قام مركز حرمون للدراسات المعاصرة مشكورًا بالعمل على رعاية مشروع “وثيقة توافقات وطنية”، الذي ساهم في إنجازه مجموعة واسعة من التيارات الفكرية والسياسية، وناقشت الوثيقة أهمّ القضايا الخلافية والجدلية التي ستواجهنا، السوريين والسوريات، لبناء دولة سورية الجديدة، وانطلاقًا من القناعة التامة بضرورة توسيع طيف المشاركة وتجسيدها كأهمّ فعل دالّ على المواطنة المتساوية المنشودة، كانت الملاحظات الآتية على الوثيقة، على أمل إغناء النقاش، وتقريب وجهات النظر، والوصول إلى الاتفاق المأمول الذي يضمن إنشاء أسس ثابتة لبناء دولة مدنيّة تُعلي قيم المواطنة والحريات.
انطلاقًا من جوهر المشروع القائم على السعي للاتفاق على وثيقة وطنية، أجد أن من الضرورة التوقف عند الخلفيات السياسية والمدنيّة والأيديولوجية للمشاركين والمشاركات في الحوار حول الوثيقة، والإجابة عن السؤال الأهم: هل تمثّل هذه العيّنة من الأسماء التي شاركت في هذا الحوار مختلف شرائح المجتمع، دينيًّا وسياسيًّا وقوميًّا وأيديولوجيًّا؟ وهل شاركت كلّ التيارات السورية المتباينة، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، في تناول المواضيع الحساسة التي أوردتها الوثيقة؟
من المفيد جدًّا فتح باب النقاش حول الوثيقة، وأرجو أن يؤدي هذا النقاش إلى النتيجة المرجوة منه بعد صياغة مبادئها.
بعد مراجعة الأسماء التي شاركت في الحوار، نلاحظ أن هناك أطرافًا كثيرة فاعلة في المجتمع السوري، وتملك وجهة نظر مختلفة تمامًا عما ورد بالوثيقة، لم تكن حاضرة، ولم تشارك رأيها، ولم يكن لها أيّ دور، وعلى الأغلب لا تتفق مع ما جاء، بما يخصّ -على سبيل المثال لا الحصر- شكل الدولة ونظام الحكم ومبادئ الدستور وما طرأ على هيكلية النسيج الاجتماعي السوري ببعده الطائفي والقومي، كما طرحت الوثيقة، (المسألة الطائفية والكردية).
ولكي يتبلور الجهد الكبير الذي قام به مركز حرمون للدراسات، نورد أهم التوصيات بهذا الخصوص:
- عقد مزيد من المشاورات بشكل موسع، على أن تشمل كل التيارات المختلفة التي لا يمكن تجاوزها، فهي تعكس وجهة نظر شرائح كبيرة من المجتمع، لأنه من السهل التوافق بين المجموعات المتقاربة بوجهات النظر حول ما تم طرحه، في حين أن المعضلة الحقيقية التي ستواجهنا، السوريين والسوريات، في بناء سورية الجديدة، هي الحوار الواسع دون إقصاء، لأن غياب أي جهة سيكون عائقًا أمام تحقيق الهدف في المستقبل، لعدم جدوى تطبيق قواعد تتعارض مع الأغلبية.
بما يخصّ البنود التي جاءت بالوثيقة، كانت الملاحظات كالتالي:
جاء في الفقرة التي تتحدث عن القواعد الدستورية المحصنة التي تحتاجها سورية نقاط جوهرية مهمة، اتفق مع مجملها، ولكي نصل إلى الاتفاق على هذه القواعد، علينا الاعتراف بأن هناك طيفًا واسعًا من السوريين ما زالت هذه القواعد الدستورية التي وردت بالوثيقة مثارَ خلاف ورفض أو تحفظ عندهم، بسبب تباين التيارات السورية لرؤيتها لسورية الجديدة، وخصوصًا الأحزاب السياسية الدينية أو القومية، فضلًا عن الشرخ الاجتماعي الذي أصاب المجتمع السوري، وأظن أن من المبكر الاعتماد عليها، كصيغة جامعة، لأن التوافق يحتاج إلى حد أدنى من الثقة بين كل شرائح المجتمع، وهو بالوضع الراهن غير موجود، إضافة إلى أن إقناع كل الأطراف، بأن هذه الصيغة هي التي تؤسس لضمان الحريات وتحقيق المساواة وبناء الدولة على أسس المواطنة، يحتاج إلى جهدٍ يعيدنا إلى التوصية بضرورة عقد نقاشات مطولة بين المختلفين جذريًّا حول هذه النقاط، لا المتفقين بالحد الأدنى عليها.
ورد في آخر الفقرة (ب) عبارة غير واضحة، تسمح لحدوث التباس كبير… ما لمقصود بتكريس مبدأ دستوري يقضي بسمو الاتفاقات والمعاهدات الدولية على التشريعات الوطنية؟
من البديهي أن يكون هناك احترام والتزام صريح بتنفيذ كامل الاتفاقيات الدولية التي تقوم السلطة السياسية الحاكمة بالتصديق عليها، ولكن لماذا تسمو هذه الاتفاقات على التشريعات الوطنية التي يفترض أنها موضوعة بعناية لضمان حقوق المواطنين والمواطنات دون أي تمييز؟ ما الذي يضمن أن وجود إشارة بالدستور “تجعل مرتبة الاتفاقات والمعاهدات الدولية” بمنزلة محمية بالدستور أكثر مما يحمي تشريعاتنا الوطنية عدم المساس بالسيادة الوطنية؟ نتمنى تقديم شرح أو توضيح لهذه الفقرة، أو فتح باب النقاش الموسّع حولها.
ورد، في فقرة الحقوق والحريات في سورية الجديدة، مقترح مهمّ: (للتغلب على صعوبة توفيق قوانين الأحوال الشخصية مع الشرعة الدولية، يمكن إصدار قانون مدني ينظم الأحوال الشخصية، إلى جانب تلك القوانين الخاصة بالطوائف والمذاهب، ويسري على جميع السوريين، وتترك للناس حرية اللجوء إليه إذا رغبوا بذلك)..
ولكن نعلم جميعنا أن هناك قوانين تمييزية كثيرة في قانون الأحوال الشخصية الحالي ضدّ فئات عديدة بالمجتمع، منها النساء، بقضايا كثيرة تتعلق بالزواج والطلاق والإرث والقوامة والولاية… الخ، وعندما نطرح فكرة قانون مدني يكفل الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، وآخر شرعي تابع للطوائف، سنجد أنفسنا في تناقض واضح مع مبادئ الدستور المتوقعة، التي تكفل جميع الحقوق لكل المواطنين والمواطنات بدون تمييز على أساس العرق واللون والجنس والدين والقومية، وهنا تظهر من جديد الحاجة الملحة، بالفترة اللاحقة، إلى حوار مجتمعي على مستوى رجال الدين والقانون، للنقاش فيما بينهم من جهة، ومع باقي فئات المجتمع الأخرى، على هذه التناقضات التي ربما تؤدي إلى توافقٍ ما يقلّص هذه الهوة ويجنبنا اللجوء إلى هذا الخيار. وكذلك كانت هناك إشارة في الفقرة (ب)، إضافة إلى وضع تصوّر قابل للتطبيق بإطلاق مبادرة لرعاية هذا الحوار يحاكي العمل على هذه الوثيقة، على سبيل المثال.
ووردت في فقرة معالجة الأزمة الطائفية هذه العبارة: السعي الدؤوب لتحقيق عدالة انتقالية في سورية، باعتبارها (الوسيلة الأكثر فعالية لسحب فتيل الأزمة الطائفية وإعادة السلم الأهلي). وهنا أقول: هناك دول عديدة خاضت تجارب شبيهة بسورية، وخلّفت شرخًا اجتماعيًا كبيرًا، لأسباب طائفية أو عرقية أو قومية، كالبوسنة ورَوندا، على سبيل المثال لا الحصر. وتجربة سورية ليست منفردة، لكنها تملك خصوصية لتجذّر البعد الطائفي بمكونات المجتمع والدولة أكثر من خمسين عامًا، إضافة إلى ما خلّفته سياسات الأسد الطائفية في قمع الثورة، ومحاولة تحوليها إلى حرب أهلية. وهناك أجيال جديدة نشأت بهذه البيئة السامة خلال السنوات الطويلة، ونحتاج إلى الاطلاع على تجارب كل الدول، في سبل تجاوز ما مرّوا به، ونحاول الابتعاد عن النسخ واللصق لتجارب لا تشبه مجتمعاتنا ومشاكله الحقيقية، بل الخروج برؤية من وحي التجارب الناجحة، مثل وضع خطط تتعلق بتحقيق العدالة وملاحقة الجناة وجبر الضرر ورد الاعتبار للضحايا، وعدم الاستهانة بتأثير هذه القواعد، لردم الهوة والتشجيع على التجاوز والمسامحة وفتح صفحة جديدة بالتدريج تساعد المجتمع في التعافي.
عند الإشارة إلى دور منظمات المجتمع الدولي في سورية الجديدة، أغفلت الوثيقة تحديًا كبيرًا تعانيه منظمات المجتمع المدني السورية الحالية التي تأسست بعد اندلاع الثورة حتى الآن، وإن كانت أشارت إليه الوثيقة بشكل مختصر وضبابي. وهو علاقة منظمات المجتمع المدني بالممول الأجنبي، وتنفيذ برامج كثيرة تكبّل حرية العاملين بمنظمات المجتمع المدني، وتقيد قدرتهم على العمل الحقيقي الذي يصبّ بصالح الدولة الوطنية التي نتطلع لها. ونحتاج إلى مراجعة شفافة لهيكلية المنظمات وآلية عملها والخطط التي تشرف عليها، والاستفادة من الخبرة الكبيرة التي اكتسبها العاملون والعاملات والمديرون والمؤسسون لهذه المنظمات، من دون إقصاء أو تهميش لأي مكون، لوضع رؤية استراتيجية وطنية تنفذ مشاريع وطنية بعيدة عن إملاءات المموّل التي تحدّ إلى درجة كبيرة من قدرة هذه المنظمات على التأثير في القطاعات العاملة فيها كافة، من الإغاثة إلى الشق التوعوي.
وهناك ضرورة ملحّة لإعادة النظر في خطط الإغاثة كأولوية، والانتقال إلى مرحلة التنمية الحقيقية التي تحتاج إليها المرحلة القادمة، وهناك تجارب دولية مهمة بدمج قطاع الإغاثة بالتنمية، بحيث نتخلص من اعتماد معظم شرائح المجتمع على السلة الإغاثية، والتدرج لإحياء الشخصية السورية المنتجة من جديد
في الفقرة الخاصة بالتعليم في سورية الجديدة، نلاحظ أن الوثيقة وضعَت أسسًا وقواعد للتعليم في مرحلة الاستقرار، لا قي مرحلة الأزمة، وأظن أن ملف التعليم يجب أن ينظر إليه كحقيبة أزمة، تحتاج إلى التفكير خارج الصندوق، لردم مخلفات الحرب وتأثيرها على أجيال كاملة، على الأقل في مشكلة تسرّب ملايين الطلاب الحاليين من التعليم، فالمتسربون والمتسربات ومن لم تتح لهم فرصة إكمال تعليمهم ربما يفوق عددهم نصف الشعب السوري، حيث إن سورية تصنّف من الدول الفتية، ويجب وضع خطط طوارئ سريعة لتجنب كارثة قد تكون أول تحدٍّ يواجه استقرار الدولة الجديدة، فعدد الأطفال خارج المؤسسة التعليمية كارثة إنسانية، ويجب أن تكون هناك أولوية لفتح حوارات موسعة حول هذه القضية، فهي لا تقل أهمية عن نقاش الدستور والقانون، ويتشارك فيها كل فئات المجتمع ونخبه السياسية والثقافية والاقتصادية والتعليمية، للتوافق على مقترحات عملية قابلة للتطبيق تجنّب خسارة سورية لأجيال كاملة.