مقدمة
من خلال برنامج الحوار الوطني الذي هو واحدٌ من برامجه، أصدر مركز حرمون للدراسات المعاصرة خلاصة ما عمل عليه، بمشاركة 186 شخصية سورية إضافة إلى كادرٍ كبيرٍ من المركز، تحت عنوان (مشروع وثيقة توافقات وطنية سورية – مقاربة واقتراحات). وشملت الوثيقة الأوليّة، إضافة للمبادئ العامة وسيادة القانون والفصل بين السلطات واستقلال القضاء، عدّة موضوعات هي: القواعد الدستورية المحصنة، نظام الحكم، شكل الدولة، العلمانية، المواطَنة المتساوية، العدالة الانتقالية، الحقوق والحريات، الأزمة الطائفية، الأزمة القومية، التعليم والتربية، منظمات المجتمع المدني وشكل النظام الاقتصادي.
لن تنطلق هذه الورقة من مناقشة مفردات الوثيقة وما ورد فيها، على أهميته، والذي قد نتطرّق إليه في مناقشة مستقلّة لاحقًا، خاصّة أنّ بعض محاورها تحتاج إلى معالجات من زوايا مختلفة، ظهرت الحاجة إليها نتيجة الحوارات المعمّقة التي خاضها عددٌ من السوريين والسوريات في شأنها، والتي أضاءت على جوانب جديرة بالبحث والاعتبار.
لكنّها، أي الورقة هذه، ستنطلق من نقطة التركيز على النقد الذي جوبهت به الوثيقة، من تيارين سوريين موجودين في الفضاء الافتراضي وفي الواقع الحياتي، والذي وصل أحيانًا إلى درجة النقض والتشكيك بالمنطلقات والأهداف ودخل في النيّات واقترب من حدود نظرية المؤامرة، للتدليل على مذهب أصحابه. أوّل هذين التيارين هو القومي، مع ضرورة التمييز بين الحبور الظاهر الذي استُقبلت به من قبل بعض المنتمين إلى قوميات غير العربية، وبين الهجوم اللاذع والعنيف من قبل بعض المنتمين إلى التيارات القومية العربية. ثاني هذين التيارين هو الإسلامي، والذي نحا في العموم إلى اتخاذ موقف مرحّبٍ ظاهريًا، لكنّه رافضٌ في العمق والجوهر لمخرجات هذه الوثيقة.
ما المحاور التي تصدّى لها هذا المشروع؟
أكّد القائمون على صياغة النسخة النهائيّة من “مشروع الوثيقة” المعدّة للطرح أمام الجمهور، بهدف النقاش المفتوح والوصول إلى أفضل صياغة ممكنة، أنها:
“نظريًا، من زاوية احتياجات السوريين، يمكن تصنيف المواضيع التي تناولتها الوثيقة ضمن أربعة محاور، محور إحياء الثقة بين السوريين، باعتبار أنّ السوريين يحتاجون بداية إلى تجاوز حقبة الماضي، وإلى إحياء حدّ من الثقة بينهم، بما يكفي لتعاونهم وتفاهمهم في سبيل المصلحة الوطنية، ومحور معالجة آثار المرحلة السابقة، باعتبار أنّ السوريين يحتاجون إلى معالجة الأزمات العميقة التي خلفتها حقبة الأسد، ودمرت حياتهم المشتركة واجتماعهم الوطني، ومحور أسس بناء الدولة المقبلة، باعتبار أن السوريين يحتاجون إلى وضع أسسٍ لبناء دولتهم الوطنية الحديثة المستقرّة، ومحور تحصين النظام السياسي الجديد، باعتبار أنّ السوريين يحتاجون إلى تحصين نظامهم الجديد، وقطع الطريق على العودة إلى الوراء”.
ولما كان اهتمامنا ينصبّ هنا على النقد الذي تعرّضت له الوثيقة، فإنّه يدخل ولا شكّ ضمن باب المحور الأول، الذي هو محور إحياء الثقة بين السوريين. فهل نجحت الوثيقة في ذلك؟ سنرى هذا من خلال استعراض بعض الآراء المخالفة لمحتوى الوثيقة ولمبناها وطريقة إخراجها وتوقيت طرحها.
النقد أم النقض؟
سنبدأ باستعراض بعض مواقف التيار القومي المتفاعل مع الوثيقة، وسننقل هنا مقتطفات من آراءٍ نشرها أصحابها علنًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
بعض المواقف الصادرة عن خلفياتٍ قومية
بتاريخ 4 أيار/ مايو 2023، كتب الدكتور حسين مرهج العمّاش، على صفحته الشخصية في فيسبوك، منشورًا بعنوان: “وثيقة توافقات وطنية أم صك انتداب جديد بغلافٍ مزيف”، وقد أورد في مقدّمته ما يلي:
“هذه الوثيقة الصادرة عن مركز حرمون بعنوان “مشروع وثيقة توافقات وطنية” عن مستقبل سورية هي وثيقة مرفوضة جملةً وتفصيلًا. وأصبح الحديث عن المستقبل في هذا الظرف سابقًا لأوانه ويحمل معاني الهزيمة وليس معاني الحكمة. وما نقوله، أنه حتى لو كان العسل صافيًا (أي الوثيقة) فوجود نقطة سمّ واحدة فيه كافيه لرميه بعيدًا. ولهذا نقول للقائمين على المشروع أن يتكرموا علينا ويسحبوه ويلغوه نهائيًا، لأنه في أقله هو إهانة جديدة للعرب المسلمين في سورية.
والوثيقة من الشروط المذكورة فيها ومن لغة المراوغة التي كتبت بها تبدو كأنها صك انتداب جديد مغلف زيفًا بأسماء سورية. وهي عمليًا تشرعن نتائج حرب نظام الأسد على الشعب العربي المسلم، ولكن بأيد بعيدة عنه هذه المرة، كما يبدو. نعم مشروع الوثيقة هذا ليس أكثر من تقيّة أسديّة معتادة. فهذا المشروع لا يحلمُ الأسد بأحلى منه حتى ولو كتبته مخابراته في أقبيتها العتيدة.
فنظام الأسد الملتحف بالعباءة الوطنية المزيفة بقي أكثر من 50 عامًا يراوغ ولا يجرؤ على الإفصاح عن ممارساته القمعية والطائفية البشعة عن شكل السلطة التي يريدها، حتى تطوع جهابذة مركز حرمون ليتحفونا علنًا بما يشبه ما كان مخبوءًا في دهاليز الدولة الأسدية، بكل صفاتها”.
يذهب الدكتور حسين فيما بعد إلى ذكر مآخذه على الوثيقة، فيعدد من مثالبها ما يلي:
- تنكّرها لمبادئ الديمقراطية وحرية السوريين لإتيانها على ذكر المبادئ فوق الدستورية.
- تنكّرها لعروبة سوريا وللأكثرية التي هي العرب السنّة من خلال تعريفها للهويّة وبإخفائها أهدافًا سرية.
- تجاهلها عمدًا واقع وحق ملايين الضحايا اللاجئين والنازحين من العرب السنة حصرًا وتنسى وجودهم وحقهم.
- تجاهلها أيضًا أسباب ثورة السوريين على النظام الأسدي الطائفي ومساواتها بين الضحيّة والجلّاد.
- تبنّيها علمانية غريبة ضدّ الإسلام قصدًا تسعى للتضييق عليه ولا تحترم معتقدات الناس وثقافتهم.
- تبنّيها طروحات تقسيم البلد والناس بصورة مواربة بفرض مطالب عرقية: مثل اللامركزية الموسعة للحكم، وفرض لغة رسمية أخرى للدولة مع العربية.
ثم يخلص إلى القول:
“هذه بعض أهم الرذائل الموجودة في هذه الوثيقة الغريبة. وهي كافية لتكون سببًا للرفض القاطع التام لها واستنكارها وضرورة سحبها من التداول، حفاظًا على ما تبقى من احترام لبعض الأسماء الواردة في هذه الوثيقة”.
قد يكون الدكتور حسين واحدًا من قلّة كتبوا رأيهم بالوثيقة بهذه الصراحة التي وصلت إلى حدّ الفجاجة والاتهام والتخوين للوثيقة والقائمين عليها، لكنّه يعبّر بلا أدنى شك عن شريحة من السوريين ترى الصراع في سورية من مظلومية قومية عربية ودينية طائفية سنّية لا غير.
ما كان لهذا الرأي أو الموقف من الوثيقة أن يخرج بهذا الشكل دون لجوء معتنقيه إلى المغالطات المنطقية واستخدامهم المصطلحات وفق تعريفاتهم الخاصة بهم وفهمهم له، لا وفق ما هي عليه بذاتها وبما رسخت بموجبه في العلوم السياسية والاجتماعية والفكر الإنساني. فإعطاء المبادئ فوق الدستورية قيمة سلبية باعتبارها حقّ نقضٍ تمارسه جماعاتٌ سوريةٌ، بإشارة واضحة لبعض الأقليات العددية من السكان، وربط ذلك بالموروث الاستعماري من خلال التلميح إلى أنّ ذلك يعني وكأنّ فرنسا ما زالت هنا، ثم ربط ذلك كلّه بقواعد الديمقراطية واعتباره خرقًا لها، إنّما هو سلسلة من الحجج القائمة على ذهنيّة تحريمية إقصائيّة تأخذ من الأشياء ما تراه مناسبًا لها، وتطرح منها مضمونها وجوهرها. فالأقليّة والأكثرية هنا ليستا سياسية تضم بين جنباتها مواطنين من كل القوميات والأديان والطوائف والمناطق، بل هي أقليّة وأكثرية سكّانية تقوم على عنصر الدين والقومية. هنا يحقّ للأكثرية العددية، وفق هذا المنطق، أن تضع شكل الدولة وشكل نظام الحكم من خلال الدستور الذي يمثل البلد والمجتمع، إذ يمثلها وحدها باعتبارها الأكثرية. هنا تذوب المواطنة القائمة على الفرد بما له من حقوق وما عليه من واجبات، وتحلّ محلها الجماعة المتشابهة بالانتماء العرقي والديني والطائفي والمذهبي أيضًا. وفق هذه العقلية، لا يمكن تمييز العرب السنّة إلا مع من يقابلهم من السوريين من باقي القوميات والأديان، ولا مجال هنا للتمييز بينهم داخليًا على أساس اعتقاداتهم الفكرية المختلفة وانتماءاتهم السياسية المتعددة. هكذا يصبح العرب السنّة، دون تمييز بينهم على أساس مناطق سكناهم أو خلفياتهم الطبقية أو الفكرية أو السياسية هم السوريين وحدهم، والبقيّة ملحقون بهم، وكذلك دون تمييز بينهم وفق ما ذكر سابقًا من مشتركات أو مفترقات.
من هذا المنطق، يمكننا النظر إلى مجمل التهم التي كالها أصحاب هذا الاتجاه الذي عبّر عنه الدكتور حسين لمشروع وثيقة التوافقات الوطنية، فنرى أنّ المآخذ الخمسة الباقية، وما يمكن قراءته من قدحٍ وذمٍّ بين السطور أيضًا، ليست إلا بعض أوجه الاستبداد الفكري الذي يرى نفسه ومحيطه من ضمن زاوية أمّ الصبيّ. لقد ولّت تلك الأزمنة التي كان السكان يُقسّمون فيها أسيادًا وعبيدًا، أصلاء ودخلاء، درجة أولى ودرجة ثانية، وجاء الزمن الذي يطمح فيه الناس إلى مواطنة متساوية في دولة عادلة حيادية تجاههم وراعية لحقوقهم بنفس الوقت. لذلك، ومن هذا المنطلق يمكن القول بأنّ ما ذهب إليه أصحاب هذا التيار لا يشكل نقدًا لمشروع الوثيقة، بل هو نقضٌ هدفه الهدم لا البناء، والتشويه لا التصويب.
على المقلب الآخر، ثمّة احتفاء بيّنٌ بالوثيقة، من جهات مختلفة يجمع بينها هاجس الذوبان في الأكثرية المستندة إلى عقلّية أم الصبيّ ذاتها. ينصبّ الاحتفاء بشكل مكثّف على قضايا اللامركزية والعلمانية والديمقراطية والحقوق والحريات، وهذه كانت على الدوام مثار بحثٍ لا ينقطع، باعتبارها سبقت نموذج المواطنة في أوروبا أو ترافقت معه وحايثته. وعلى الرغم من أنّ سورية، التي تشكلت انطلاقًا من مشاورات المؤتمر السوري الأول والدستور الذي نتج عنه، كانت أقرب إلى اللامركزية منها إلى المركزية، فإنّ هذا الإرث لم يطل به العهد، فكان أول من انقضّ عليه الفرنسيون، ثم كرّسته الدولة الوطنية السورية التي باتت رهينة فكرة التقسيم. إعادة عقارب الساعة إلى الوراء غير ممكنة، وعدم النظر إلى الواقع الراهن، بعد الخراب العميم الذي جاء نتيجة تكلّس السلطة بيد مافيا عائلية ومجموعة مستفيدين منها، لا يورث إلا قصورًا في إيجاد الحلول له. لن تعود سورية كما كانت بؤرة استبداد مركزية، وهذا ما عزّز من قيمة مشروع وثيقة التوافقات الوطنية، عند شرائح واسعة من السوريين الراغبين في القطع مع الماضي والمضيّ قدمًا إلى الأمام.
بعض المواقف الصادرة عن خلفياتٍ دينية
بتاريخ 29/4/2023 كتب الأستاذ زهير سالم، في الموقع الإلكتروني لمركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية، تحت عنوان: “وجهة نظرٍ حول التوافقات الوطنية”، ما يلي:
“الأقلية الوطنية هي تلك الفئة المجتمعية التي ترى حياتها في الماء الذي تسبح فيه، وليس تناقضها الأول معه، لقد أساء لليهود حول العالم اعتبارهم لأنفسهم كانتونًا أول تناقضاته وأقرب تناقضاته مع المجتمع الذي يعيشون فيه، لا تكرروا التجارب فلن تنجح.
إن التحدي الأخطر أمام الأقليات الوطنية حتى تكون وطنية، أن تتجاوز تناقضاتها مع محيطها، وأن تجعل تناقضها الأول في مرحلتنا التي نعيش مع “الظالم المستبد”، وفيما يلي من مراحل مع مشروعات البناء والإنماء”.
ويقول الأستاذ زهير سالم في موقع آخر:
“تنكرون المرجعية الربانية تحت عناوين العلمانية، والليبرالية، كل هذا في عالم السياسة والفكر مفهوم – وقولي مفهوم لا يعني أنه عندي وعند جمهور كبير من السوريين مقبول، أما أن تستبدلوا المرجعية الربانية الإسلامية الشرعية التي تجري في عروق ملايين السوريين، بل الأكثرية الكاثرة منهم، وتشكل وجدانهم، بمواثيق دولية مختلطة وتسودوها على عقول الناس وقلوبهم، فهذا أمر عجيب، دين جديد، وشريعة جديدة، وأنتم الأساتذة والمعلمون والمستشرفون والسباقون، وتعلمون أن كثيرًا من مفردات هذه المواثيق ظلت موضع أخذ ورد بين المجتمعات التي أقرتها، على تجاذب، بل وما زالت، ومن ذلك مثلًا الحق في قتل النفس، المجمّل بالحق بالإجهاض!! والحقوق المبتذلة التي ما يزال يندد بها الأسوياء.. في كل المجتمعات!!
(أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ)”
من الملاحظ إذن أنّ منطلق التيار المعارض للوثيقة، والآتي من خلفية عقائدية دينية إسلامية تحديدًا، هو ذاته مبتدأ المغالطات المنطقية التي انطلق منها أصحاب التيار القومي. أي إنّ التيارين الرافضين للوثيقة يأخذان جزئيات بسيطة صحيحة ثم يعممانها ويطلقان الأحكام القيمية والأخلاقية على أساسها، باعتبارها مرجعية محسومة بالنسبة إليهم، ويجب أن تكون كذلك بالنسبة إلى غيرهم.
فمفهوم الأقليّة الذي تحدّث عنه الأستاذ زهير سالم ليس واضحًا من يشمل، فهل هي أقلّية سياسية أم قومية أم ماذا؟ لكنّ سياق الكلام الذي ذكره الأستاذ زهير يدلّ على أنّه كان يقصد ربّما الأقلية الدينية، فقد اعتبر بطبيعة الحال، وفق منطقه المستخدم في التحليل، أنّ المجتمع السوري ينقسم إلى أكثرية مسلمة، وأقليات غير مسلمة، وبالتالي فإنّ ما تقبله الأكثرية هو الأساس، وغيره هو العرض الثانوي. تعتبر هذه المغالطة المنطقية إذن أنّ المرجعية في تحديد التزامات أعضاء المجتمع، أفرادًا كانوا أم كياناتٍ، هي انتماؤهم الديني لا مواطنتهم. إنّ هذا المفهوم يتناقض وأسس الدولة الحديثة التي تقوم أساسًا على مبدأ المواطنة المتساوية والحقوق والواجبات المتوازية التي تفرض علاقة تبادلية بين الدولة والأفراد المنتمين إليها. على العكس من ذلك، يختصر الرأي المذكور المواطنة بالأكثرية، التي هي المسلمون السنّة من العرب والكورد والتركمان والشركس السوريين، بينما يبقى غيرهم من أتباع بقيّة الديانات والمذاهب خارج مفهوم المواطنة، وهم هنا رعايا لا مواطنين، أو مواطنون من الدرجة الثانية. يعزز هذا الموقف مقارنة الأستاذ زهير تجربة اليهود في المجتمعات المختلفة مع ما ينسبه إلى الأقليات في الحالة السورية، فيفهم من كلامه أنّ هذه الأقليات ليست جزءًا رئيسًا من تكوين سورية ومجتمعها ودولتها، بل هم حدث طارئ لا ينتمي إلى النسيج السوري، وهو بذات الوقت ينخر في بنيته محاولًا الحصول على حقوق ليست له. هكذا يُخرجُ الأستاذ زهير سالم، بجرّة قلم، من الشعب السوري فئات وازنة ورئيسة تشكّل جوهر فرادته وتنوّعه وحيويته.
أمّا النقطة الجوهرية الثانية، في ما كتبه الأستاذ زهير سالم، فكانت حسب وصفه أنّكم: “تستبدلون المرجعية الربانية الإسلامية الشرعية التي تجري في عروق ملايين السوريين، بل الأكثرية الكاثرة منهم، وتشكل وجدانهم، بمواثيق دولية مختلطة وتسودوها على عقول الناس وقلوبهم، فهذا أمر عجيب، دين جديد، وشريعة جديدة..”. هنا نعود مجددًا للمغالطة المنطقية التي يُبنى عليها مجمل الخطاب السياسي للإسلام السياسي عامّة، أي المرجعية الإلهية للسلوك السياسي والاجتماعي للبشر. تتضمّن هذه المغالطة عدّة افتراضات واهية، يحاول أصحابها على الدوام وضع أنفسهم موضع الممثل لإرادة الله، وبهذا فإنّهم يحتكرون الحقيقة والحكم ما داموا كذلك.
القول بأنّ “المرجعية الربانية الإسلامية الشرعة تجري في عروق الأكثرية الكاثرة من السوريين” يعني مصادرة حق هؤلاء باختيار مرجعيتهم الفكرية أولًا، ثم يعني أنّ صاحب هذا المنطق استند في استنتاجه المذكور إلى إحصاء دقيق، تبيّن له من خلاله دقّة ما يعتقد من جهة ثانية. يعني هذا كلّه من حيث النتيجة أنّ تنطح أصحاب هذا الرأي لتمثيل الكثرة الكاثرة من السوريين أنّه من حقهم افتراض ما يجب أن يكون عليه شكل الحياة التي تمثلهم، وتمثّل غيرهم بطبيعة الحال لأنّهم ملحقون ثانويون عرضيون بالأصل. هكذا يشمل هذا التدبير مواضيع شكل الدولة وشكل نظام الحكم فيها وعلاقة مؤسساتها بالعقائد والأديان، أو بالأحرى بالعقيدة الإسلامية التي هي المرجعية الربانية الشرعية، وينسحب بكل تأكيد على شكل ونمط الدستور بكل ما يعنيه ذلك من رسمٍ لملامح الحياة في سورية كلها.
ومن بين المغالطات المنطقية التي يضعها أصحاب هذا الرأي مستندًا لهم في حجاجهم الفكري، وجود تعارض بين بعض القضايا الواردة في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان وفي المواثيق والمعاهدات الدولية، مثل معاهدة سيداو، ويسوقونها على أنّها الدليل على نقض مجمل تلك الشرعة. فقضيّة الإجهاض أو المساواة الجندرية تصبح هي بذاتها جوهر الصراع، وليس حرية الإنسان وكرامته وحقّه بالعيش على قدم المساواة مع غيره من البشر.
من هنا، يأتي النقد لوثيقة التوافقات الوطنية بصيغة نقض كامل، يقفز على كل التفاصيل التي بحثت فيها، ويجعل منها منتجًا غريبًا عن بيئة المجتمع السوري. وهنا يكون “مشروع وثيقة التوافقات الوطنية” عاجزًا عن إحداث خرق في جدار بعض أجزاء البيئة التي يفترض أنها تصطفّ معه في جبهة واحدة لمواجهة مشروع الاستبداد. لكن هذا بالضبط هو ما يُبرر للقائمين على هذا المشروع، ولا أقصد بهم فقط كادر مركز حرمون، بل كل السوريين المؤمنين به، استمرارهم في طرحه ومناقشته وتطويره. إنّ المسؤولية الوطنية فضاءٌ عمومي جمعيّ، لا يمكن احتكاره من قبل أي مجموعة سورية، أيًا كان تعدادها وأيًّا كانت ديانتها أو قوميتها.
سنكتفي بهذا القدر من النقاش بخصوص المواقف من الوثيقة، وقد يكون لنا لاحقًا وقفة مع بعض المحاور التي تطرّقت إليها لنبدي رأينا فيها.