النسخة الثانية: 30 آب/ أغسطس 2023
هذه الوثيقة [1]
أطلق مركز حرمون للدراسات المعاصرة في منتصف العام 2021 مشروعاً حوارياً واسعاً تحت اسم “حوارات السوريين نحو إنتاج توافقات وطنية”، عندما أصبح مطلب اجتماع القوى السياسية الراغبة في التغيير الديمقراطي، والتفافها حول رؤية متقدمة للقضايا الوطنية الراهنة والمستقبلية، لإخراج البلاد من محنتها وتجاوزها وانتقالها، أكثر إلحاحاً.
ركزت المرحلة الأولى من المشروع، والتي دامت عاماً ونصف، على إجراء حوارات منهجية معمقة حول 12 قضية وطنية مهمة وخلافية، هي على التوالي: (1. القواعد الدستورية المحصنة التي تحتاجها سورية – 2. نظام الحكم المناسب لسورية الجديدة – 3. شكل الدولة الأنسب لسورية الجديدة – 4. علاقة الدين بالدولة في سورية الجديدة – 5. المواطنة المتساوية في سورية الجديدة – 6. العدالة الانتقالية لأجل سورية الجديدة – 7. الحقوق والحريات في سورية الجديدة – 8. معالجة الأزمة الطائفية – 9. معالجة الأزمة القومية – 10. التعليم والتربية في سورية الجديدة – 11. النموذج الاقتصادي والاجتماعي في سورية الجديدة – 12. منظمات المجتمع المدني في سورية الجديدة.)، وعقدت لأجلها 26 جلسة حوارية، شارك بها 186 سورياً من الخبراء والمختصين والباحثين والسياسيين والمثقفين متعددي الانتماءات، والذين يمثلون أوسع طيف ممكن من السوريين، كل في مجال اختصاصه[2]، وصدرت خلاصاتها بوثيقة سُميت “مشروع وثيقة توافقات وطنية”، بعد أن أضيف إليها ثلاث قضايا أساسية، غير خلافية هي: سيادة القانون والفصل بين السلطات واستقلال القضاء، كما أضيفت إليها مجموعة من الأسس والمبادئ العامة، حتى تكون وثيقة متكاملة تغطي المتطلبات السياسية والدستورية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية لبناء سورية الحديثة، كما تغطي متطلبات إعادة إحياء الثقة بين السوريين ومعالجة آثار المرحلة السابقة، وتحصين النظام السياسي الجديد من عودة الاستبداد.
بقي أن نقول أن هذه الوثيقة لا تدعي الكمال، وستبقى دائماً مشروعا قابلاً للتطوير والتعديل من خلال النقاش والحوار المفتوح والمصغي.
حوارات السوريين: نحو إنتاج توافقات وطنية
المحتويات:
مقدمة
أولًا: أسس ومبادئ عامة
ثانياً: القواعد الدستورية المحصّنة التي تحتاجها سورية
ثالثاً: سيادة القانون في سورية الجديدة
رابعاً: الحقوق والحريات في سورية الجديدة
خامساً: الفصل بين السلطات في سورية الجديدة
سادساً: استقلال القضاء في سورية الجديدة
سابعاً: نظام الحكم المناسب لسورية الجديدة
ثامناً: شكل الدولة الأنسب لسورية الجديدة
تاسعاً: معالجة الأزمة الطائفية
عاشراً معالجة الأزمة القومية
حادي عشر: العدالة الانتقالية لأجل سورية الجديدة
ثاني عشر: المواطنة المتساوية في سورية الجديدة
ثالث عشر: علاقة الدين بالدولة في سورية الجديدة
رابع عشر: النموذج الاقتصادي والاجتماعي في سورية الجديدة
خامس عشر: منظمات المجتمع المدني في سورية الجديدة
سادس عشر: التربية والتعليم في سورية الجديدة
خاتمة
المقدمة:
ألحق الاستبداد المديد دمارًا شاملًا في بنية المجتمع السوري ومؤسسات الدولة، إذ صادر الحياة السياسية، وصادر حريّات الناس وحقوقها، خاصة في التجمّع والتنظيم والتعبير عن الرأي، وحرص على تمزيق المجتمع وتعميق الشروخ بين الجماعات السورية، ليتمكن من السيطرة عليه. وقد ترافق هذا مع تعميم الفساد، والفشل في إدارة الدولة من مختلف النواحي، ما ألحق أكبر الأذى بالمجتمع السوري، وشلّ حيويته، ودمّر طاقاته، وأفقره، ومنعه من التقدّم، وحوّل سورية في نظر الخارج إلى دولة راعية للإرهاب والجريمة، ومزعزعة للاستقرار.
في 2011، خرج الشعب السوري مطالبًا بالكرامة والحرية والانتقال السياسي، فووجه بالحل الأمني وبالاستخدام المفرط للقوة، ما تسبّب بقتل مئات الآلاف، وتشريد أكثر من نصف الشعب السوري من بيوتهم، بين نازح ولاجئ، وخلّفَ بلادًا ممزّقة جغرافيًا، إلى أربع مناطق متنابذة متصارعة لا تني تتباعد، واجتماعيًا، إلى طوائف وقوميات وهُويات متدافعة متنابذة، تقوم بين بعضها أسوار من الريبة وانعدام الثقة، وبين بعضها الآخر أسوار من العداء.
ساهم في هذا الدمار، أو ساعد النظامَ في إلحاقه، معارضاتٌ سياسية ومسلّحة، مشرذمة وفاقدة للرؤية، بعضها براياته السوداء وأجنداته فوق الوطنية، وبعضها بارتهانه لقوى خارجية، وبعضها، مَن يعوّل عليه، لافتقاده القدرة على العمل والتعاون مع الآخرين، والالتفاف معهم حول مجموعة مبادئ وأهداف مشتركة، وبرنامج وطني للتغيير يحظى بالمصداقية وبقدر من الاحترام في الداخل والخارج، ويشكّل بديلًا ديمقراطيًا ممكنًا للنظام المستبد. دون أن ننسى أيضاً دور الخارج في دعم هذا الصراع.
والآن، دخل الصراع عامه الثالث عشر، والبلاد مقسّمة عمليًّا إلى أربع مناطق سيطرة، والنظام ما زال قائمًا، والعملية السياسية في حالة ركود لا تبدو لها نهاية، والعالم يدير ظهره مللًا أو يأسًا أو خبثًا أو قلّة حيلة وغيابًا للرؤية، ومن يملكون القدرة على تغيير الأمور مشغولون بصراعاتهم الكبرى، ويستخدمون سورية كساحة من ساحاتها. أما السوريون الراغبون في وضع بلادهم على سكة الحداثة والديمقراطية، فعاجزون عن الإتيان بأي مبادرة قادرة على الحياة.
أمام هذا الواقع المؤلم والخطير والمعقد، بادر مركز حرمون للدراسات المعاصرة بإطلاق هذا المشروع “حوارات السوريين نحو إنتاج توافقات وطنية”، بمشاركة طيف واسع من السوريين المؤمنين بسورية حرة مستقلة ديمقراطية حديثة، طامحين إلى تعميقه وتصويبه بالحوار الدائم مع جميع المعنيين بالهم الوطني، لعلنا نصل معاً إلى بلورة سمات نظامنا السياسي الديمقراطي، وأسس بناء دولتنا الوطنية الحديثة المنشودة.
أولًا:
أسس ومبادئ عامة
- سورية، بحدودهـا الجغرافيـة الرسـمية الحاليـة المعترف بهـا دوليًا، هـي وطن واحد، ودولـة موحـدة كاملـة السـيادة، غيـر قابلـة للتجزئـة، لا يجـوز التنـازل أو المساومة علـى أي جـزء مـن أجزائهـا. وتلتـزم الدولـة السـورية بالسـعي الدائـم لاسـتعادة الأراضي المحتلـة بكل الوسـائل المشروعة، وفـق القانـون الدولـي وميثـاق الأمم المتحدة.
- سـورية جمهوريـة ديمقراطيـة، الشـعب فيهـا هـو صاحـب السـيادة، وهـو مصدر الشـرعية والسـلطة. والانتخابات الحـرة النزيهـة الشـفافة هـي السـبيل الديمقراطـي الوحيـد لممارسة السـلطة وتداولها واختيـار الممثلين والحـكام.
- يدرك الشعب السوري تمام الإدراك، أن تعدديتـه وتنوعه هما مصدر غنى وثراء لوحدتـه الوطنيـة، ومحـركًا لتقدمه وازدهاره.
- يعتز الشـعب السـوري بتراثـه الحضـاري، علـى تنوّعـه، وبانتمائـه إلـى الحضارتين العربية والإسلامية، وإلى حضارات مشرقية عريقة وعديدة، منها السريانية والكردية وغيرها.
- تعمـل الدولـة السـورية علـى تنميـة علاقاتها الإيجابية مـع جميع الدوائر الجيوسياسية، العربية والإقليمية والدوليـة، فـي إطـار مـن الاستقلالية والاحترام المتبادل والعلاقـات المتوازنة والمصالح المشتركة، وتلتزم بالمواثيق والقوانيـن الدوليـة، وتلتـزم الحيـاد تجـاه الصراعـات الدوليـة والاستقطابات السياسـية والمحاور، وتتعـاون مـع الأسرة الدوليـة فـي كل مـا يتعلـق بتعزيـز السـلم والأمن الدولييـن ومكافحـة الإرهاب، وتعالـج نزاعاتهـا بالطـرق السـلمية، ووفـق القانـون الدولـي، ولا تتدخـل فـي الشـؤون الداخليـة للـدول الأخرى، ولا تسمح للآخرين بالتدخل في شؤونها.
ثانيًا:
القواعد الدستورية المحصنة التي تحتاجها سورية
- يحتاج السوريون إلـى رافعـة قوية لإعادتهم إلى بعضهم، بعد الأضرار الفادحة والجروح الغائرة التي ألحقها نظام الأسد باجتماعهم الوطني. وليس ثمة ما هو أجدر بالمهمة من قواعد دستورية يتوافق عليها السوريون، ويعطونها حصانة إضافية ضد التعديل أو التغيير، فتكون بمثابة صمام أمان، ومصدر للطمأنينة، ومنصة صلبة للخلاص والتجاوز.
- والقواعد الدستورية المحصنة، أو ما يعرف عالميًا بالمبادئ فوق الدستورية، هـي قواعـد دسـتورية ذات أهمية خاصة في دولة بعينها، تُعطى حصانة إضافية ضد التعديل أو التغيير، تفوق الحصانة التي تُعطى لباقي قواعد الدستور. بحيـث يكون تعديلهـا أو تغييرهـا أو إيقافهـا، نتيجـة تعديـل الدسـتور أو تغييـره أو تعطيلـه، أمراً غير ممكن، أو مثقلاً بشروط إضافية خاصة.
- تكتسي القواعد الدستورية المحصّنة أهمية استثنائية في الحالة السورية، لدورها في تعافي البلاد من جانب، ولكونها صمام أمان للمستقبل من جانب آخر. فهي:
- تعالج المسائل الخلافية الكبرى بين الجماعات السورية، وتعالج مخاوفها وهواجسها المختلفة بشأن حقوقها وحرياتها ومستقبلها، بما يؤدي إلى تخليق قدر من الطمأنينة والثقة بين السوريين، يسمح لهم بالانتقال إلى مرحلة العمل المشترك والتفكير بالمستقبل.
- يمكن، في حال توسعتها، أن تشكل أساسًا متينًا لدستور عصري يضمن الحقوق والحريات، ويحصّن النظام السياسي من تسلل الاستبداد، ويشدّ البلاد نحو مسار الديمقراطية والحداثة، وبذلك تكون بمنزلة منصّة صلبة يقف عليها السوريون لبناء دولتهم ومستقبلهم.
- يمكن تلخيص أهم ما يناط بالقواعد الدستورية المحصَّنة من مهام بخصوص سورية بالآتي:
- خلـق منـاخ مـن الثقـة بيـن السـوريين يؤهلهـم للتعـاون والعمـل المشترك والتطلـع نحـو المستقبل.
- تحصين النظام السياسي ضد عودة الاستبداد
- ضمان الحقوق والحريات.
- وضع أسس النظام السياسي وشكل الدولة المقبلة.
- يتم اختيار القواعد الدستورية المحصّنة وفق معايير دقيقة ومدروسة بعناية، منها:
- عدم مساسها بمبادئ الديمقراطية.
- قدرتها على تحقيق الأهداف المطلوبة.
- قابليتها للتجميد بحيث لا تصطدم بحركة المجتمع وحاجته إلى التطور.
- عدم التوسّع بها إلا بالمقدار اللازم والكافي لتحقيق الغرض.
ثالثاً:
سيادة القانون في سورية الجديدة
- مبدأ سيادة القانون هو حجر الأساس في بناء الدولة السورية الحديثة، دولة القانون والعدالة والحقوق والمواطنة والمؤسسات. بما يعنيه المبدأ من خضوع جميع الأفراد والمؤسسات والكيانات، سواء أكانت عامة أم خاصة (ومن ضمنها مؤسسات الدولة) على قدم المساواة، للقواعد الدستورية والقانونية النافذة، واحتكام الجميع إلى سلطة قضائية نزيهة ومحايدة ومستقلة، لما يعنيه كلّ ذلك من ضمانة للحقوق والحريات، ومن ضمانة لتطبيق العدالة، وبالتالي من طمأنينة لدى المواطنين، وتعزيز لروابط المواطنة ومكانة الهوية الوطنية لديهم.
- يجب الحرص في سورية القادمة على ضمان سيادة القانون بكلّ الطرق الممكنة، وعلى رأسها:
- نص دستوري مفصل ومحكم، يضبط التشريعات، ويمنع السلطة التشريعية من الالتفاف على قواعد الدستور، وتجاوزها أو تجاهلها، ويضمن الحقوق والحريات، ويضمن الفصل بين السلطات والتوازن بينها، ويُخضع الجميع، خاصة السلطة التنفيذية والأجهزة الأمنية، لسلطة القانون، ويمنعها من التغول في كل الظروف، خاصة في الظروف الاستثنائية وحالات الطوارئ، ويعزز دور القضاء المستقل والمحايد، وخاصة القضاء الدستوري باعتباره صمام أمان مهم لضمان سيادة القانون.
- قواعد دستورية محصنة تضمن عدم المساس بالقواعد الدستورية التي تضمن سيادة القانون. تشريعات مفصلة ومتكاملة تعزز سيادة القانون من كل النواحي.
- اعتماد المعايير الدولية لحقوق الإنسان كمرجعية أساسية للنص الدستوري والنصوص التشريعية. والعمل على إدماجها في المنظومة القانونية السورية بحكمة وتدرج، وعبر الحوار، دون التضحية بأي منها.
- تحديد دور ووظائف مؤسستي الأمن والجيش، وإخضاعهما للقانون والمساءلة، ولمجلس مستقل عن الرئاسة، وضمان حيادهما السياسي.
- تكريس مبدأ دستوري يقضي بسمو الاتفاقات والمعاهدات الدولية، التي تدخل سوريا فيها طرفًا، على التشريعات الوطنية[3].
رابعاً:
الحقوق والحريات في سورية الجديدة
- تتبنى الدولة السورية القادمة الشرعة الدولية لحقوق الإنسان بوثائقها الثلاث، وتعمل على تكريسها دستوريًا وقانونيًا، باعتبارها خلاصة وذروة ما أنتجته الحضارة البشرية في مجال حقوق الإنسان عبر تاريخها، وباعتبارها منظومة متكاملة لحماية الأفراد وتكريس حقوقهم وحرياتهم وضمانها، وقد أصبحت المصدر الرئيس للدساتير حول العالم[4]
- يمكن للدولة معالجة مسألة تعارض بعض تلك الحقوق مع ثقافة المجتمع وقيمه السائدة، أو مع بعض العادات والتقاليد والأعراف القارة في وجدان الناس، واجتراح الحلول المناسبة لها، أسوة بدول أخرى ذات أغلبيات مسلمة، وذات مستوى حضاري متقارب، نجحت في تبني المعايير الدولية لحقوق الإنسان وإدماجها في منظوماتها الثقافية والحضارية. ويكون هذا ممكناً عند توفر الإرادة السياسية والقوانين المتطورة والحكومة الوطنية الكفؤة وبرامج التوعية والتثقيف المناسبة، بمساعدة ودعم من فقهاء عصريين ومتنورين.
- السعي إلى إقناع الناس لا يكون إلا بالحوار وبالتدرج، وعبر آليات واضحة، مع تجنب طرح أفكار ومفاهيم ومصطلحات تحظى بسمعة سيئة لديهم، والاستعاضة عنها بإبراز مضامينها.
- يمكن التغلب على صعوبة توفيق قوانين الأحوال الشخصية مع الشرعة الدولية، عبر إصدار قانون مدني ينظم الأحوال الشخصية، إلى جانب تلك القوانين الخاصة بالطوائف والمذاهب، ويسري على جميع السوريين الراغبين في اللجوء إليه بملء حريتهم.
- تستحق الحقوق والحريات ضمانات عليا من مستوى مبادئ فوق دستورية، كي لا يتم المساس بها في يوم من الأيام، كما تستحق إدخالها في مناهج التعليم في مختلف مراحله.
خامساً:
الفصل بين السلطات في سورية الجديدة
- يلتزم النظام السياسي في سورية القادمة بمبدأ الفصل بين سلطات الدولة الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، باعتباره مبدأً راسخًا من مبادئ الديمقراطية، وباعتباره ضمانة كبرى للحقوق العامة والفردية، لأنه يمنع تمركز السلطة بيد فرد أو جهة، ومن ثمّ يمنع ظهور الاستبداد.
- يضمن مبدأ الفصل بين السلطات قدراً من الاستقلالية لكل منها، بما يسمح لها بمباشرة مهامها بحرية ودون وصاية أو ضغوط من السلطات الأخرى، ويحدد الدستور حدود الفصل بين السلطات، وينظم العلاقة والتوازن بينها، ويمنع تغول إحداها على الأخرى.
- لتمكين مبدأ فصل السلطات وترسيخه في نظامهم السياسي الجديد، سيكون على السوريين:
- إدراجه ضمن المبادئ فوق الدستورية الدائمة، وتحصينه ضد التعديل أو التغيير، بحيث يتعذر المساس به مهما امتد الزمن. وذلك أسوة بكل مبادئ الديمقراطية.
- التفصيل في أسسه وأحكامه ضمن الدستور، لسد أي ثغرة يمكن استغلالها.
- اتخاذ كل الاحتياطات الدستورية والقانونية التي تمنع تغول السلطة التنفيذية على باقي السلطات، وبشكل خاص ضمان الحياد السياسي للمؤسستين العسكرية والأمنية، وتحديد أدوارهما، وإخضاعهما للقانون والمساءلة، وإتباعهما لمجلس دفاع وطني أعلى.
- تحصين المحكمة الدستورية العليا، وتمكينها من القيام بدورها في حراسة مبدأ الفصل بين السلطات.
سادساً:
استقلال القضاء في سورية الجديدة
- سيحرص السوريون في دولتهم القادمة على تبني مبدأ استقلال القضاء وحمايته، باعتباره الشرط الأهم لضمان العدل، وسيادة القانون، وحماية الحقوق والحريات، وباعتباره الشرط الأهم لنهوض القضاء بمهامه بكفاءة ونزاهة وحياد. فلا يخضع إلا للدستور والقانون دون أي سلطة أخرى.
- ضمان استقلال القضاء من الناحيتين الإدارية والمالية يتطلب:
- قواعد دستورية وقوانين واضحة ومفصلة ومتكاملة.
- إعطاء حصانة دستورية خاصة للقواعد الدستورية التي تضمن استقلال القضاء.
- إلحاق القضاء بمجلس قضاء أعلى مستقل عن السلطة التنفيذية بتركيبته وموارده وآليات عمله.
- منع إنشاء هيئات قضائية استثنائية لا تخضع لشروط وقواعد القضاء العادي، بحيث يكون للقضاء العادي الولاية الشـاملة علـى جميـع المسائل ذات الطابـع القضائـي.
- تمكين المحكمة الدستورية العليا من تأدية مهامها الضامنة لسموّ الدستور واحترامه، ولدستورية القوانين، والضامـنة للفصـل بيـن السـلطات والتـوازن بينهـا.
- توفير الموارد الكافية لتمكينه من تأدية مهامه بطريقة سليمة، ومعالجة المعوقات التي تحول دون ذلك.
سابعاً:
نظام الحكم في سورية الجديدة
- بسبب معاناتهم من حقبة استبداد قاسية، وارتباط تلك الحقبة بنظام الحكم الرئاسي، أصبح السوريون غالبيتهم يجنحون إلى الابتعاد عن نظام الحكم هذا. أما النظام البرلماني، بالرغم من أنه الأبعد عن تصنيع المستبدين لضعف موقع الرئاسة فيه والأكثر قدرة على تمثيل جميع الفئات وإشراكها في الحياة السياسية؛ فإنه لن يكون قادرًا على توفير الاستقرار ودعم حكومات كفؤة ومستقرة وقادرة على الإنجاز، بسبب ظروف البلاد عشية الانتقال، حيث الانقسام والاستقطاب المجتمعي، وحيث لا وجود لحياة سياسية وأحزاب قوية.
- لذلك، فالنظام المختلط/ شبه الرئاسي هو الخيار الأنسب لسورية القادمة، بسبب مرونته وقدرته على التكيف، وإمكانية صوغه بالشكل الذي يجنب البلاد عيوب النظامين البرلماني والرئاسي، وينتج حكومات كفؤة مستقرة وقادرة على الإنجاز، ويراعي في الوقت نفسه ظروف الحالة السورية وتعقيداتها. وسيبقى النظام المختلط ضروريًا بشكل خاص في سنوات الانتقال والتعافي، ريثما تترسخ الحياة السياسية والتقاليد الديمقراطية والمؤسسات القادرة على ضمان الاستقرار.
- يحتاج الأمر إلى اجتراح صياغة دستورية مفصلة وإبداعية ملائمة، تقوم على فهم عميق للواقع السوري من جانب، وللتجارب الدستورية العالمية المماثلة من جانب آخر.
- لا بد من العمل على نشر الوعي بين السوريين، حول هذا الموضوع المهم والمصيري، وإيصال كل ما يتصل به من سيناريوهات وأبعاد وتفاصيل مهمة، لتجنب الخيارات العاطفية غير المدروسة. ولا بد من إعداد دراسات مسؤولة حول نظام الحكم المناسب لسورية، تأخذ بعين الاعتبار ظروفها وشروطها الموضوعية عشية الانتقال. ولا بد من فتح النقاش العام حول الموضوع.
ثامناً:
شكل الدولة في سورية الجديدة
- “اللامركزية الإدارية الموسّعة”، المدروسة بعناية، والمستوعبة للخصوصيات، والتي توفّر للبلديات والمجالس المحلية المنتخبة ديمقراطيًا صلاحيات واسعة يحددها دستور ديمقراطي، كما يحدد الدستور طبيعة العلاقة بينها وبين السلطة المركزية، هي الشكل الأنسب للدولة السورية الجديدة، لأنها توفر أعلى مستوى ممكن من الممارسة الديمقراطية، وأفضل مستوى ممكن من الكفاءة والمرونة في إدارة المناطق وتخصيص الموارد، بما يساعد على تحقيق مستوى أفضل من التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهو الشكل الذي يستجيب لتطلعات السوريين جميعًا، ويراعي تنوعهم ويحترم رغباتهم وثقافاتهم، ويساهم في تعزيز انتماءهم الوطني.
- تقتضي “اللامركزية الإدارية الموسعة” أن يكون للإدارات المحلية أجهزتها التنفيذية، وموازناتها، ومواردها المالية الذاتية، ومشاريعها الاقتصادية، كي تتمكن من النهوض بمهامها الإدارية والاقتصادية والثقافية والخدمية، من دون أن يتعارض ذلك مع الأنظمة المالية والضريبية المركزية المرتبطة بالخزينة العامة.
- التقسيم الإداري للمناطق يخضع للاعتبارات التنموية والاقتصادية.. ولا يجوز – بأي حال – أن يكون لاعتبارات عرقية أو دينية أو قبلية..
- لا يجوز -بأي حال- المساس بالسيادة الوطنية، وبوحدة الشعب السوري، ووحدة الأراضي السورية. ويجب الحفاظ، دستوريًا، على صلاحيات المؤسسات المركزية التي تمثل تلك الوحدة، خاصة في ميادين السياسية الخارجية والدفاع والأمن الوطني والنقد ومناهج التربية، وكل ما يتعلق بالمحافظة على هوية الدولة الوطنية الموحدة. على أن تضطلع المحكمة الدستورية العليا بدورها في مراقبة توزيع السلطات بين المركز والأطراف، ومعالجة مشاكله.
تاسعاً:
معالجة الأزمة الطائفية
- لا بدّ للسوريين من العمل على اجتثاث شأفة الطائفية التي نمت وتجذرت، بفعل سياسات نظام الأسد وممارساته الطائفيه، وطريقته في إدارة التنوع السوري، ثم بسبب فائض التحريض الطائفي الذي حصل بُعيد انطلاق الثورة، بفعل النظام من جانب، وبعض الفصائل والجماعات الإسلاموية ذات الطابع الطائفي والمذهبي من جانب آخر.
- يجدر بالسوريين العمل على تطويق وتحجيم الأزمة الطائفية منذ الآن، ويمكنهم بشكل خاص القيام بما يلي:
- محاربة الفكر الطائفي، وعزل الخطاب الطائفي لدى النخب بشكل رئيس، وتنقيته من المفردات والمصطلحات الطائفية.
- دعم الحوار، وتوسيع دائرته ليشمل المختلفين، بغية تجاوز الأسوار القائمة بينهم.
- نشر الوعي بين الناس حول أخطار الطائفية ومآلاتها الكارثية على الوطن وجميع أبنائه. مع التركيز على التعليم ومناهج التعليم في المناطق التي يمكن العمل عليها في الداخل السوري وفي دول اللجوء.
- طرح خطاب محايد تجاه الأديان، متفهّم للثقافة والبيئة، يركز على المضمون.
- التركيز على مرتكبي الجرائم أياً كانوا، بغض النظر عن طوائفهم ومذاهبهم، وعدم تحميل وزر جرائمهم لأبناء طوائفهم.
- تركيز الخطاب على مفهوم الهوية الوطنية السورية.
- الاهتمام بمنظمات المجتمع المدني، لقدرتها على اختراق المجتمع الأهلي والتأثير فيه، وقدرتها على التواصل مع فئات واسعة من الناس.
- بعد الانتقال السياسي، يجدر بالسوريين العمل على:
- إيجاد منظومة قانونية (دستور وقوانين) حيادية تجاه الأديان والمذاهب وكل أنواع الأيديولوجيا، تجرّم الطائفية، وتمنع تشكيل الأحزاب على أساس ديني أو مذهبي[5].
- الإشارة إلى جميع الأديان الطوائف في الدستور، وتجريم الخطاب والممارسات التي تشوه أو تحط من شأن أي منها.
- حيادية الدولة وفصل مؤسساتها عن أي انتماءات طائفية أو عرقية أو غيرها من انتماءات دون وطنية، دولة كل مواطنيها بدون تمييز.
- السعي الدؤوب لتحقيق مطلب العدالة الانتقالية في سورية، باعتبارها الوسيلة الأكثر فعالية لسحب فتيل الأزمة الطائفية وإعادة السلم الأهلي.
عاشراً:
معالجة الأزمة القومية
- كما الحال في الأزمة الطائفية، فقد وصلت الأزمة القومية بين الجماعتين القوميتين العرب والكرد إلى مرحلة حرجة، خاصة على مستوى النخب السياسية والثقافية، والقوميين المتعصّبين من الطرفين، ويخشى مع استمرار الصراع وحالة الاستنقاع السياسي، واستمرار فعالية المحرضين، أن تذهب الأمور إلى مرحلة اللاعودة[6].
على المعنيين من السوريين: - الإقرار بأن سورية بلد متعدد القوميات والطوائف، وأن جميع السوريين متساوون في الحقوق والواجبات والفرص.
- الاعتراف المتبادل بأخطاء الماضي في حال حصولها، والاعتذار عنها، لطيّ صفحة الماضي والتطلع للمستقبل المشترك.
- مقاومة التعصب والتطرف ونبذ خطاب الكراهية، أيًّا كان مصدره، والقطع مع لغة العنف والتخوين، وتبني خطاب وطني هادئ منفتح تصالحي إيجابي.
- النظر والتعامل مع القضية الكردية، باعتبارها جزءًا رئيسًا من المسألة الوطنية والديمقراطية في سورية. واعتبار أن الحلّ النهائي لمسائل التنوع، بكل أشكالها، مع تحويلها إلى عامل ثراء وتقدم، هو قيام دولة وطنية، ديمقراطية، لا مركزية إدارية، علمانية، تقدّس مبدأ المواطنة المتساوية.
- السوريون الكرد، كما جميع المكونات السورية، هم جزءٌ أصيلٌ من الشعب السوري، ولهم تاريخهم وثقافتهم الخاصة الواجبة الاحترام، وقد ألحق بهم نظام البعث/ الأسد ظلمًا إضافيًا.
- تُعالج الأزمة القومية في سورية المقبلة عبر:
- دستور ديمقراطي يُقرّ بالتعددية والمواطنة المتساوية واللامركزية الإدارية الموسّعة، ويضمن الحقوق الثقافية للجميع، ويجرم العنصرية بكل أشكالها.
- التوافق على مبادئ فوق دستورية تطمئن الجميع.
- إلغاء القوانين والإجراءات التمييزية الجائرة بحق الكرد أو غيرهم، ومعالجة آثارها.
- منع تشكيل أحزاب سياسية على أساس عرقي تقتصر عضويتها على أبناء جماعة قومية معينة دون غيرها.
حادي عشر:
العدالة الانتقالية لأجل سورية الجديدة
- العدالة الانتقالية ضرورة ماسّة من أجل تعافي سورية، ورأب الصدوع المجتمعية العميقة التي قامت بين السوريين، بعد هذه التركة الثقيلة من الجرائم والانتهاكات التي خلفتها الحقبة السابقة، ومن أجل تحقيق المصالحات ومد جسور الثقة مجددًا بين السوريين، وإعادة الثقة بمؤسسات الدولة، واستعادة السلم الأهلي، وإعادة البناء والتجاوز نحو المستقبل.
- يبقى مطلب العدالة الانتقالية ضروريًا وراهنًا، مهما امتد الزمن، فالجراح ستبقى محفورة في الوجدان الجمعي، وستتناقلها الأجيال، إذا لم تجد لها التسويات الملائمة.
- سيكون على السوريين اجتراح مسار عدالة انتقالية خاص بهم، في ضوء الظروف والعوامل وموازين القوى المتحكمة، على أن يتم إيلاء الأمور التالية اهتمامًا خاصًا لضمان مسار عدالة انتقالية أكثر نجاحًا وفعالية:
- التركيز على دور الضحايا وذويهم وتنظيمهم لممارسة الضغط الدائم على السلطات لتفعيل إجراءات العدالة الانتقالية، مهما امتد الزمن.
- التركيز على منظمات المجتمع المدني لحمل المشروع على الدوام والنضال لتحقيقه، باعتبار أن هذه المنظمات مستقلة وخارج إطار التسويات السياسية وما تفرضه من حلول على السلطات الرسمية.
- إشراك المرأة بشكل فعال في كل محطات وجوانب العدالة الانتقالية.
- الضغط على السياسيين والمفاوضين بكل الوسائل للتمسك بموضوع العدالة الانتقالية.
- تشكيل مجموعات ضغط فعالة من السوريين المقيمين في الدول المؤثرة والفاعلة في الملف السوري، لدعم مسار العدالة الانتقالية في سورية.
- دراسة تجارب الدول الأخرى، الناجحة والفاشلة.
- فصل مسار العدالة الانتقالية عن مسار التسوية السياسية.
- الحرص على ألا تتحول العدالة الانتقالية إلى أداة للثأر والانتقام، وعلى نشر ثقافة الصفح والتسامح كعامل مهم في التجاوز والتعافي.
- يجدر بالسوريين الاستعداد لمرحلة العدالة الانتقالية، وتحسين فرص واحتمالات حدوثها، عبر عدد من الإجراءات، منها الاهتمام بالتوثيق، وإعداد الدراسات والمشاريع اللازمة، وبرامج التوعية والتثقيف.
ثاني عشر:
المواطنة المتساوية في سورية الجديدة[7]
- المواطنة هي علاقة سياسية قانونية بين الفرد والمجتمع السياسي الذي ينتمي إليه، والذي ستحكمه جملة من القوانين والأنظمة التي ينبغي عليه احترامها، وينبغي عليها بالمقابل حمايته ومنحه ما يستحق من امتيازات وحقوق. وتقوم المواطنة على ثلاثة أركان: الأول هو الجنسية السورية، حيث يكون لجميع المواطنين والمواطنات الحق في اكتساب جنسية بلدهم ومنحها لأبنائهم ولزوجاتهم وأزواجهم، وما يترتب عن ذلك من حقوق وواجبات وامتيازات. والثاني هو المساواة، حيث يتساوى جميع السوريين والسوريات في تلك الحقوق والواجبات والامتيازات، أمام القانون والمحاكم ومؤسسات الدولة. والثالث هو حق جميع السوريين في المشاركة في الحياة العامة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، على قدم المساواة، وشغل الوظائف العامّة كافة، ومن ضمنها منصب رئيس الجمهورية.
- تُعتبر المواطنة المتساوية[8] المستوفية لمبادئها وقيمها، حجرَ الأساس في بناء وتعزيز شعور الفرد بانتمائه إلى وطنه، وفي بناء الهوية الوطنية الجامعة، والإطار الأمثل لمعالجة قضايا التعدد والتنوع والاختلاف في بلد متعدد متنوع كسورية. ولذلك فإن حاجة السوريين إليها مضاعفة لسببين: الأول هو هذا التنوع الذي يشكل نسيج المجتمع السوري، والثاني هو هذه الحالة من التمزق المجتمعي التي وصل إليها المجتمع السوري بعد هذه الحرب المأساوية، وبعد هذه العقود الخمسة التي حكم فيها نظام الأسد البلاد، وفعل خلالها كل ما يدمر مرتكزات المواطنة، ومقومات الاجتماع الوطني والحياة الوطنية المشتركة، بدءًا بالتمييز والتهميش والإقصاء، مرورًا بإلغاء الحياة السياسية ومنع تشكل مجتمع مدني فاعل، وبتعميم الفساد والإفساد، وصولًا إلى تطييف المجتمع والإدارة الأمنية للتنوع السوري…
- لذلك، لا بدّ أن تقوم الدولة السورية القادمة على قيم المواطنة المتساوية بين جميع السوريين، بغض النظر عن جنسهم ودينهم وقوميتهم وانتماءاتهم الأخرى.
- استيفاء أركان المواطنة المتساوية في سورية القادمة سيتطلب تحقق مروحة واسعة من الشروط، تكاد تشمل أهم شروط قيام الدولة الوطنية الحديثة، منها وجود منظومة متكاملة من الحقوق والحريات، ومنها سيادة القانون ليكون فوق الجميع، ومنها نزاهة واستقلال القضاء لضمان هذه الحقوق والحريات والمساواة بين الناس، ومنها الحياة السياسية السليمة بما تتطلبه من أحزاب وانتخابات وتداول للسلطة… ما يسمح لنا بالقول إنّ المواطنة الحقيقية لا تستوفي أركانها وشروطها إلا في دولة ديمقراطية من جانب، ومحايدة تجاه الأديان والمذاهب والمعتقدات من جانب آخر. والعكس صحيح، فلا ديمقراطية حقيقية ولا حيادية حقيقية دون مواطنة متساوية.
- سيكون ضعف الشعور بالانتماء الوطني لدى السوريين، بسبب الاستبداد المزمن ومآسي السنوات الاثنتي عشرة الأخيرة، من أبرز المعوقات التي تعترض مساعي السوريين في ترسيخ مبدأ المواطنة المتساوية في سورية الجديدة، إضافةً إلى عقبات أخرى، كالتخلف الاجتماعي، واستمرار حالة التمييز بين الرجل والمرأة بسبب المنظومة الثقافية السائدة، وتعدد قوانين الأحوال الشخصية، وعدم وجود قانون أحوال شخصية مدني يلجأ إليه الراغبون، وعدم حيادية الدولة تجاه الأديان والمعتقدات.
- على السوريين العمل، منذ الآن ما أمكن، وفي المستقبل، على نشر الوعي بقيم المواطنة على أوسع نطاق، والتركيز على المؤسسات التعليمية والتربوية، باعتبار أن المدرسة هي مصنع المواطنة الأول.
ثالث عشر:
علاقة الدين بالدولة في سورية الجديدة
- فصل السلطة السياسية ومؤسسات الدولة عن الدين والمؤسسة الدينية، هو خيار ضروري لإنقاذ سورية ممّا هي فيه، ولبقائها دولة موحدة، ولتوفير شروط استقرارها وقدرتها على النهوض والتقدم، لسببن رئيسين: الأول هو حالة التعدد والتنوع الديني والإثني التي تميز سورية، ما يستدعي مؤسسات وقوانين وممارسات لا تميز بين الناس على أساس دينهم أو معتقدهم، والثاني طمأنة الجماعات السورية المختلفة إلى مستقبلها، بعد الرضوض الشديدة التي أصابت الاجتماع الوطني جراء حقبة الاستبداد، خاصة بمرحلتها الأخيرة الدامية.
- تعترف الدولة بحق الجميع في اعتناق أو عدم اعتناق أي دين، وتلتزم بالحياد تجاه جميع الأديان والمعتقدات، ولا تتدخل في شؤونها، وتقف على مسافة واحدة منها، وتكفل المساواة بين الناس بغض النظر عن دينهم ومعتقدهم. مع التزامها بحمايتها جميعا وتوفير الشروط اللازمة ليمارس أتباعها طقوسهم وشعائرهم وعباداتهم بحرية وأمان، وفق القانون.
- تشجع الدولة على التعايش السلمي والاحترام المتبادل بين الأديان والمعتقدات، لكنها تتخذ الإجراءات اللازمة لمنع التطرف والتشدد الديني.
- يجب ألا يتضمن الدستور والقانون أي نصوص تشير إلى التمايز بين الجماعات السورية، ويجب أن تكون التشريعات وضعية. والدولة السورية الجديدة يجب أن تكون منزوعة الصفات لأنها فضاء مدني مشترك لا يجوز احتكاره من قبل أي جماعة مهما كانت.
- فصل السلطة الدينية عن مؤسسات الدولة يتكامل مع مفهومي المواطنة والديمقراطية في الدولة الحديثة، فدولة المواطنة لا بد أن تكون محايدة تجاه الأديان، والعكس صحيح، لأن المواطنة تفترض أن تكون الدولة على مسافة واحدة من الجميع. والديمقراطية لا تقوم دون حيادية الدولة تجاه جميع الأديان والمعتقدات، والحيادية لا تقوم دون بيئة ديمقراطية، فالاستبداد لا يمكن أن يكون حياديًا بحال من الأحوال. وتبقى الديمقراطية هي الأساس، وهي الإطار العام الذي يصوغ الناس فيه نظامهم ومؤسساتهم.
رابع عشر:
النموذج الاقتصادي والاجتماعي في سورية الجديدة
- على النظام الاقتصادي في سورية القادمة أن يحقق التوازن بين المحافظة على قدرة وكفاءة الاقتصاد من جانب، وعلى مستوى لائق من العدالة في توزيع الدخول والثروات من جانب آخر، وعلى مستوى لائق أيضًا من الرعاية والضمانات الاجتماعية من جانب ثالث. وهذا التوازن المذكور أعلاه لا يتحقق إلا عبر:
- نظام اقتصادي يقوم على اقتصاد السوق الحرّ المنظّم، بما يعنيه من حرية التملك والاستثمار والتعاقد وتشكل الأسعار واحترام قوانين العرض والطلب.الالتزام بشرطَي العدالة في توزيع الدخول، والبعد الاجتماعي والإنساني.
- تحقيق التوازن التنموي الإقليمي بين المناطق والمحافظات السورية، وتوزيع الاستثمارات والخدمات ومشاريع التنمية بشكل متوازن، ووفق أسس علمية قائمة على دراسة الاحتياجات التنموية الحقيقية لكل منطقة، مما يزيل الإجحاف الذي لحق بالمناطق الشرقية والطرفية المهمشة، بما ينمي روابطهم الوطنية تجاه بلدهم، ويساهم في تمتين ترابط الاجتماع الوطني السوري.
- سيبقى الاستقرار السياسي هشًا، وتبقى الديمقراطية التي ينشدها السوريون لمستقبلهم ضعيفة ومهدَّدة، ما لم يتحقق مستوى مقبول من القدرة الإنتاجية المرتفعة مع تحقيق العدالة الاقتصادية، سواء في توزيع مشاريع التنمية بين المناطق والأقاليم، أو في توزيع الدخول والثروات بين الناس.
- يقتضي تحقق شرط العدالة في توزيع الدخول والثروات في اقتصاد السوق الحر:
- وضع سياسات عادلة للأجور والرواتب والتعويضات، تربط الأجر بالإنتاج وبمستوى المعيشة أيضًا. وهذه تتطلّب حمايتها بقواعد دستورية من جانب، وقوى مجتمعية تدافع عنها من جانب آخر.
- توسيع قاعدة ملكية رؤوس الأموال، بما يؤدي إلى توسيع قاعدة توزيع الأرباح، وذلك عبر تطبيق سياسات تشجع وتدعم الملكية الصغيرة والملكية الأسرية والملكية المشتركة والملكية التعاونية والمساهمة، على أن تخضع جميعها لقواعد السوق والمنافسة، دون أي منع أو تقييد للملكيات والمشاريع الفردية الصغيرة والمتوسطة والكبيرة. وأيضًا تطبيق سياسات تشجع رجال الأعمال وأصحاب الشركات على إشراك العاملين بحصّة أو أسهم في رأس المال. كل هذا سيؤدي إلى توسيع قاعدة الأفراد المالكين للأسهم والحصص، والمستفيدين من توزيع الأرباح، مما يسهم في تحسين صورة العدالة الاجتماعية.
- أما البعد الاجتماعي والإنساني في نظام اقتصاد السوق الحر في سورية القادمة، فيتحقق عبر:
- منظومة قانونية (دستور وقوانين وأنظمة) تنظم وتضمن حقوق العاملين وحياتهم الكريمة أثناء العمل وأثناء التقاعد.
- تطوير سياسات مالية وضريبية وتجارية تشجع المؤسسات الاقتصادية على لعب أدوار مجتمعية، ودعم فعاليات مجتمعية، كالجمعيات والمشاريع ذات الطابع الخيري أو الثقافي أو العلمي أو التعليمي أو الطبي أو البيئي..
- تحقيق هذا النموذج الاقتصادي المنتج والعادل يحتاج إلى دولة ذكية، سيكون على السوريين اجتراحها. وهذه الدولة الذكية هي غير الدولة المهيمنة وفق النموذج الاشتراكي، التي تقضي على روح المبادرة والقدرات الإبداعية لدى الفرد والمجتمع، وهي غير الدولة النحيلة وفق النموذج الليبيرالي، التي تعلي مصالح أصحاب رؤوس الأموال والثروات الكبيرة على مصالح وطموحات باقي أفراد المجتمع. بل هي الدولة الحريصة والقادرة على:
- اعتماد سياسات تحفز المبادرة الابتكار والاستثمار، وتدفع مسارات النمو والتنمية، مع حد أدنى من التدخل لضبط عمل السوق الحر وتنظيمه، وإصلاح الخلل الذي قد يحدثه.
- إقامة نظام ضمان اجتماعي يوفر الطبابة والتعليم والسكن والتقاعد والحياة الكريمة للجميع.
- المساهمة بشكل مباشر، ودون احتكار، في القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية، بما يضمن عدم حدوث خلل في عمل هذه القطاعات نتيجة تركها لأصحاب رؤوس الأموال.
- اعتماد نظام ضريبي تصاعدي عادل، وسياسات أجور عادلة، تربط الأجر بالإنتاج، وبالقدرة الشرائية ومعدلات التضخم.
- أما بخصوص العدالة المناطقية، بين المناطق السورية، فلا بد من العمل على:
- اعتماد سياسات وخطط تنمية إقليمية عادلة ومتوازنة بين جميع الأقاليم والمناطق، دون إهمال أو تهميش لأي منها.
- تخصيص المناطق التي هُمِّشت وظُلمَت، خلال حقبة البعث/ الأسد، وربما قبلها، ببرامج تنمية تمييزية مؤقتة لتعويضها عن بعض ما فاتها، وتحسين مشاعر الرضى لدى أبنائها.
- ستمنح صلاحيات اقتصادية للإدارات المحلية، وفق نموذج “اللامركزية الإدارية الموسعة”، بما يتيح لأبناء المناطق ومجالسهم المنتخبة المشاركة الفعالة في إدارة الجانب الاقتصادي لمناطقهم، وبما يتيح تخصيصًا عادلًا للموارد.
- إن الشرط الضروري، من أجل ضمان العدالة الاقتصادية المنشودة في سورية القادمة، هو قوة المجتمع الواعي بحقوقه. وتقوم هذه القوة على حوامل عديدة: أحزاب سياسية تتبنى هذه القضية وتدخلها في برامجها؛ ونقابات عمالية قوية وقادرة على التفاوض الندّي مع أصحاب الأعمال؛ وجامعات تُدخل هذه النظريات والسياسات والتجارب في مناهجها التعليمية؛ ومثقفون ومفكرون وكتاب وباحثون طليعيون ومراكز أبحاث يتبنون هذه القضية في كتاباتهم ونظرياتهم ودراساتهم؛ ووسائل إعلام تتبنى وتروج لهذا النموذج الاقتصادي الكفؤ والعادل.
خامس عشر:
منظمات المجتمع المدني في سورية الجديدة
- لمنظّمات المجتمع المدني دور بالغ الأهمية، في حاضر سورية ومستقبلها، وذلك لمهامها الأساسية المعروفة والراسخة في المجتمعات الحديثة المتحضرة، ولقدرتها على حمل فكرة التغيير، وعلى تحدي الظروف الصعبة والمشاكل المستعصية، كالتي يعيشها السوريون الآن، ويتوقع أن ترافقهم في مستقبلهم القريب.
- سيكون على منظمات المجتمع المدني السورية المساهمة، إلى جانب مؤسسات الدولة والأحزاب السياسية، النهوض بمهام كثيرة من أهمها:
- إعادة بناء الثقة بين السوريين، وإطفاء الحرائق القائمة بينهم على غير صعيد. والمساهمة في تعزيز الثقة والتقارب والتصالح بين السوريين.
- حماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية وقيم المواطنة والعلمنة وسيادة القانون، ونشر التوعية بين الناس بهذه الموضوعات وتعزيزها.
- لعب دور المراقب الشعبي على أداء السلطات المنتخبة على مختلف المستويات.
- حمل ملفات المعتقلين والعدالة الانتقالية مهما طال الزمن، ودعم برنامج العدالة الانتقالية.
- على الدولة السورية القادمة تشجيع ودعم منظمات المجتمع المدني بكل أشكالها، وتوفير أسباب نجاحها، وذلك عن طريق:
- نصوص دستورية وقانونية تحدد أدوارها وتوفر لها الاستقلالية والحماية والدعم.
- توفير الدعم المادي والمعنوي غير المثقل بشروط لها.
على منظمات المجتمع المدني ترسيخ الحياة الديمقراطية داخل منظماتها، واعتماد معايير الإدارة العلمية والشفافية والمحاسبة، والاعتماد على العمل التطوعي.
سادس عشر:
التربية والتعليم في سورية الجديدة
- سيحرص السوريون على إعطاء التعليم بكلّ مراحله أكبر اهتمام ورعاية ممكنين، مدركين أن الاستثمار به هو أفضلُ وأهمّ ما يمكن لهم عمله من أجل نهوض البلاد وتقدمها، فضلًا عن أن المدارس والمؤسسات التعليمية هي المكان الأول لترسيخ وتعزيز قيم المواطنة والعيش المشترك والديمقراطية وحقوق الإنسان.. والسوريون بأمس الحاجة إلى هذه القيم.
- سيتم تكريس الاهتمام بالتعليم عبر:
- تبني مبدأ ديمقراطية التعليم والتربية والتعليم المجاني في جميع مراحله للجميع دون تمييز.
- نصوص قانونية ودستورية وبرامج حكومية وخطط طموحة وموازنات كافية.
- إيلاء المعلمين اهتمامًا خاصًا، سواء لجهة تأهيلهم أو تأمين حياة كريمة لائقة بهم، باعتبارهم أساس نجاح العملية التعليمية.
- تجهيز المدارس بكل ما يلزم من تجهيزات تعليم حديثة.
- إبعاد التعليم عن كل أنواع الأيديولوجيا، وعن كل ما يتعارض مع مفاهيم المواطنة والعيش المشترك. والتركيز على خلق أجيال تتمتع بتفكير علمي نقدي.
- جعل التعليم إلزاميًا حتى نهاية المرحلة الإعدادية، وإتاحة التعليم المجاني بمراحله كافة لجميع السوريين.
- الاهتمام بالتعليم التقني وبالتدريب.
- تشجيع القطاعين التعاوني والخاص للاستثمار في المشاريع التعليمية، والاهتمام بتنويع أنظمة التعليم، وبالنظم التعليمية الهجينة، على أن تبقى خاضعة لخطط الدولة ومناهجها ورقابتها.
- الاهتمام بالتربية التعويضية للسوريين الذين حرمتهم ظروف الصراع من التعليم.
- ستهتم مناهج التعليم بتدريس الأخلاق، وتاريخ وقيَم الأديان، وقيم المواطنة والوطنية والحقوق والحريات ومبادئ الديمقراطية والعدالة وسيادة القانون وحيادية الدولة، وكل ما من شأنه تنشئة أجيال قادرة على بناء دولة حديثة متقدمة متصالحة مع العصر.
- على السوريين منذ الآن التعامل مع حالة التعليم الراهنة كحالة كارثية ستترك آثارها السلبية على الأجيال القادمة، وعلى مستقبل البلاد، حيث ملايين الطلاب خارج المدارس، وحيث مناهج التعليم مسيسة ومؤدلجة حسب مناطق النفوذ وأماكن التواجد، ما قد يرفع أسواراً إضافية بين السوريين يصعب إزالتها. ما يتطلب اجتراح حلول إسعافية بما هو ممكن ومتاح للتخفيف من حدة الكارثة، ويجب أن يكون هذا الموضوع من بين أولويات السوريين، وفي مقدمة برامجهم الحوارية.
خاتمة
يطمح هذا المشروع لأن يكون أساسًا متينًا لتوافق طيف واسع من السوريين، وخروجهم من حالة الشرذمة والتشتت إلى حالة العمل المشترك الواسع القادر على الفعل والتأثير في مصير بلادهم وأهلهم. كما يطمح إلى أن يُشكل أساسًا متينًا لمشروع وطني متكامل، يساعد السوريين في الخروج من محنتهم، وفي بلسمة جراحهم، وتجاوز ماضيهم الأليم القريب والبعيد، ووضع أسس دولتهم الحديثة، دولة الحق والقانون والعدالة والحريات، والمواطنة، والعِلم والمؤسسات.
ولا يمكن لهذا الجهد أن يثمر إلا عبر تعميقه وإغنائه المستمر بمزيد من الحوار المصغي والمسؤول والتراكمي والمنهجي والديمقراطي، بين السوريين بكل أطيافهم، وفي جميع أماكن تواجدهم.
_________________
[1] تعني كلمة “مشروع” أن الوثيقة غير ناجزة، بل هي قيد النقاش والتحديث المستمر في ضوء مخرجات مراحل الحوار.
[2] يجدر بنا التنويه إلى أن المشارَكة في النقاش لا تعني موافقة المشارك على كل ما جاء في مشروع الوثيقة، وأن مشاركة كل شخص كانت في موضوع واحد أو موضوعين، حسب اختصاصه، وأن الخلاصات الواردة في مشروع الوثيقة تعبر عن الرأي الراجح في النقاش، وليس عن رأي الجميع.
[3] سمو المعاهدات والاتفاقيات الدولية على التشريعات الوطنية، هو مبدأ راسخ في القانون الدولي، نظمته اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات 1969، والغرض منه ضمان احترام المعاهدات من قبل الدول الموقعة عليها، وعدم التهرب منها بذريعة تعارضها مع التشريعات الوطنية.
[4] من أبرز الحقوق الواردة في الشرعة الدولية: الحق في الحياة – الحق في الأمان – الحق في حرية الرأي والتعبير – الحق في حرية الفكر والوجدان والاعتقاد – الحق في المساواة وعدم التمييز – الحق في مستوى معيشي وصحي لائق – الحق في التربية والتعليم – الحق في التجمّع السلمي – الحق في العمل بشروط عادلة ومرضية – الحق في تشكيل و/أو الانتساب إلى النقابات والجمعيات – الحق في المشاركة في إدارة الشؤون العامة – حقوق الأطفال والمراهقين والمرأة في المساعدة والدعم….
[5] ) المقصود هو الأحزاب الدينية التي تبني رؤيتها وإيديولوجيتها وبرامجها على أساس الدين، وعضويتها مغلقة على أتباعها، فهذه لا يمكن أن تكون إلا أحزاباً طائفية غير ديمقراطية، تعمق الأزمة الطائفية، وتضر بالاجتماع الوطني وتعرقل الانتقال الديمقراطي. وليس المقصود هو الأحزاب ذات المرجعية الدينية التي تعتمد على القيم الدينية كموجه غير مباشر لنشاطها السياسي، لكنها تؤمن بالنظام الديمقراطي، بكافة أركانه، وولاؤها للوطن والدستور، وعضويتها مفتوحة على الجميع، مثل حزب العدالة والتنمية في تركيا والحزب المسيحي الديمقراطي في ألمانيا.
[6] ) يتحمّل حزب البعث ونظام الأسد القسط الأكبر من المسؤولية عن نشوء الأزمة القومية بين العرب والكرد واستفحالها. ، ويتحمّل غلاة القوميين من الطرفين القسط الأكبر من المسؤولية أيضًا.
[7] جاء في دليل المواطنة للرابطة السورية للمواطنة، أن المواطنة هي: “وضع يميز العلاقات القائمة بين المواطن، من جهة، والدولة (أو المؤسسات)، والمجتمع (أو المواطنين الآخرين)، والفضاء (أو مجال العيش المشترك) من جهة أخرى. وهو وضع يقوم على مبادئ راسخة هي: المسؤولية والحرية والتشاركية والمساواة، ويفترض عددًا من القيم المواطنية، أهمها: الكياسة (الآداب العامة)، والتضامن، والوعي المدني والإنسانية”.. وهي بكلمات مختصرة: “المشاركة الحرة للأفراد المسؤولين المتساوين”.