يحرص المشتغلون في إعداد الدراسات أو التقارير والوثائق على اتباع تقاليد العمل العلمي – الموضوعي، ومنها مجموعة المعلومات التي تخصّ المنهجية التي اتّبعوها في جمع البيانات وأساليب معالجتها، لجهة تصنيفها والتعامل معها واعتمادها، مع ذكر الأدوات المستخدمة عند الحصول على البيانات (جمعها): كالمقابلات والاستبانات والملاحظة… الخ.

وكذلك يتم تعريف القرّاء بحجم العيّنة التي قدّمت البيانات، ودرجة تمثيلها للمجتمع المعنيّ، ومدى إمكانية تعميم النتائج/ البيانات على ذاك المجتمع، فضلًا عن الفترة الزمنية التي استغرقها جمع البيانات وتاريخ البدء والانتهاء منها، وهذا أمر ضروري، لأن المعلومات قد تتغيّر مع الزمن -خاصة تلك التي تكون من طبيعة بيانات الرأي- فما كان متوافقًا عليه في وقتٍ ما قد لا يكون كذلك في وقت آخر.

من أجل تحقيق هدف صياغة وثيقة “توافقات وطنية”، اعتمد فريق إدارة الحوار الوطني (مركز حرمون للدراسات المعاصرة) على دعوة “عيّنة ضمّت عددًا من المثقفين والأكاديميين والسياسيين السوريين، يمثّلون -كما جاء في التمهيد لمشروع الوثيقة- اتجاهات ومكونات سوريّة متنوعة، لمناقشة محاور تولّى وضعها فريق إدارة الحوار، وحقّق ذلك عبر مجموعة من الندوات، ما أنتج مشروع الوثيقة التي دخلت قيد التداول والنقاش العام، بغية تعميقها وبلوغ مزيد من التوافق حولها.

وبحسب فريق الحوار، فإنّ الدافع الرئيس لتنفيذ هذا المشروع يكمن في عجز السوريين عن إنتاج وثيقة سياسية متوافق عليها؛ “فالمبادرات السابقة كانت تصدر من جهة محددة أو مجموعة مختارة تشبه بعضها، فتأتي المبادرة بلون محدد يناسب رؤية من أصدرها، فتصطدم برفض الآخرين بسبب مُصدريها أو بسبب محتواها”. ولذلك لا بدّ من الاشتغال على وثيقة تحظى بموافقة/ توافق أكبر عدد من الطيف السوري.

ما يميّز الوثيقة -بحسب ما جاء في التمهيد لها- أنها “تضمّ المبادئ والأسس التي يفترض أن تساعد البلاد في التعافي، وبناء الدولة الحديثة، فضلًا عن ضمّها لشروحات وتعريفات لبعض المصطلحات والمفاهيم، والمقترحات لما يمكن عمله. وبالتالي، يمكن لهذه الوثيقة أن تكون مادّةً مرشدةً للدراسات وبرامج العمل والمشاربع المتعلقة ببناء سوربة، ومادةً لإثارة النقاش حول موضوعات تهمّ السوريين”.

وفي مقدمة الوثيقة، يُذكِّر فريق الحوار بالأهمية التطبيقية المتوخاة منها: “أنها تمثل إحدى أدوات النضال السياسي الضرورية لبناء الوعي حول مفاهيم تتعلق بسورية القادمة. لذا يمكن عدّها أداة توعية وتنوير وتثقيف للسوريين”، وهي من هذه الزاوية يمكن أن تساعد في تقريب وجهات السوريين الفكرية والسياسية، ما قد يساعدهم في تكوين الحامل المناسب الملائم لهذه الرؤية السياسية – الفكرية.

ومن منطلق الحرص على وثيقة “توافقات وطنية”، وبغية إكسابها مزيدًا من المصداقية؛ أرى ضرورة تسجيل عدد من الملاحظات التي ينتمي جُلّها إلى المنهجية المتّبعة في أثناء التحضير للندوات، وتفريغ محتوى جلسات الحوار، وجمع الآراء وتصنيفها وتبويبها، من خلال عدد من الأسئلة:

1-ما مدى مراعاة العيّنة المختارة -وهم الشخصيات التي دُعيت للمشاركة في الندوات الحوارية- لتمثيل السوريين بتنوعاتهم المختلفة؟ وما محددات اختيارها؟

لم تُجب الوثيقة عن مدى تمثيل عيّنة الشخصيات التي دُعِيت لندوات الحوار، سوى أنها “ضمّت عددًا من المثقفين والأكاديميين والسياسيين السوريين، يمثلون اتجاهات ومكونات سورية متنوعة: سياسية واثنية وجغرافية. وهم يمثّلون أوسع طيف ممكن من السوريين”. (شارك 186 سوريًّا من المتخصصين…. ومن مختلف الانتماءات والاتجاهات).

لم تتضّح للقارئ كيفية اختيار أفراد العيّنة، والمعيار الذي استُند إليه عند الاختيار. وهل تم تمثيل المرأة ضمن هذه العيّنة بما يكفي؟ وما نسبة تمثيلها؟ فالقارئ يحتاج إلى الاطمئنان عن صدق تمثيل المدعوين لجميع أطياف المجتمع السوري، ومن الجنسين.

2- كيف تم انتخاب/ اختيار الأفكار التي وُضعت في الوثيقة؟ هل من معيار تم الركون إليه يتّسم بالثبات الموضوعية، أسهم في فرز الأفكار والآراء التي أدلى بها المتحاورون؟ وإذا كانت لجنة الحوار المكلفة بالصياغة قد اتبعت معيارًا ما، فما هو؟ هل كان معيارًا يعتمد عدد مرات تواتر الفكرة خلال الندوة؟ (مقياس كمي)، أم أن اختيار/ انتخاب الأفكار جرى استنادًا إلى مقياس نوعي، يعتمد مدى توافق الفكرة مع ما ينسجم مع الأهداف التي حُددت للوثيقة مسبقًا (معيار نوعي): على سبيل المثال، “التوجّه الديمقراطي المدنيّ والدولة الحديثة…؟ وكما نعلم، فإن الفرق كبير بين هذه وتلك من المعايير، لجهة الموضوعية والذاتية، الأمر الذي يدعم أو يضعف من مصداقية عنوان الوثيقة، وصدق التمثيل للتنوعات السورية.

ويتصل بالفكرة السابقة السؤال عن عنوان الوثيقة “توافقات وطنية”، ما يعني أن أي مكون سوري سوف يجد ذاته فيها!

وأرى أنه من الأفضل أن يكون هناك تحديد مسبق للخيارات الفكرية – السياسية التي تتّصل بمستقبل سورية، وأن يتمّ -بناء عليها- انتخاب الشخصيات التي تتوافق مع تلك الخيارات. كأن يكون الخيار “الدولة الديمقراطية الحديثة”، بكلّ مضموناتها ومحدداتها، وهذا الطرح واقعيّ، وممكن أن ينتج عنه وثيقة توافقية، ولكن داخل تيار معين، لأن بلوغ وثيقة تمثل توافقات وطنية هكذا… وبشكل عام، كما فهمنا من الوثيقة، غير ممكن عمليًا، فالتنويعات الفكرية والأيديولوجية لا تسمح ببلوغ توافق ناتج عن خلفيات متنوعة. وغالبًا ما سيكون توافقًا مصطنعًا وليس حقيقيًا.

– ما مدى قدرة الوثيقة على تكوين الحامل المناسب لتحمّل مسؤولية المسألة السورية؟

وهنا يُطرَح التساؤل: كيف يمكن لوثيقة تدّعي بأنها حقّقت التوافق الوطني، أي الإجماع الوطني، أن تُسهم في تكوين حامل منسجم وفعّال؟ وقد علّمتنا التجربة أن المشكلة التي تعانيها النخب السورية مركّبة، يغلب عليها الطابع الذاتي، وترتبط بمدى نضج خبرات الشخصية السورية عمومًا، والنخب خصوصًا. فلم تكن الوثائق/ المشاريع وحدَها هي ما ينقص السوريين عند محاولاتهم تكوين الحامل التنظيمي الوازن.

– ما الحدود الزمانية للوثيقة: ما زمن جمع المعلومات؟

ذكرت الوثيقة أن الجلسات الحوارية تمّت على مدى 13 شهرًا، وبرأيي هذا غير كافٍ، ولا بد من ذكر الزمن، أي أن يكتب: عقدت جلسات الحوار في الفترة الممتدة بين شهر…. عام…. حتى شهر….عام…. فللمعلومات صلاحيتها الزمنية، وخصوصًا تلك التي تحمل مضمونات إشكالية-جدلية.

* قد لا يُتاح للجنة الحوار توفير المتطلبات المتصلة بالنقاط التي تم نقاشها أعلاه، ولكن يمكن إعادة صياغة التمهيد والمقدّمة بشفافية أكبر، كي تبدو الوثيقة معبّرة عن حقيقتها، وهذا أدعى لبلوغ مزيد من المصداقية والموثوقية لدى القراء.

* إنّ توفير أوسع مشاركة جماهيرية، لمناقشة الوثيقة والتعامل مع مخرجاتها بجدّية، أمرٌ ضروري لبلوغ توافق أعمق، بين ممثلي تيار فكري-سياسي معيّن تم اختياره، يمكن أن يقدّم رؤيته لسورية المستقبل، ما يسهم في تكوين الحامل المنسجم مع هذا الخيار.

* من الضروريّ التذكير بأنّ الوثيقة تمثّل كيانًا حيًّا يتطوّر من خلال الإغناء والحذف والإضافة، أي عبر النقاش المفتوح اللا محدود زمانيًا، حتى الوصول إلى تفاهمات حولها واعتمادها، ويستمرّ ذلك التطور، ما دامت الحاجة إليها موجودة.

بالرّغم ممّا تقدّم، يمكن القول بأن الوثيقة التي تم اعتمادها مبدئيًا، من جانب لجنة الحوار الوطني، ويجري طرحها للنقاش العام، تُعدُّ عملًا مهمًّا، وسوف تزداد أهميته مع استكمال المناقشات الجارية في حلقات متنوعة، يشارك فيها أشخاص آخرون، الأمر الذي يضمن لها مزيدًا من الموثوقية.

لقد حرّك مشروع وثيقة التفاهمات النقاشَ بين المثقفين السوريين بالفعل، وانخرطوا في تناول المصطلحات والمفاهيم السياسية والحقوقية-القانونية، فضلًا عن الاقتصادية والاجتماعية، وفي التدقيق بمدلولاتها، بعد أن كان التعاطي معها يجري باستخفاف إلى حدٍّ ما.

إن الحوار الجاري اليوم، وتعلّم النقاش والنقد الموضوعي حول الوثيقة، من دون التشهير بالمشروع، وبعيدًا عن إطلاق الاحكام المسبقة، يمكن أن يرقى بعملية الحوار، لأن تتحول إلى تمرين عقلي-فكري يمارسه المنخرطون فيه، وهذا هدف بذاته. فضلًا عن بلوغه هدف صياغة وثيقة معتبرة.