أولًا: اقتراح أسس فكرية:
في اعتقادي، إن المبادئ ما فوق دستورية يجب أن تعتمد على مبدأ الفرد السوري، وليس على الجماعة والجماعات السورية؛ فالمواطنة التي هي صفة الدولة (دولة المواطنة) تعود لفرد وليس لجماعة. والحقوق كلها تعود لأفراد وليس لجماعات، وإلا فسنقع في مطبّ التجربة اللبنانية والعراقية، وفي مطبّ تناقض مفاهيمي ما بين دولة المواطن المفترضة، وما بين ما اعتدنا على التفكير به ورسخ في لا وعينا. أقصد مجتمع ودولة الجماعات والطوائف، فالدولة هنا مهمّتها إرضاء الجماعات ومنع اشتباكها، والاشتباك من طبيعة الجماعات.
ومهما كان الدستور مثاليًا، فإنه ما دام يجعل الجماعات أساس الوطن، فسيصل إلى الطرق المسدودة والفساد والحروب الباردة أو الفعلية.
ثانيًا: شكل الدولة أم بنيتها ووظيفتها؟
أعتقد عند الدعوة إلى نقاش شكل الدولة لا يجب الركون إلى القوميين، سواء أكانوا قوميين عربًا أو قوميين كردًا أو سريانًا أو تركمانًا.. الخ، لأن الدولة التي يحدد شكلها الأيديولوجيون ستبقى دولة قلقة، من ناحية، ومن ناحية أخرى، ستكون دولة فاشلة حتمًا.
من الخطأ أصلًا نقاش شكل الدولة، الصحيح هو نقاش وظيفة الدولة ودورها، بعد ذلك نقاش بنية الدولة الضرورية لتقوم بدورها ووظيفتها المحددة. وبعد ذلك، يمكن نقاش شكل الدولة. (مثال على ذلك، اخترع شخص ما السيارة لتلبية حاجة السفر واختصار الزمن.. بدأت السيارة من فكرة تصوّر عام، ثم بدأ ببناء الآلة الجوهرية فيها الدولاب ثم المحرّك الذي يدفع الدواليب … وخلال عملية البناء، ظهر شكل السيارة أخيرًا).
أعتقد أن الدولة الناجحة، في كل مكان وزمان، هي التي تلبّي حاجات الإنسان الأساسية أولًا، ثم الكمالية لاحقًا، بأقلّ تكاليف وآلام وجهد ممكن.. وهذه الدولة يبنيها التكنوقراط والاختصاصيون والخبراء، وليس الأيديولوجيين والسياسيين، ولا سيما إن كانوا قوميين أو شيوعيين أو دينيين… الخ.
وظيفة الدولة هي التنظيم والإشراف والردع والرعاية، أي إقامة العدالة وحراسة الحياة، بما فيها من إنتاج ونموّ.
ثالثًا: بخصوص اللامركزية والعلمانية:
بالنسبة إلى اللامركزية: الدولة المركزية تحدد الخطوط العريضة للمناهج التربوية والمدرسية، بما لا يخترق مبدأ التعايش والحياة المشتركة ووحدة البلاد مجتمعًا ودولة. وهذا أمرٌ يتم حتى في ألمانيا اليوم، مثلًا.
نظام اللامركزية الإدارية مناسبٌ لسورية والعراق.. بل للعالم العربي ككل، ولكلّ بلدٍ يعاني آثار المركزية الشديدة والبيروقراطية..
بالنسبة إلى العلمانية: ما سميتموه (العلمانية اللينة) إضافة جديدة وخطوة إلى الأمام، في إشكالية علمانية ” العلمانيين السوريين”، ونظرتهم للواقع السوري.. فمن الواجب بالفعل تقديم بناء نظري وفكري لعلمانية جديدة، لا تعارض القيم الجوهرية للأديان والثقافات السورية، وفي نفس الوقت لا تعترض على القيم العالمية (حقوق الإنسان عدالة حرية فردية).
بالفعل، مسموعيات العلمانية غير جيدة في سورية والعالم العربي، لأن هناك أجهزة دعاية عربية ودولية ربطتها قصدًا بأشخاص نزقين مدّعين شبه جاهلين، يشتمون الإسلام ويعادون المجتمع باسم العلمانية. لذلك، أعتقد أن مصطلح الدولة العادلة، بالنسبة للسوريين، يدعو للطمأنينة أكثر بكثير من مصطلح الدولة العلمانية.
كم نسبة السوريين الذين يوافقون على العلمانية آخذين بعين الاعتبار الخلفية الدينية (والتدين عمومًا) لثلاثة أرباع السوريين، لا سيما بعد الثورة والحرب! أعتقد أن مجرد وجود كلمة علمانية في الوثيقة، وفي أي وثيقة، سيجعلها محلّ تشكيك ونفور من عامة السوريين.. لذلك لا بد من إيجاد بديل للكلمة، مع الإبقاء على مضامين ومحتويات العلمانية.
تعديل عبارة “تحمل مسؤولية العلويين”، فهي توحي بأن معظم العلويين مسؤولون عن ارتكابات النظام، بل عن النظام، باستثناء جماعة منهم. والجميع يعلم أن سورية، ومن ضمنها كل الجماعات السورية، مخطوفة من النظام ومن دول وأجهزة دولية، وأن النظام تم تركيبه وتعيينه وتوظيفه من قوى دولية وإقليمية وليس من العلويين..
لذلك، أقترح حذف هذه العبارة بالكامل، لأنها تُخفي نظرة نمطية روّجت لها قوى داخلية إسلامية وقوى معارضة فاشلة، لتحميل وزر فشلها على جماعة سورية مضطهدة وخائفة تاريخيًّا ومخطوفة، ولا تملك من أمرها شيئًا، مثل عموم السوريين.
رابعًا: اقتراحات عملية:
- أقترح عقد حلقات للمشاريع المهمة مثل الطائفية، اللامركزية الإدارية، المقاصة والعدالة، كذلك عقد حلقةٍ للنقاش عن جوهر الدولة: هل هي المواطنة أم الجماعاتية. والإجابة عن السؤال الجوهري التالي الذي يحدد كل شيء: هل المجتمع السوري والدولة السورية المنشودان هما مجتمع ودولة الأفراد المواطنين الأحرار المستقلين؟ ام هما مجتمع ودولة الجماعات والطوائف؟
- عقد حلقات مستمرة واجتماعات، عن كل موضوع ممّا سبق ذكره، لصياغة كل موضوع في مشروع عملي وتنفيذه.
- التفكير في تكوين مجلس حكماء، يكون مرجعًا في المسائل الطارئة، ومنها المبادئ فوق الدستورية في المرحلة الأولى، يكون مقرّه خارج سورية لضمان حياديته وعدم تعرّضه للضغوط.
- اقتراح برنامج لمكافحة العنصرية (الطائفية المناطقية الثقافية أو القومية) ورصد حملات الكراهية في وسائل إعلام الثورة والمعارضة. فخطورة وسائل الإعلام وكلّ منبر ينشر محتوًى سمعيًا بصريًا أنها تصنع رأيًا عامًا، بل عقلًا جمعيًا جديدًا للسوريين، ومع الأسف تشكّل العنصريات أساسًا ومكونًا أساسيًا له: العنصرية المذهبية، المناطقية، الثقافية، الدينية، الطائفية. ولذلك، أقترح تكوين مجلس أو حلقة عمل مفتوحة، لمتابعة ورصد وسائل إعلام المعارضة والمحتوى الإعلامي (يوتيوب..) ووسائط التواصل (فيسبوك …) تكون مهمّته جمع كلّ المواد العنصرية وغربلتها، وتحديد درجة خطورتها وأسباب انتشارها، واستهدافاتها، وفضح هذه المنابر، وعزلها عن مجتمع الثورة، ورفع دعاوى قضائية بحق القائمين عليها، في حال ثبات نهجها العنصري.
العجز والفعل والفاعلين:
الرد على العجز يكون بالتخطيط والفعل، وليس بالتخطيط فقط عبر إنتاج الوثائق، مهما كانت هذه الوثائق مثالية وكاملة.
لدينا مشكلة جوهرية تتعلق بـ “الفاعلين”، فنحن نتوهم أننا نقوم بفعل، لمجرد أننا نمتلك الفاعلية في إنتاج وثائق، علمًا أن كثيرين منّا -المشاركين في المؤتمرات والورش لإعداد وثائق ومسودات سياسية وتشريعية لسورية المستقبل- لا يمتلك أدنى معرفة في أسس الحوار، فضلًا عن القدرة أو الرغبة في فكّ الاشتباك وتقريب وجهات النظر وتدوير الزوايا، وذلك لأننا -معظمنا- لم نصل إلى مستوى قبول المختلفين فكريًا وسياسيًا، والمختلفين ثقافيًا وأيديولوجيًا.
وهناك مشكلة أخرى في فاعلين وفاعلات تتكرر أسماؤهم، في كل المؤتمرات والورش واللقاءات والندوات، يعتقدون أن وجودهم الفيزيائي أو الافتراضي هو بحد ذاته فعل مقاومة يُسقط النظام، وخطوة لانتصار الثورة، علمًا أن بعضهم ليس لديه ما يقدّمه فعليًّا أو أنه استنفد ما لديه، وبعضهم مجرد وجوده يعطي رسالة سلبية لجمهور المعارضة والثورة، والبعض الآخر يأتي لتخريب أي اجتماع ومنع أي إجماع، لأسباب شخصية أو غير ذلك ربّما.
وثمة كوابح داخلية تمنع نجاح أي مؤتمر وندوة وورشة يعلن أسماء الحضور فيها؛ لأن السوري إنسانٌ يشخصن كل شيء، في أي وثيقة أو محاضرة أو أي مشروع، يتساءل السوري أولًا عن هوية الشخص أو هوية من يقفون وراء المشروع، لذلك إن لم يكن الأشخاص أسوياء نزيهين، وعلماء أو خبراء في مجال ما، فلن يقبل السوريون أي شيء يقومون به أو يقدّمونه للعموم.
الخطوة التالية:
بالمجمل، هذه وثيقة جيدة، فيها إضافات، وتحتاج إلى مزيد من التعديل بما يناسب الحالة السورية الكارثية، الخشية أن توضع الوثيقة إلى جانب أخواتها السابقات، وهنا يفترض بنا أن نسأل: ما هي الخطوة التالية؟
وإذا لم نحاول فعل شيء لوضع بعض توصيات الوثيقة محلّ تنفيذ، فلن يكون لها فائدة عملية.
ختامًا، يبقى سؤال أخير: مَن سيضمن تطبيق هذه الوثيقة أو الدستور بعد الحرب؟ فألمانيا مثلًا لولا الدعم الأميركي الأوروبي لم تنهض.