياسية، وما خلقه من مظاهر الفوضى في الحواضر العربية والإسلامية.
بالنسبة إلى مصطلح العلمانية، فإنني أخصصه حصرًا لعملية التمايز أو الفصل ما بين المجال السياسي والدولتي والمجال الديني، وفي نهاية هذه العملية، تكتمل سلسلة عمليات التعلمن بتعلمن الشأن السياسي والتشريعي ونظام الحكم أي تمايزها أو فصلها عن الشأن الديني، وتنشأ ما نسميه الدولة المحايدة. وفي هذه المرحلة، يحدث الاصطدام الكبير مع السلطة الدينية، وكان على أشده في العوالم الكاثوليكية في الغرب، ما أدى إلى تصلب العلمانية في بلدان عدة كفرنسا وإيطاليا، بينما مرت هذه العملية في العوالم البروتستانتية بصورة أقل صخبًا، وأكثر هدوءًا، وانتهت بنوع من العلاقة هي أقرب إلى التمايز من الفصل الحاد، وبالخصوص في الأنظمة الملكية (المثال الإنكليزي الأكثر تعبيرًا عن هذه الوضعية). وقد تكون التجارب العلمانية النادرة في العالم الإسلامي (تركيا، تونس)، على الرغم من خصوصيتها، قريبة من الشكل الفرنسي للعلمانية الصلبة، وإن كانت لا تتماهى معها.
فيالهامش رقم (9) من الوثيقة، يجري تعريف العلمانية على الشكل التالي: “العلمانية تعني فصل السلطة السياسية ومؤسسات الدولة عن الدين والمؤسسة الدينية. فلا يتدخل ممثلو الدين بشؤون السياسة والحكم، ولا تتدخل السلطة السياسية ومؤسسات الدولة بشؤون الدين، بل تبقى حيادية تجاه الأديان والمعتقدات، مع التزامها بحمايتها جميعًا، وتوفير الشروط اللازمة ليمارس أتباعها طقوسهم وشعائرهم وعباداتهم بحرية وأمان”.
هذا التعريف للعلمانية، على دقته المفهومية العالية، يشير إلى السقف الأعلى للمفهوم، وهو الفصل الكامل بين الدين والدولة، أو ما يجري تسميته غالبًا في الكتابات التي تتناول مفهوم العلمانية بـ «العلمانية الصلبة» إشارة إلى العلمانية الفرنسية. ثم في الفقرة (ب)، من بند علمانية الدولة في سورية الجديدة في وثيقة التفاهمات، نقرأ: “ستكون علمانية الدولة السورية القادمة علمانية ليّنة”. فما هي هذه العلمانية اللينة؟ وما مدى انتسابها إلى العلمانية الفصلية، حسب التعريف المعياري الذي حددته التوافقات النهائية بعد سلسلة طويلة من الحوارات دامت عامًا كاملًا؟!
أعتقد أن النقاشات الجارية منذ سنوات حول مفهوم العلمانية تحيل الأمر إلى الغموض التام، ما يشرّع موقف القائلين بعدم جدوى المفهوم لممارسة الديمقراطية في العالم العربي والإسلامي، ومن بين هؤلاء المفكر المغربي محمد عابد الجابري، والعديد من المفكرين الإسلاميين والإسلامويين. ويذكرني هذا التشوش في تعريف المفهوم بالنقاشات التي حصلت في سورية بعد ربيع دمشق عام 2000، في سياق تشكل لجان إحياء المجتمع المدني، حيث كان يتم تعريف المجتمع المدني في أغلب الكتابات التي تناولت المفهوم على أنه مجتمع المنظمات المدنية غير الحكومية، أي المرحلة النهائية التي وصل إليها المفهوم في المجتمعات الديمقراطية الحديثة، متجاوزين المراحل الطويلة التي قطعها المفهوم خلال ثلاثة قرون ونيف في الغرب، بدءًا من فلاسفة العقد الاجتماعي الذين اعتبروا بروز الدولة بعد معاهدة وستفاليا هي المجتمع المدني الأول في التاريخ الحديث، في حين أن علماء الاجتماع قالوا إن المرحلة الأولى هي تشكل المجتمع القائم على الروابط الصنعية المكتسبة وتجاوز الجماعة التي سادت في العصور الإقطاعية، والتي تهيمن فيها العلاقات الوشائجية (الدينية والمذهبية، الإثنية، والعصبية، وغيرها) (2).
الشيء نفسه، بالنسبة لمفهوم العلمانية، يأتي التعريف الذي تبنته التوافقات بمثابة المرحلة الأخيرة لتطور المفهوم في التاريخ الأوروبي الحديث والعائد إلى نهايات القرن التاسع عشر. ولتصحيح الفهم، يجب الرجوع حوالى أربعة قرون إلى الوراء لمعرفة التجسيد الأولي لمفهوم العلمانية، والذي سيفيدنا لتلمّس الخطى كسوريين في التقدم خطوة أو خطوتين نحو فهم احتياجاتنا لهذا المفهوم في الحياة السياسية السورية.
نظريًّا، العلمانية كمفهوم تطورت بداية في التاريخ الأوروبي ليس في العلاقة مع الديمقراطية وليس بالفصل، بل كحاجة أمام الصراعات المذهبية في أوروبا في القرن السادس عشر، بين الكاثوليك والبروتستانت، لإيجاد رابطة غير دينية بين ساكني الدول الأوروبية، في سياق تشكل الدولة ـ الأمة، بعد معاهدة وستفاليا عام 1648. ثم تطور المفهوم ليصبح مهمًّا لاستقرار وتثبيت النظام الديمقراطي، من خلال ظهور هذا النظام في مناطق أخرى لم تتطور ضمن نفس التواريخ الأوروبية. باختصار: العلمانية كضرورة للديمقراطية لم تظهر في أوروبا أو في الغرب، بل في مناطق العالم الأخرى. لأنّ التطور في أوروبا (المركز) حدث من العلمانية إلى الديمقراطية، بينما في الأطراف المطلب الديمقراطي يستدعي ويتطلب المطلب العلماني، وتصبح العلمانية كمفهوم صراعي بين التيارات الدينية والتيارات الحداثية ـ وبالخصوص في العالم العربي والإسلامي، ما يؤدي إلى انقسام المعسكر الديمقراطي، ويصبح الصراع أو التناقض الأساسي ليس مع النظم الدكتاتورية والنخب المستفيدة منها، بل داخل المعسكر الديمقراطي نفسه.
هناك بعض التجارب الحداثية في المنطقة بدأت بالعلمانية، ومنها التجربتان التركية والتونسية. وتتهم هاتان التجربتان العلمانيتان في منطقتنا بأنهما من التجارب التي قلّدت التجربة العلمانية الفرنسية التي توصف بالصلبة. هذا الكلام غير صحيح، فكل من التجربتين التركية والتونسية له خصوصيته في هذا المجال، لا بل تميّزه عن التجربة العلمانية الفرنسية، وإن كان في التجربتين نوع من الحذر من مظاهر التدين في المجال العام، وليس من التديّن عمومًا كما هو الحال في العلمانية الفرنسية، فإنهما تجربتان لهما كثير من التميّز. إنّ التجربة التركية مالت إلى ما يسمى (دين الدولة)، والدليل وجود وزارة للديانة تشرف على الشؤون الدينية في تركيا. والعلمانية التركية جاءت منذ البداية (مثلها مثل العلمانية التونسية) كتأويل للنص الديني، وليست قطيعة مع الدين الإسلامي، كما يزعم ويردد الإسلاميون بشكل يعبّر عن الجهل بالتجربة التركية، وأحيانًا كنوع من الدعاية الأيديولوجية المضادة التي تهدف إلى تشويه التجارب العلمانية في العالم الإسلامي وتسفيه أصحابها ومؤيديها. صحيح أن الدستور التركي يشير بوضوح إلى أن الدولة التركية دولة علمانية، لكن هذه الإشارة ليست للتضييق على المسلمين الأتراك، كما يفهم البعض جهلًا، بل للإشارة إلى الحيادية النسبية للدولة تجاه العقائد، وثانيًا لتشريع الحرية الدينية للمواطنين الأتراك، كي لا يتعرضوا لأي مكروه أو ضغط من أي طرف كان، حين يعلنون اعتقاداتهم الدينية أو اللادينية بكل حرية، ولإشاعة التسامح والمساواة في المجتمع التركي.
أما عن التجربة التونسية، فهي بالفعل فريدة من نوعها، فلا إشارة في أي مكان في الدستور التونسي إلى مفهوم العلمانية، بل إن الدستور التونسي الجديد الذي صدر عام 2014 ينصّ على أن «الإسلام دين تونس والعربية لغتها»، وهي الصيغة نفسها التي جاء فيها دستور عام 1959. ولكن إلى جانب هذه الصيغة (غير المرضية للعلمانيين) هناك تحديد للدولة في تونس على أنها مدنية، بالإضافة إلى وجود مادة تنص على حرية المعتقد، وهي إضافة جديدة ثانية على دستور عام 1959 في هذا المضمار.
على الرغم من أن التجربتين التركية والتونسية عادتا والتحقتا بركب الدول العربية والإسلامية الأخرى مع صعود الإسلام السياسي في العالم السني والإسلام الثيوقراطي في العوالم الشيعية، فإن التجربتين كانتا الأكثر مقاومة من باقي البلدان للمكاسب التنويرية، بالمقارنة مع الدول التي لم تمر بمرحلة من العلمانية كما مرت بها تركيا وتونس، كذلك كان الإسلام السياسي في البلدين هو الأسبق والأجرأ على الإصلاح والتكيف بسرعة مع تصاعد المطلب الديمقراطي والحقوقي في المنطقة، بداية من التسعينيات من القرن المنصرم.
ونسأل أنفسنا السؤال الأصعب الذي خلق كثيرًا من السجالات في الإجابة عليه: هل العلمانية ضرورة إسلامية – مسيحية؟ أم هي ضرورة إسلامية إسلامية؟ كما قال جورج طرابيشي في كتابه (هرطقات)، لأنه لا يوجد دين من دون سلطة دينية. وكان الجابري قد رفض علمانية الدولة في العالم العربي والإسلامي، لأنه لا يوجد في الإسلام كنيسة أو سلطة دينية.
يعتبر بعض الإسلاميين والإسلامويين أن العلمانية هي بالتعريف فصل رجال الدين عن السلطة، وليس الدين عن الدولة، وبالنتيجة هي إشكالية مسيحية – مسيحية، ما دام الإسلام (على الأقل السني) ليس فيه سلطة دينية ولا كنيسة ولا طبقة رجال الدين (أكليروس) لكي تفصل عن الدولة، وهو التفسير الذي أشاعه محمد عابد الجابري، في كتابه الدين والدولة وتطبيق الشريعة، حيث يقول: وفي رأيي، أن من الواجب استبعاد شعار العلمانيّة من قاموس الفكر القومي العربي، وتعويضه بشعاري الديمقراطيّة والعقلانيّة، فهما اللذان يعبّران تعبيرًا مطابقًا عن حاجات المجتمع العربي(3).
ولكن، حين نسألهم عن التفاصيل، مثل شروط منصب الرئاسة أو رئيس الوزراء، ومرجعيات التشريع، فهم يصرّون على دين الدولة والحاكم، وكذلك على المرجعية الإسلامية في التشريع، ما معناه أن العلمانية ليست الفصل الشكلاني بين رجال الدين والسلطة، بل هناك عناصر أخرى تجعل مفهوم العلمانية مفهومًا مركبًا، له من خلال تطبيقاته عدة مستويات تسير في تحققها مع تطوّر الوعي السياسي لدى المواطنين، من خلال الممارسة الديمقراطية اليومية في المجال السياسي، وكذلك في مجال المجتمع المدني الأكثر التصاقًا بالشؤون العامة اليومية للمواطنين.
لقد أثبت طرابيشي أنه لا يوجد دين دون سلطة دينية تحفّز قراءة رسمية للنص، وتفرضها بالتعاون مع السلطة السياسية، وبالتالي، فكك إحدى أكثر الأطروحات شيوعًا في الثقافة العربية والإسلامية ضدّ مفهوم العلمانية والحاجة إليه كأحد الشروط الضرورية لترسخ الديمقراطية في البيئة الوطنية والمواطنية.
بعد هذه المقدمة النظرية، سوف أحاول أن أقرأ ما بين سطور ما جاء في فقرة العلمانية في وثيقة توافقات وطنية.
الوطنية والمواطنية كأساس للبناء السليم للديمقراطية في سورية
تقول الوثيقة: “العلمانية خيار ضروري لإنقاذ سورية ممّا هي فيه، ولبقائها دولة موحدة، ولتوفير شروط استقرارها وقدرتها على النهوض والتقدم، لسببن رئيسين: الأول هو حالة التعدد والتنوع الديني والإثني التي تميز سورية”.
برأيي الخاص، ليست العلمانية لعلاج مسألة التعدد والتنوع الديني والإثني ولتوحيد سورية أو أي بلد آخر، ولا أتكلم عن الفصل، لأن تمايز المجالات أصبح تحصيل حاصل في العصر الحديث، بل هي في رأيي لتثبيت صندوق الاقتراع (لتثبيت وتصليب الديمقراطية) ضمن ثقافة وطنية – مواطنية.
إنّ ضرورة قدر معيّن من العلمانية تأتي من أن الديمقراطية من دون العلمانية تنتج ديمقراطية المحاصصة الطائفية، حيث تتشكل الأديان والمذاهب ضمن طوائف سياسية، والإثنيات تتصلب سياسيًّا لتصبح قوميات. ليست العلمانية للخلاص من التنوع الطائفي والمذهبي والإثني، بل لتجنب تسييسها.
ونتجنب التسييس بالعلمانية بطريقتين: الأولى ثقافة المواطنة التي تنفرز كمفهوم من الديمقراطية والعلمانية، والتي تخلق أفرادًا أحرارًا يتصرفون كأفراد، بالرغم من انتماءاتهم الدينية والمذهبية والإثنية. والثانية ثقافة الانتماء غير الديني للإقليم المخصص للجماعة السورية (الوطن، هو الإقليم الذي يرتبط ساكنوه بثقافة سياسية وطنية، نسميها الانتماء الوطني)، تنتج عن المدرسة الجمهورية. هنا، نقتلع الأطفال من ثقافاتهم الضيقة التي تشربوها ضمن العائلة، إلى وسع الثقافة الوطنية بتنوعاتها المختلفة، والتنوع يصبح هنا إضافة وليس عائقًا.
ونعرف أن معركة المدرسة الجمهورية هي أساسية لتثبيت المفهوم الأول للعلمانية، أي الرابطة اللادينية للأفراد في الوطن، ما يفسر العلاقة الضرورية بين إجبارية التعليم ومجانيته.
ومن هنا، علينا أن نتوجس من كلّ ظهور وتكاثر للمدارس الخاصة الطائفية أو غير الطائفية، لماذا؟ إنّ ظهور المدارس الأولى (الخاصة الطائفية) يعني أن العلمانية ليست بخير، حيث يبدأ المجتمع بالانقسامات الطائفية، وتفضيل إرسال الأولاد إلى ما نسميه بسورية بالمدارس الموحدة. ولا يُعتبر ظهور المدارس الثانية (الخاصة غير الطائفية) مؤشرًا سليمًا في المجتمع، لأنها تعني وجود طبقة غنية جدّا تستأثر بالثروات، ولا تثق بجودة المدرسة الجمهورية، وتريد الانفصال بأولادها عن باقي الطبقات (4).
حيادية الدولة والعلمانية اللينة
تقول الوثيقة: “ستكون علمانية الدولة السورية القادمة علمانية ليّنة، تناسب السوريين، وتتلاءم مع بيئتهم وثقافتهم، يتم اجتراحها انطلاقًا من فهم معوقات العلمانية في مجتمع يؤدي فيه الدين دورًا مهمًّا، وتعاني فيه العلمانية من سوء الفهم والسمعة والمواقف السلبية المسبقة. والعلمانية الليّنة المطلوبة تعني أن يقتصر تطبيق العلمانية على مستوى شؤون الحكم ومؤسسات الدولة فقط، وليس على مستوى المجال العام، فيكون للناس حرية ممارسة شعائرهم والتعبير عن معتقداتهم في الفضاء العام، بالطريقة التي تناسبهم، وبما لا يخالف القانون، بل من واجب الدولة حمايتهم واحترامهم”.
لكن، ما التحديد المعرفي لهذه العلمانية اللينة المزعومة؟ وما الذي يميّزها من حيث الليونة عن العلمانية الصلبة المشيطنة من قبل كثيرين؟
ليس لدينا في الحقيقة أدبيات كثيرة لتحديد ماذا تعني العلمانية اللينة؛ يقول عزمي بشارة، صاحب سلسلة المجلدات عن العلمانية والعلمنة (3)، في إحدى مقابلاته التلفزيونية، بأنّ هذه التسمية غير دقيقة، ويستبدل هذا التوصيف بالتحديد المعرفي بتحييد الدولة عن الشأن الديني بطريقين: الأول رفض ما يسمى بدين الدولة، أي استخدام الدين من قبل الدولة، وذلك عن طريق الإشراف على خطب الجمعة والتعيينات المهمة في المؤسسة الدينية وغيرها، والثاني هو عدم استخدام الدولة من قبل السلطة الدينية لتحديد عقائد الناس أو استخدام سلطة الدولة البوليسية والقضائية لقمع المخالفين، ومنع بعض الكتب والمقالات تحت عنوان كبير يسمونه بـ «ازدراء الأديان».
لكن تحييد الدولة ليس ممكنًا دون الفصل الكامل بينها وبين الدين، ولا أعتقد بأن صيغة الفصل في العلمانية السورية «تناسب السوريين، وتتلاءم مع بيئتهم وثقافتهم»، وكذلك لا أعتقد بأنها قابلة للتحقق في الحاضر القريب والمتوسط. يبقى الفصل بين السلطة الدينية والدولة أحد مطالب التيارات الحداثية في سورية، لا ينبغي التنازل عنه بالطبع، ولكن من جهة أخرى، يجب محاولة بناء توافق عريض على الحد الأدنى من العلمانية، لضمان سير العملية الديمقراطية بطريقةٍ تجنبها الانحراف نحو التجارب الفاشلة فيما يسمى ديمقراطية المحاصصات. الطائفية (لبنان، العراق)، هذا الحد الأدنى هو الذي نعبّر عنه بتهيئة كل شروط تحقق (الثقافة الوطنية المواطنية)، في برامج التعليم والإعلام الرسمي والمواد الدستورية التي تشدّد على المواطنة الكاملة والمتساوية بين جميع حاملي الهوية والجنسية، وهو ما يتطلب من التيارات الإسلامية والتقليدانية في سورية التخلي عن المواد الدستورية غير المعقولة، مثل دين الدولة أو دين الرئيس.
إن المطلب الديمقراطي في سورية منذ نهاية السبعينيات كان يقتصر على النخب السياسية والفكرية، وأصبح مطلبا اجتماعيًا مع ربيع دمشق عام 2000، وتحول إلى مطالبات شعبية عارمة تحت شعار الحرية والكرامة مع انطلاقة الثورة السورية في آذار/ مارس 2011، هذا المطلب الديمقراطي يقتضي بالضرورة لتحققه الحد الأدنى من العلمانية، اي ثقافة وطنية ومواطنية وما تتطلبه من تغييرات على مستوى الدستور وبرامج التعليم المدرسية..
وكثير من المفكرين في الشأن السياسي يعتقدون بأنّ حيادية الدولة حتى مع الفصل الكامل بين الدولة والدين تبقى نسبية، كون المفاهيم الاجتماعية أو الإنسانية ليست من طبيعة المفاهيم العلمية في العلوم الدقيقة (يعني 1+1=2)، بل هي تبقى نسبية تحاول ما أمكنها الاقتراب من صدقية المفهوم أو عناصره. يعني لا يوجد ديمقراطية كاملة مُكملة، وكذلك لا يوجد علمانية كاملة مُكملة، وهو نقاش يُسترجع في كل مرة بشكل سجالات كنوع من فقه المناكفة مثلًا: إنكلترا ليست علمانية، لأن الملك رئيس الطائفة الأنجليكانية. كثير من هذه الانتقادات السجالية تستند إلى فكرة خاطئة عن المفاهيم في العلوم الإنسانية وتطبيقها في الواقع الاجتماعي.
في سورية، العلمانية سوف تتأقلم مع ثقافة الشعب الدينية الغالبة، هذا أمر طبيعي، حتى إنه لا يحتاج إلى مادة في الدستور أو قوانين ومراسيم، ويبقى عرفًا من الأعراف. والعلمانية، التي نريدها لسورية ليس لها أي رغبة في محو الثقافة الدينية للسوريين، فازدهارهم الروحي أمرٌ مهم لصحتهم النفسية، لا ننسى، بالإضافة إلى ذلك، أن عدد السوريين غير الراغبين في الانتماء إلى دين معين يزداد باطّراد.
لذلك، لا داعي لهذه التسميات (علمانية لينة، علمانية مرنة، علمانية مرحة، علمانية غير صلبة، علمانية جزئية، إلخ)، هي علمانية حسب حاجات مجتمعنا ضمن تطوره الحاضر، وتتماشى مع المطالب الديمقراطية في تحقيق الحرية والكرامة للإنسان السوري، ويمكن لهذه العلمانية أن تتطور مع الزمن، بالعلاقة مع تطور المجتمع السوري من خلال الممارسة الديمقراطية العملية، وفي سياق تطور قواه الإنتاجية والعلمية والتقنية والروحية.
بعض الأخطاء في الصياغة النظرية لفقرة العلمانية في الوثيقة
ـ تقول الوثيقة: «تقتضي العلمانية المنشودة تلازم مفهوم العلمانية وتكامله مع مفهومي المواطنة والديمقراطية».
الجملة فيها خلط في مستوى ترتيب المفاهيم، ففي المستوى الأول للمفاهيم في الحداثة السياسية، تأتي مفاهيم الديمقراطية والعلمانية، والمواطنة كمفهوم يأتي في مستوى ثان هو إفراز للمفهومين الأساسيين السابقين.
ـ تقول الوثيقة أيضًا: «فدولة المواطنة لا بد أن تكون علمانية، والعكس صحيح، لأن المواطنة تفترض أن تكون الدولة على مسافة واحدة من الجميع». وهذه مغالطة، نتجت عن العبارة السابقة. فالديمقراطية والعلمانية تفرزان بالممارسة مفهوم المواطنة وتكرسانه كحقيقة يومية في المجتمع السياسي. ليست المواطنة هي التي تؤدي إلى أن تكون الدولة على مسافة واحدة من الجميع، بل الديمقراطية والعلمانية معًا تفرزان مفهوم المواطنة.
وإذا كنا أكثر دقة، نقول إن الأولوية يجب أن تكون لمفهوم الديمقراطية، والمفاهيم الأخرى هي شروط تحقق هذه الديمقراطية في الممارسة، ومنها مستوى من مستويات العلمانية (أي الرابطة اللادينية بين أفراد الجماعة السياسية)، والثقافة المواطنية المدنية.
ـ وتقول الوثيقة: «والنظام الديمقراطي لا بد أن يكون علمانيًا». والأصح القول: لا بدّ أن يكون على قدر من العلمانية يحقق المواطنة المتساوية الكاملة.
ـ وتقول الوثيقة: «والعلمانية لا تقوم دون بيئة ديمقراطية». قلنا تاريخيًّا، العلمانية قامت من دون بيئة ديمقراطية في أوروبا.
ـ وتقول الوثيقة: «فالاستبداد لا يمكن أن يكون حياديًا بحال من الأحوال».
صفة الإطلاق غير موجودة في المفاهيم الاجتماعية. هناك استبداد مستنير في التاريخ لم يكن طائفيًّا، وقد بنى الدولة، وفي عالمنا المعاصر هناك المثال الصيني واضح أمامنا. أما الروسي، فقد بدأ ينحرف نحو المافيوزية مع رئاسة بوتين، ظاهرة فاغنر الميليشيوية أكبر دليل. في العالم العربي، هناك المثال التونسي في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة كان استبدادًا مستنيرًا، وقامت الدولة بأغلب واجباتها العمومية، وبالخصوص في التعليم والمساواة بين الرجل والمرأة. وفي منطقة الشرق الأوسط، هناك الاستبداد المستنير في عهد الزعيم مصطفى كمال أتاتورك، فالدولة الأمة في عهده أتمت واجباتها التنويرية والدمجية بصورة معقولة.
ـ وتقول الوثيقة: «يجب ألا يتضمن الدستور والقانون أي نصوص تشير إلى التمايز بين الجماعات السورية، ويجب أن تكون التشريعات وضعية. والدولة السورية الجديدة يجب أن تكون منزوعة الصفات، لأنها فضاء مشترك لا يجوز احتكاره من قبل أي جماعة، مهما كانت كبيرة، لأن في ذلك إقصاء لجماعات أخرى».
في البداية، لا نضمن ذلك، ستحدده درجة الوفاق وقوة التيارات الحداثية. فـ (يجب) في السياسة لا مكان لها، تبقى السياسة في الديمقراطيات نوعًا من التفاهمات القابلة للتعديل والتطوير مع الزمن.
في الخلاصة، هذه بعض الأفكار التي يمكنها أن توسع آفاق التفكير حول مسألة العلمانية في الوثيقة، والتي يمكن تلخيصها بأنّ الأساس العلماني الذي يجب أن ننطلق منه في حالتنا الراهنة، حيث المطلب الديمقراطي هو الأكثر حضورًا بين السوريين، هو قدر من العلمانية يؤمّن دمج السوريين عن طريق الثقافة الوطنية المواطنية، بواسطة الأجهزة التي تسيطر عليها الدولة كالمدرسة الجمهورية المجانية والإعلام الرسمي، والنص الدستوري بالمساواة الكاملة بين السوريين، ما يفترض إلغاء بعض المواد الدستورية التي تخص دين الدولة ودين الرئيس، وأما الأمور الأخرى، كمرجعيات التشريع ودرجة حيادية الدولة والنص الصريح على الفصل، فهذه ستخضع للتوافقات. لكن، على الأقل علينا أن ننطلق بالحد الأدنى الذي يقوم على مرتكزين أساسيين هما الهوية الوطنية والمساواة المواطنية الكاملة.
يبقى أن هذه الوثيقة في ما يخص فقرة العلمانية لم تعرض بصورة تامة موقفَ طرف أساسي في الوطن هو الإسلام السياسي، ولكن لا يستدعي ذلك اعتبارها ناطقة باسم «الأقلية الوطنية… تلك الفئة المجتمعية التي ترى حياتها في الماء الذي تسبح فيه»، فهذا المنطق الارتكاسي لا يُسهم في تجاوز المحنة السورية، والاتجاه نحو بناء مجتمع سوري يكرس الحرية والمساواة المواطنية الكاملة.
……………………………
الهوامش
1ـ عزيز العظمة، العلمانية من منظور مختلف: الدين والدنيا في منظار التاريخ، الطبعة الأولى، (مركز دراسات الوحدة العربية، 1992).
2ـ عزمي بشارة، المجتمع المدني : دراسة نقدية، الطبعة السادسة (بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012).
الطبعة الأولى للكتاب عام 1996، وصدرت عن مركز دراسات الوحدة العربية، وظهرت منه ثلاث طبعات عن المركز في بيروت، ثم صدرت طبعتان منه في فلسطين، ثم صدرت الطبعة السادسة الجديدة في 2012 عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
3ـ محمد عابد الجابري، الدين والدولة وتطبيق الشريعة، الطبعة الأولى (مركز دراسات الوحدة العربية، 1996، ص : 108 ـ 114).
4ـ لست هنا لكي أمنع أو أجيز المدارس الخاصة، بل لأكشف الأسباب والآثار الاجتماعية لظهور وتنامي هذه الظاهرة، فالمهمة الأولى للمثقف هي البحث فيما وراء الظواهر، ليكشف بعض خلفياتها غير المرئية أو غير المقروءة للجمهور، وليس لكي يمنع أو يجيز، فهذه مهمة السياسيين المنتخبين من الشعب.
5ـ ثلاثية عزمي بشارة في «الدين و العلمانية في سياق تاريخي».
ـ الجزء الأول: الدين والعلمانية في سياق تاريخي: الدين والتديّن (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة – بيروت، صدرت الطبعة الأولى 2013)، عدد الصفحات 496 من القطع الكبير.
ـ الجزء الثاني ـ المجلد الأول: الدين والعلمانية في سياق تاريخي: العلمانية والعلمنة الصيرورة الفكرية (من إصدارات المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات، بيروت، الطبعة الأولى 2014)، عدد الصفحات 912 من القطع الكبير.
ـ الجزء الثاني ـ المجلد الثاني: الدين والعلمانية في سياق تاريخي: الصيرورة التاريخية وعملية العلمنة (المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات، الدوحة – بيروت، الطبعة الأولى 2014)، عدد الصفحات 480 صفحة من القطع الكبير.
الكتاب هو دراسة تاريخية عن تطور العلمنة والعلمانية في الغرب، وفي نفس الوقت محاولة لتفكيك السرديات الكبرى المحيطة بمفهومي العلمنة والعلمانية (انظر في هذا الصدد كتاب «نظرية العلمانية عند عزمي بشارة: تفكيك السرديات الكبرى للعلمنة والعلمانية» للباحث مصطفى آيت خراوش).