نشر مركز حرمون للدراسات المعاصرة وثيقةً، بعنوان “مشروع وثيقة توافقات وطنية”، استندت إلى خلاصة مخرجات عمل مشروع حوار وطني أطلقه المركز، استمر لأكثر من عام، وشارك فيه مئات السوريات والسوريين من مشارب فكرية وسياسية وانتماءات دينية وقومية متنوّعة، سواء بصورة مباشرة من خلال جلسات الحوار الأساسية، أو غير مباشرة عند مناقشة تقارير الجلسات. نوقش “12 موضوعًا رئيسًا ذا علاقة بإعادة بناء الدولة السورية، من الموضوعات التي يوجد حولها تباينات كبيرة أو صغيرة، بين التيّارات الرئيسة في سورية، وغاية الحوار إبراز نقاط الالتقاء والافتراق وممكنات جسر الهوية والوصول إلى توافقات في الرؤى”، وفق وصف القائمين على المشروع.

شملت الموضوعات القواعد الدستورية المحصنة، نظام الحكم وشكل الدولة وعلمانيتها، المواطَنة المتساوية، العدالة الانتقالية، الحقوق والحريات، الأزمة الطائفية والأزمة القومية، التعليم والتربية، النموذج الاقتصادي، ومنظمات المجتمع المدني، فضلًا عن المبادئ العامة، سيادة القانون، الفصل بين السلطات، واستقلال القضاء. وإذ تُعرض الوثيقة الآن على النقاش العام، وبعد تثمين جهد فريق المشروع والمشاركات والمشاركين فيه كافّة، تأتي هذه الملاحظات أو التعليقات الأولية على بعض ما جاء في مشروع الوثيقة، سعيًا إلى المساهمة في تطوير مضمونها.

على الرغم من أنّ الوثيقة صيغت ضمن رؤية ذات أفق مستقبلي، فإنّ إغفالها الخوض في عدد من المعطيات الإشكالية الراهنة والسابقة على مرحلة الشروع ببناء “سورية الجديدة”، شكّل قصورًا يحتاج إلى معالجة، نظرًا لما ينطوي عليه الموقف إزاء تلك المعطيات من خلافات عميقة في الرؤى والمواقف، مما يتطلّب السعي إلى إيجاد توافقات حولها.

إنّ “التسوية السياسية” المتعثرة، وما قد ينتج عن استئنافها ونجاحها، وكذلك موضوع استمرار وجود القوى الأجنبية المنتشرة في سورية، هما عاملان مؤثّران في إمكانية العمل مستقبلًا على إيجاد السبل الكفيلة بإنجاز المواضيع والمحاور التي تناولتها الوثيقة. كما أنّ مصير الجيش وأجهزة المخابرات الحالية، وكذلك الميليشيات المسلّحة، الموالية منها والمعارضة على حد سواء، هي مواضيع بالغة الأهمية لم تتطرّق إليها الوثيقة، وتحتاج إلى إيجاد “توافقات وطنية” في شأنها أيضًا، فالمقاربات متباينة عند مناقشة هذه الأمور، ونتائج السيناريوهات المحتملة مختلفة: حلّ الجيش والأجهزة الأمنية يختلف عن إعادة هيكلتهما، وتفكيك الميليشيات ونزع سلاحها شيء، ودمج عناصرها وأسلحتهم في الجيش والشرطة شيء آخر. وبالتالي، سيكون من المفيد عقد مزيد من جلسات الحوار لمناقشة الموقف من هذه المسائل، أملًا في التوصل إلى توافقات وتضمينها في الوثيقة، نظرًا إلى تأثيرها البالغ على مجمل المواضيع التي ينشغل بها المشروع.

جرت الإشارة في فقرة “القواعد الدستورية المحصنة التي تحتاجها سورية” (ص7)، إلى وجوب اختيار هذه القواعد وفق “معايير دقيقة ومدروسة”، وفي هذا السياق، وردت عبارة عن قابلية القواعد الدستورية المحصنة “للتجميد، بحيث لا تصطدم بحركة المجتمع وحاجته إلى التطور” (ص8). تبدو العبارة ملتبسة أو غير دقيقة، فالقواعد هذه إما أن تبقى مصونة ومتمتعة بحصانة استثنائية ضدّ التعديل إلا بشروط شديدة الصعوبة، وفق ما جاء في الفقرة نفسها، أو أن تنتفي الحاجة إليها مستقبلًا، حين تبلغ سورية درجة من التطور السياسي والدستوري والقانوني، على صعيد الدولة والمجتمع، بحيث لا يعود هناك سبب لوجودها. أمّا فكرة “التجميد” وما توحي به من وضع مؤقت أو عارض، فهي لا تنسجم مع علّة وجود قواعد دستورية محصنة ودورها.

عند الحديث عن “سيادة القانون في سورية الجديدة” (ص9)، ورد بند بشأن “تحديد دور ووظائف مؤسستي الأمن والجيش، وإخضاعهما للقانون والمساءلة، ولمجلس مستقل عن الرئاسة، وضمان حيادهما السياسي”، وهنا ربما تجدر إضافة ما يفيد بأن ذلك يكون بموجب نص دستوري صريح. وجاء في البند الذي يليه “تكريس مبدأ دستوري يقضي بسمو الاتفاقات والمعاهدات الدولية على التشريعات الوطنية”، وهنا تخبرنا التجربة السورية في ظل الاستبداد أنه كثيرًا ما جرى التوقيع على اتفاقيات دولية، لكن من دون المصادقة عليها، أو المصادقة مع التحفظ على مواد أساسية فيها مما يبطل فاعليتها ويفرغها من مضمونها. إنها مشكلة يجب أن تُلحَظ في هذا المبدأ الدستوري، وإلا فلن يكون فعالًا أو ذا قيمة.

تحت عنوان “الحقوق والحريات في سورية الجديدة” (ص10)، تعلن الوثيقة أنّ الدولة السورية القادمة “تتبنى الشرعة الدولية لحقوق الإنسان بوثائقها الثلاث، وتعمل على تكريسها دستوريًا وقانونيًا، باعتبارها خلاصة وذروة ما أنتجته الحضارة البشرية في مجال حقوق الإنسان عبر تاريخها، وباعتبارها منظومة متكاملة لحماية الأفراد وتكريس حقوقهم وحرياتهم وضمانها”. يُقصَد بالوثائق الثلاث التي تشكّل “الشرعة الدولية لحقوق الإنسان” الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966). ويُعَدّ تبنّي هذه المواثيق أساسًا لا غنى عنه لبناء نظام ديمقراطي عصري يصون كرامة الإنسان وحقوقه، إلّا أنّ منظومة حقوق الإنسان تطوّرت باطّراد، وبات هناك العديد من الاتفاقيات الدولية التي تفصّل في الحقوق المنصوص عنها في الوثائق الثلاث المشار إليها، مثل اتفاقية مناهضة جميع أشكال التمييز والعنف ضد النساء (1979)، واتفاقية مناهضة التعذيب (1984)، واتفاقية حقوق الطفل (1989)، فضلًا عن نظام روما الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية (1998). ومن ثم، ينبغي عدم الاكتفاء بذكر الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، والإشارة إلى اتفاقيات أخرى ذات صلة، ويمكن ذكر بعضها كأمثلة ضمن هامش.

خصصت الوثيقة فقرة لموضوع “العدالة الانتقالية من أجل سورية الجديدة” (ص18)، لكنّها جاءت عمومية للغاية، تقتصر على تأكيد ضرورة العدالة الانتقالية وحاجة سورية الماسّة إليها. وبهذا، لم تقدّم الوثيقة أي إضافة لمن لا فكرة لديه عن “العدالة الإنتقالية” من القرّاء، فهي ليست عنصرًا واحدًا أو عمليّة واحدة، وحريٌّ بالوثيقة أن تشير إلى مسارات العدالة الانتقالية المترابطة (منها: محاسبة الجناة، كشف الحقائق، التعويض وجبر الضرر، إحياء الذكرى.. إلخ)، ولو على سبيل التعداد.

في فقرة “علمانية الدولة السورية” (ص21)، وردت عبارة تفيد بأنّ “العلمانية اللينة” التي تتحدث عنها الوثيقة “تعني أن يقتصر تطبيق العلمانية على مستوى شؤون الحكم ومؤسسات الدولة فقط”، وهنا ينهض السؤال: كيف سيكون النظام السياسي علمانيًا، تتكامل فيه الديمقراطية والمواطنة والعلمانية، ما لم تكن القوانين ومناهج التعليم علمانية أيضًا؟ علمًا أنّ الوثيقة، أكّدت في فقرة “التربية والتعليم في سورية الجديدة” (ص26)، أنّ “المؤسسات التعليمية هي المكان الأول لترسيخ وتعزيز قيم المواطنة والعيش المشترك والديمقراطية وحقوق الإنسان.. والسوريون بأمس الحاجة إلى هذه القيم”، وهذا يتطلّب نظامًا تعليميًا علمانيًا محايدًا على المستوى الوطني. لذا، لا بد من صيغة تجنّب الوثيقة الوقوع في هذا التناقض، الذي يسبّبه حصر العلمانية في السطح السياسي، وإغفال مستوياتها التأسيسية في المؤسسات التربوية والتعليمية. يمكن أن يبقى التعليم الديني اختياريًا، على نحوِ ما أشير في فقرة “الحقوق والحريات في سورية الجديدة” (ص12)، عن إمكانية إصدار قانون مدنيّ للأحوال الشخصية شامل للسوريين جميعًا، وترك الخيار لمن يرغب في اتباع قوانين الأحوال الشخصية المستمدّة من المرجعيات الدينية.

هذه بعض النقاط التي يؤمل أن يكون لها أثر إيجابي في تطوير الوثيقة. ويبقى التأكيد على أهمّية مشروع الحوار الوطني، ومخرجاته التي تكثّفت في “مشروع وثيقة توافقات وطنية”، بوصفه مساهمة جادّة على طريق تلافي النقص الحاد لدى السوريات والسوريين في ثقافة الحوار، وبحث القضايا الإشكالية بذهنية منفتحة، تحاول البحث عن المشتركات، ونقاط الالتقاء التي يبنى عليها، بعيدًا من عقلية الاستقطاب والتمترس الأيديولوجي والسياسي، والتمسّك بأوهام امتلاك الحقائق المطلقة.