أولًا: مدخل

أطلق مركز حرمون للدراسات مشروعًا واعدًا لإعداد وثيقة لتوافقات وطنية بين توجهات وتيارات سورية مختلفة. وقد قدّم نتائج المبادرة بوثيقة تحمل عمقًا في الرؤية وطموحًا محمودًا لمستقبل الوطن السوري، وفيها كثير مما يمكننا الجزم بأنه يشكل عروة وثقى لكثير من السوريين، وفيها أيضًا ما يزال يحتمل الاختلاف. وبالحصيلة، هي مشروع يستحق القراءة والتحليل وأيضًا النقد والتطوير.

أهمية هذا المبادرة من حيث المبدأ أنها تحاول وضع تصور أكثر وضوحًا لسورية المستقبل، وتجيب عن عدد من الأسئلة: كيف ستكون الدولة السورية؟ ما هي أسس إعادة بنائها بعد الخلاص من النظام الأسدي الدكتاتوري وحالة الفوضى المسلحة؟ ما هي بنيتها كمؤسسات وسلطات ونظام حكم؟ وعدد من الأسئلة التي تحتاج إلى تفصيل أكثر من الشعارات العامة المُجمع عليها التي قدّمها عدد من الجماعات المعارضة، من دون وضع مشروع طريق واضح وأكثر تفصيلية. فقدان هذا المرتكز كان له دور ليس مهملًا في جمود عمل مجموعات المعارضة السورية وفي زيادة تعقيد الوصول إلى حل في سورية، يجنبها مصير الحلول أو بالأصح التوافقات التي فُرِضت على العراق ولبنان ويوغسلافيا السابقة، التي لم تؤدِ إلى حلول قادرة على تأسيس دولة مستقرة قادرة على التطور المستدام[1].

في هذه الورقة، أناقش بضع نقاط وردت في الوثيقة التي أرى أنها تحتاج إلى تعديل أو إعادة نظر، وذلك من خلال الرؤية المستقبلية للدولة السورية المستقرة المهيّئة للتطور المُستدام، وتضمن لمواطنيها الكرامة والحرية والعدالة والمستوى المعيشي المناسب لمتطلبات العصر الحديث، وتضع سورية في مكانها الذي تستحقه على قطار التطور العالمي.

ثانيًا: مقدمة حول الوضع السوري

لا بد من تقرير بعض ما توافق عليه كثير من السوريين حول الوضع السوري، للتوصل إلى قراءة موضوعية لهذه الوثيقة ولرؤيتنا لمستقبل سورية التي يمكن تلخيصها بقراءة الأسباب التي أدت إلى استمرار تأزم الوضع السوري، والتحديات التي تواجه سورية المستقبل.

أسباب استمرار المأساة السورية وتعقدها

لعل هناك شبه إجماع على أن استمرار المأساة السورية وزيادة تأزمها واستعصائها على الحل يعود إلى أسباب كثيرة داخلية سورية، وخارجية دولية وإقليمية.

  1. يتحمل النظام الأسدي المسؤولية الكبرى عن هذا الوضع، لأنه كان الأقوى بلا منازع في سورية حتى 2011، والطرف الذي تسبب في قتل أغلبية الضحايا السوريين أو تشريدهم أو سجنهم أو فقدانهم، والطرف الذي يتحمل مسؤولية أغلب التدمير في المستوى المادي والسياسي والوطني[2].
  2. يلي ذلك من حيث المسؤولية الدعم المطلق الذي قدمته معسكرات إيران وروسيا ومعهما الصين للنظام الأسدي، وذلك بسبب ارتباط بقائه بمصالح استراتيجية عليا لهذه الحكومات ضمن الصراع العالمي[3].
  3. كذلك فإن غياب الموقف والهدف الواضح للدول والحكومات التي أعلنت دعمها لمطالب الثورة السورية[4]، وغياب التنسيق في ما بينها، بل أحيانًا تصدير خلافاتها إلى الأراضي السورية، يجعل هذه الدول مشاركة في المسؤولية عن الحال السورية الحالية.
  4. سيطرة قيادات الفصائل المسلحة على الداخل السوري، سواء كانت فصائل ممولة إيرانيًا وروسيًا وتدعم النظام الأسدي مثل حزب الله، أم كانت تدعي محاربة النظام الأسدي باسم الثورة؛ وكلا المجموعتين تعملان وفق شعارات طائفية وتحريضية زادت عمق المأساة في سورية.
  5. أما في المرتبة الخامسة، فتأتي -بمسافة كبيرة عما سبق- مسؤولية هيئات المعارضة السورية الرسمية وغير الرسمية وجماعاتها التي كانت قادرة على العمل. فكل هذه الهيئات وقعت في أخطاء كبرى زادت صعوبة إيجاد الحل واستمرار المأساة السورية.

لعلّ أوضح هذه الأخطاء وأكبرها كان غياب أي عمل إعلامي منظم وواعٍ بالمشروع الوطني السوري، وشكل سورية المقبلة في وسط الصراع الدولي المتوحش، يحاول الاستفادة من حالة الاتفاق على رفض النظام الأسدي والتوافق على الأهداف الكبرى، لتشكيل جبهة شعبية موحدة وواعية وقادرة على صد التحديات والهجمات التي ركزت على تشتيت الشارع السوري وتفريقه. فلم يخرج أي مشروع إعلامي كبير يحاول مواجهة التشتت والانشقاق الذي عاناه السوريون تحت ضغط الإعلام والمعاناة اليومية، وغياب الوعي العميق بأسباب الصراع ومساراته داخل سورية وعليها.

التحديات الكبرى التي تواجه الحلّ المستدام في سورية

يمكن تصنيف هذه التحديات في تحديات دولية وإقليمية وتحديات داخلية سورية.

التحدي الدولي

أشرنا سابقًا إلى التحديات الدولية التي تتلخص بشراسة الصراع على أرض سورية، وأهميته في المستوى الدولي والإقليمي. وهذا الصراع يزداد تعقيدًا وصعوبة ولا سيما مع تفاقم الانقسام الدولي حول الغزو الروسي لأوكرانيا، ومن ثم ربما يكون التعامل سوريًا مع هذا الصراع صعبًا جدًا، أمام قوة الأطراف الدولية والإقليمية وضعف الحال السورية. والسوريون الذين يريدون بناء سورية المستقبل، كدولة مستقلة موحدة تضمن كرامة مواطنيها وحريتهم ومعيشتهم وأمنهم، لا يمكنهم تحقيق ذلك بالتماهي الكامل مع مصالح هذا الصف أو ذاك من الدول المؤثرة، كما فعل النظام الأسدي بقبوله أن يضع سورية خط دفاع أول عن مصالح النظامين الإيراني والروسي[5]، ولا كما فعلت بعض هيئات المعارضة السورية، وكثير من قيادات الفصائل المسلحة.

لذلك، فالتحدي الدولي أو تحدي تعقيد الصراع الجيوسياسي الإقليمي والدولي هو تحدٍ صعب ومعقد جدًا، ومع ذلك لا بد للسوريين من امتلاك منظور سوري وطني يرى عمق هذا الصراع ومصالح الدول والحكومات، ويحاول بقدر الإمكان وضع سياسة توازن بين الطموح الوطني السوري وقانون الواقع الذي يفرضه الصراع الدولي والإقليمي.

التحديات السورية الداخلية

وتعني التحديات التي تواجه مستقبل سورية من داخل البنية السورية، سواء كشعب أم كتاريخ أم كموقع جيوسياسي، أم كمشكلات تقنية اقتصادية وإدارية ومؤسساتية. ويمكن تلخيص التحديات الكبرى الداخلية وفق ما يأتي:

  1. التحرر من سطوة النظام الأسدي وقيادات الفصائل المسلحة بكل أنواعها، أي استقرار الوضع الأمني والعسكري على كامل الأرض السورية تحت حكم دولة واحدة. هذا المحور لا يدخل ضمن اهتمامات الوثيقة، لكنه يمثل الافتراض الأساسي للوثيقة ولرؤيتنا لمستقبل سورية، وهذه الرؤية تشكل حجر أساس لإيجاد حل مستدام[6].
  2. الاستقطاب والشروخ الشاقولية، بين مكونات الشعب السوري. وهي ربما تكون أصعب التحديات التي تواجه سورية الجديدة، وبخاصة إن كان الحل الذي سيأتي على منوال ما حصل في لبنان أو العراق أو يوغسلافيا السابقة. هذا الاستقطاب تزايد وعُمق وفق تنوعات الشعب السوري، فظهر بالمشكلة الطائفية والقومية والسياسية، بمعنى الموقف السياسي مما يجري في سورية. هذه الاستقطابات أدت إلى تشتت السوريين في الموقف والرؤيا وحتى الموقف العاطفي، الذين بدورهم سيؤثرون في ضمان صلابة التعاقد الاجتماعي اللازم لبناء أساس قوي للدولة السورية المأمولة.

هذه الاستقطابات أو الشروخ، الطائفية والقومية والسياسية، كانت أداة وسلاحًا أساسيًا استخدمه النظام الأسدي منذ أول يوم في الثورة السورية، يوم ادعى رسميًا أنها حركات وتمرد طائفي؛ وكذلك استخدمه حلفاؤه، وبخاصة نظامي إيران وسورية. والمؤسف أن هذه الاستقطابات استُخدِمت أيضًا من بعض حكومات المنطقة، واستُخدمت دوليًّا أيضًا، لفرض ما يرونه من مصالح في سورية. وهنا كانت حركة هيئات المعارضة السورية والإعلام السوري المعارض مقصّرين بشكل كبير في التصدي لرد كل أشكال هذا التشتيت.

والأداة الأساسية في زيادة عمق هذه الشروخ وتأجيجها كانت الإعلام، بكل منصاته الكبيرة والصغيرة، وبخاصة أن هذه الاستقطابات تقدم تفسيرات سهلة، وتتناسق مع المرويات العامة السائدة في المنطقة ومع نظريات المؤامرة.

  • التحدي الطائفي، الذي يمثل أحد أهم هذه التحديات وأصعبها في مستوى تركيبة الشعب السوري. فالمشكلة الطائفية، بمعنى التمييز بين الناس وفق طوائفهم الدينية بصورة فجة معنويًا أو ماديًا، مشكلة موجودة في سورية تاريخيًا، مثل كثير من دول العالم. لكن النظام الأسدي خلال 40 سنة استغل هذا التنوع لزيادة الشحن الطائفي على مبدأ (فرّق تسُدْ). والعامل الأهم كان الفكرة الخاطئة التي سادت: أن نظام الأسد هو نظام علوي، وأن الثورة السورية ثورة سنّية، وبخاصة بربط ذلك مع سلاح التفسير الطائفي لعلاقات النظام الإيراني مع دول المنطقة، من خلال كونه نظامًا يدعي حمل راية الإسلام الشيعي الاثني عشري. وهذا التحدي يمكننا رصد خطورته في الحالة اللبنانية والعراقية، على الرغم من تشكيل ما يمكن تسميته دولة في كلا البلدين.
  • ظهر التحدي القومي بشكل أساسي ما بين القوميين العرب والقوميين الأكراد في سورية، على الرغم من أن بقية المجموعات القومية السورية لم تسلم أيضًا من هذه الاستقطابات. وتاريخ علاقة الأكراد السوريين وغيرهم من قوميات، مثل الآشوريين والسريان والعرب السوريين، تعود بسبب تأزمها الأساسي إلى مرحلة حكم حزب البعث لسورية بعد انقلاب 1963، ومن ثم سياسة الطاغيتين حافظ وبشار الأسد، وترتبط أيضا بمطالب الشعب الكردي الذي عانى الظلم في دول الإقليم، وبخاصة في المواجهة شبه المفتوحة مع الحكومة التركية.
  • أما الاستقطاب السياسي -وبخاصة ما بين ما يُسمى “مؤيد” و”معارض”- فقد تزايد بحدة، مع تزايد عدد الضحايا والتدمير والتهجير والشتات السوري، وتفاعل أكثر مع الخطابات الإعلامية التخوينية والإقصائية من طرف النظام الأسدي، وأيضًا من بعض أطراف هيئات المعارضة، من دون الأخذ بالحسبان طبيعة حركة المجتمعات البشرية في الأزمات الكبرى.

بالحصيلة، لا بدّ من التنبيه إلى أن حالة الاستقطاب التي أشرنا إليها هنا ليست حكرًا على السوريين، فهذه الاستقطابات بين مكونات الشعوب نراها في مختلف دول المنطقة، وعلى مستوى عالمي، حيث تتجلى في احتدام الصراع السياسي ما بين الحكومات في المنطقة والتيارات الإسلامية والتيارات الحداثية والتيارات القومية، كما تتجلى -عالميًا- في ارتدادات لليمين القومي، بل العنصرية الجديدة في عدد من الدول.

فشل الحركة السياسية المعارضة

 هو التحدي الثالث الصعب أمام السوريين. فعلى الرغم من قبولنا بتبرير أن النظام الأسدي -طوال 40 سنة- منَع قيام حركة سياسية ديمقراطية تطوّر بنية حزبية سياسية وطنية؛ فإن شدة الأزمة ومرور أكثر من 12 سنة على اندلاع الثورة السورية لم تؤدِ إلى نشوء أحزاب سياسية حقيقية، تحمل رؤًى ومشروعات وخريطة طريق للمستقبل. فإلى الآن، لا نكاد نرى -السوريين- سوى عمل التيارات الإسلامية السياسية، وبالكاد نلحظ حركة سياسية مقابلة في التيار الديمقراطي العلماني. وفي كلتا الحالتين، باستثناء حركة الإخوان المسلمين، لا توجد أحزاب كوّنت الحد المقبول من النضج السياسي، لطرح نفسها كأحزاب سياسية تناسب الدولة الحديثة المأمولة.

التحدي الاقتصادي

على الرغم من أنّ الاقتصاد السوري كان في حالة سيئة جدًا، غداة انفجار الثورة السورية، فإن 12 سنة من الحرب والعنف المتطرف الذي مارسه النظام الأسدي وحلفاؤه من دول وميليشيات، إضافة إلى عنف الميليشيات التي حملت راية محاربة الأسد لكنها مارست حرب ميليشيا عمليًا، وإضافة إلى قرارات المقاطعة الاقتصادية للنظام السوري، والأزمات الاقتصادية العالمية التي ما زالت تعصف بالعالم، زادت الوضع سوءًا؛ فالنتيجة هي دمار أكثر من ثلثي البنية التحتية الاقتصادية في سورية، وانهيار الاقتصاد والعملة السورية، فضلًا عن عمليات السلب والسرقة الكبرى التي نالت الموارد السورية. وبناء على ذلك، فإنّ إصلاح الوضع الاقتصادي أمام هذه الكارثة الاقتصادية، مع وجود أكثر من 6 ملايين لاجئ سوري خارج سورية وأكثر من 5 ملايين مشرد ضمن سورية، هو تحدّ كبير وصعب ومعقّد، خصوصًا مع ضبابية الموقف الدولي من شكل سورية المستقبل.

التحدي المعنوي والتوعوي

إن آثار 12 سنة من الحرب والتهجير والشتات والفقر والظلم والخسائر، وبلوغ جيل كامل من السوريين خلال هذه المرحلة لم يعرف سوى واقع الحرب والخوف والمعاناة وحرب الإعلام والاستقطاب، تفرض تحديًا هائلًا على الدولة السورية الجديدة، وهو تحدٍ لا يمكن الاستهانة به، وبخاصة أن الجيل الجديد لا يعرف ماذا ولماذا، والجيل الأكبر مثخن بالجراح والآلام.

التحدي السياسي

دعا عدد من المشروعات السورية إلى إطلاق دعوات لرؤية موحدة لسورية الوطن، وهذا بالتأكيد مطلب سليم ووسيلة صحيحة لضمان وحدة الوطن السوري. لكن محاولة تجميع الرؤى كلها لمستقبل سورية، كدولة ونظام ومؤسسات، عملية شبه مستحيلة كما أثبت الواقع السوري وواقع دول الربيع العربي ودول العالم، وبخاصة أن الرؤى السياسية السورية ما زالت موزعة بين تيارات مختلفة. فالتيار الإسلامي السياسي موجود وقوي، وكذلك التيار الديمقراطي العلماني؛ وأيضًا توجد تيارات سياسية قومية عربية وكردية. فهذه الاختلافات بالتوجهات تجعل وضع مشروع موحَّد لسورية المستقبل عملية صعبة تحتاج إلى بعض التنازلات الضخمة، لأنها، بدون هذه التنازلات، لا تستطيع تغيير حكم الأمر الواقع الذي يفرض أن الجمع بين المختلفين عملية غير مضمونة النتائج، في السياق السياسي لحكم الدول المستقرة، فضلًا عن إطلاق عملية إعادة بناء وتأسيس للدولة. وقد رأينا هذه المحاولات في العراق ولبنان، وشهدنا أنها بالمحصلة لم تصل إلى الحد الأدنى مما كان يتمناه الشعبان العراقي واللبناني. ولذلك فإن هذا التحدي السياسي قد يفرض على الواقع السوري إطلاق عدة مشاريع ورؤى لسورية المستقبل، تتفق على بعض الأهداف العامة الكبرى، وتتنافس فيما بينها لإقناع السوريين والقوى المؤثرة في الوضع السوري.

ثالثًا: وثيقة التوافق الوطني

تقدم الوثيقة مشروعًا وطنيًا متكاملًا إلى حد كبير، ويمكن رؤيته كمشروع للدولة السورية المنشودة عند الخلاص من صناع الحرب والاقتتال، ابتداء بالنظام الأسدي والفصائل المسلحة الفوضوية. وقد أحاطت وثيقة التوافقات الوطنية بكثير من الأسس الضرورية واللازمة كي لا تقع سورية في حالة فوضى وإعادة إنتاج للأزمة، كما حصل -مع الأسف- في التجربة العراقية واللبنانية، لكن كأي مشروعٍ أو طرحٍ في هذا المستوى من الأهمية، التطوير والنقد مطلوبان وضروريان، وأورد هنا أهم الأفكار التي أرى أنها بحاجة إلى النقد أو الإضافة.

نقاش ما ورد في الوثيقة

العلمانية والعلمانية اللينة

أكدت الفقرة (ش) في وثيقة المبادئ أن العلمانية خيار ضروري وأساسي في سورية الجديدة، وأنها شرط لازم يتوافق مع الديمقراطية ودولة المواطنة؛ لكنها أيضًا استخدمت تعبير “علمانية لينة خاصة بالسوريين”. وهنا نجد أن التعبير المطروح قد يشكل خطرًا على العلمانية المنشودة نفسها، وعلى الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان. فالعلمانية الليّنة هي محض تنظير سياسي وفكري عربي، لا يوجد مقابل عملي تطبيقي له في العالم، ومن ثم، كما يحدث في دول العالم كلها، فالقوانين والأسس الدستورية تكون عرضة دائمًا للتفسيرات المتعددة. ومع قوّة التيار الإسلامي السياسي، في دول المنطقة ومنها سورية، ومع مناهضة أغلب الحكومات القائمة والإعلام للعلمانية، فإن اجتراح تفسيرات تضرب العلمانية بأساسها سيكون معضلة سريعة الانفجار في المراحل الأولى، كما حدث في مصر، حين أطلق الإخوان المسلمون مصطلح الدولة المدنية بديلًا غير صحيح للعلمانية.

العلمانية بشكلها التطبيقي في كثير من دول العالم هي فصل سلطات الدولة الثلاث التنفيذية والقضائية والتشريعية عن التشريعات الدينية وسلطة رجال الدين، وأيضًا حماية أديان الناس وعقائدهم وحرياتهم بالتدين والإيمان وممارسة شعائرهم وطقوسهم الدينية من دون أي تمييز[7]. وهذا النموذج معمول به في كثير من الدول المختلفة، ثقافيًا وتاريخيًا واجتماعيًا، ومنها دول ذات أغلبية مسلمة مثل تركيا.

فالسؤال هنا: ما هي النقاط اللازمة للعلمانية، مقارنة بالدول العلمانية الديمقراطية في العالم، التي ستتصادم مع ثقافة السوريين أو بيئتهم، والتي قدّمتها الوثيقة مبررًا لاجتراح مفهوم العلمانية اللينة؟

بالتأكيد، لا يمكن قبول تحديد دين الدولة أو الرئيس أو الشخصيات القيادية في الدولة، كما هي حال سورية وأغلب الدول العربية خلال العقود الماضية. ولا يمكن أن يكون إبقاء فقرة أن الشريعة الإسلامية أو المسيحية أو مبادئهما تشكل مصدرًا أو المصدر الأساسي للتشريع في الدولة، كما هي حال دول المنطقة. لإن إقرار أي من هذين المبدئين هو بالواقع ضرب للعلمانية في جوهرها، ومن ثم تهديد للديمقراطية وللدولة ذاتها.

وإن كان المقصود ما يُشاع حول أن العلمانية تحارب الدين ذاته، فإن حوالى خمسة ملايين سورية وسوري في تركيا وأوروبا قد شهدوا بعيونهم بالممارسة اليومية أن الدول العلمانية الديمقراطية لا تحارب الدين في هذه الدول، بل بالعكس تحمي الحرية الدينية للجميع على قدم المساواة.

أما مشكلة ما هو سائد حول أن الشارع السوري سيرفض العلمانية، لأن سمعتها قد شُوّهت، فبغياب الدراسات الاستطلاعية والإحصائية؛ يمكننا الجزم بأن هذا التقديرات مبالغ بها جدًا. بالتأكيد ستجد العلمانية معارضة وقبولًا، لكن لن يكون للطرف المعارض تلك الأرجحية الواضحة والكبيرة، لأسباب كثيرة أوردتها بورقة منشورة لدى مركز حرمون تناقش هذه الادعاءات وتنقدها[8].

إن الوضوح بطرح العلمانية، كأساس ضروري مع الديمقراطية والأخذ بشرعة حقوق الإنسان الدولية، يتماشى مع النموذج الأصحّ للدولة الحديثة السورية التي يجب أن تكون شفافة وواضحة بقدر الإمكان أمام الشعب وببنيتها المؤسساتية. وإن العلمانية بوصفها مبادئ هي أداة لا غنى عنها في محاولة معالجة جروح الماضي التي رُسِّخَ أنها ناتجة من التنوع الطائفي الديني السوري. ولا يمكن ذلك من دون أساس علماني يرى أن المواطنين متساوون تمامًا، ليس فقط من حيث الحقوق والواجبات، بل أيضًا من حيث الوطنية والانتماء والأخلاق، من دون أي تمييز وفق الدين أو الطائفة.

الشرعة الدولية لحقوق الإنسان

ورد في النقطة (أ) من الفقرة الثالثة، من الوثيقة الموسعة حول حقوق الإنسان، أن الدولة السورية تتبنى الشرعة الدولية لحقوق الإنسان بوثائقها الثلاث وتكرسها قانونيًا ودستوريًا. لكن في النقطة (ب) من الفقرة نفسها، ورد أن الدولة ستعالج مسألة تعارض بعض تلك الحقوق مع ثقافة المجتمع وقيمه السائدة.

وهنا أيضًا هذا الاقتراح يفتح الباب لفقدان الفقرة (أ) أهميتها ومدلولها، وقد يعيدنا إلى الحالة نفسها التي تعيشها الدول العربية أغلبها التي تذرعت بالخصوصية.

بواقع الحال، إن أغلبية الأصوات التي تحتج على الشرعة الدولية لحقوق الإنسان تتجه إلى معارضة المبادئ التي تحمي حقوق المرآة بشكل أساسي، وحماية الحرية الدينية والاعتقادية للناس. وفي كلتا الحالتين، الدولة السورية الحديثة تحتاج إلى وضع حقوق المرأة ودعمها للوصول إلى المساواة الكاملة مع الرجل كمواطن وإنسان، هدفًا أساسيًا يضمن استقرار المجتمع وازدهاره، وكذلك فإن الحرية الدينية والاعتقادية أصبحت مبدأً لا يمكن التنازل عنه في الدولة الحديثة.

وهنا، ربما يظهر التعارض في سؤال قوانين الأحوال الشخصية، مثلًا. والحل واضح وعملي ومطبق في تركيا ذات الأغلبية المسلمة، وفي أغلب الدول العلمانية الديمقراطية. ففي هذه الدول كلها، القانون الحاكم هو القانون المدني للأحوال الشخصية، ويترك حرية الالتزام بالتشريعات الدينية في الزواج والطلاق وغيرها للأشخاص، إن توافق الأطراف كلهم عليها برضاهم؛ فمثلًا، شهد حوالى خمسة ملايين سوري في تركيا وأوروبا أنه يمكنهم الزواج وفق الشريعة الإسلامية أو المسيحية، وأن يسجلوا الزواج لدى الدولة مدنيًا، وهذا حل يضمن حقوق الجميع.

حتى في القضايا الأكثر إشكالية، مثل الزواج المتعدد أو بعض قوانين الإرث التي تميز بين الذكر والأنثى، فإن الدولة الحديثة لا بد لها من قوانين تنهي هذه الحالات، وبخاصة أنها ليست مكونًا عقائديًا، بل اجتهادات فقهية. وهي أيضًا حال تركيا وحال المسلمين الذين توافقوا مع القوانين في الدول الغربية. وعمليًا، يمكننا الزعم أن الواقع العملي يقول إن الزواج المتعدد في انحسار نسبي بطبيعة الحركة الزمنية التطورية، والمساواة بين الأبناء والبنات في الإرث ليست تعارضًا مع التشريع الديني.

وهنا، لا بد من التأكيد أن الشرعة الدولية لحقوق الإنسان تمثل حزمة متماسكة من الحقوق التي لا يمكن التخلي عن أحد مبادئها، وإلا فقدت قيمتها، وفتحت المجال للتخلي عن مبادئ أخرى. وهذه المبادئ تمثل الحد الأدنى من الحقوق الإنسانية التي تطمح إليها الإنسانية، ومع ذلك، فما زالت تصطدم بكثير من المعوقات حتى في الدول الأكثر اقترابًا من تطبيق هذه الحقوق.

شكل الدولة السورية ما بين المركزية واللامركزية الإدارية

دعمت الوثيقة بالفقرة 7 شكل اللامركزية الإدارية، وقدمت من الأسباب والمبررات ما يفي بضرورة تبنيها في سورية الجديدة. لكن ما لم تلحظه الوثيقة أن الدولة في المرحلة الأولى من إعادة البناء ستحتاج إلى سلطة مركزية أكثر قوة من المشار إليه، وأهم سبيين يستدعيان هذه المرحلة الانتقالية في الحكم هما:

  1. ستكون سورية بحاجة إلى قرارات مركزية في المستوى الاقتصادي، لمباشرة عملية إعادة البناء إعادة متوازنة تأخذ بالحسبان الرؤية الاستراتيجية بعيدة المدى، ومدى الدمار في المناطق المختلفة من سورية، وفي الوقت نفسه تتحمل مسؤولية وضع الأولويات بعملية إعادة البناء ما بين نوع المشروعات وأماكنها.
  2. ستحتاج عملية إعادة ترميم الجراح المعنوية والنفسية، ومعالجة الشروخ الطائفية والقومية والسياسية ما بين السوريين، إلى رؤية سورية موحدة تجمع بين الرؤى السورية من خلال الحكم المركزي.

وفي الوقت نفسه، يجب أن يكون هدف الوصول إلى شكل الحكم اللامركزي المشار إليه في الوثيقة قائمًا دائمًا، وموضوعًا وفق جدول زمني محدد لا يحتمل التأخير، وهذا يمكن أن يتم من خلال وضع خريطة طريق وطنية شاملة، كما سنبين في الفقرات اللاحقة.

النموذج الاقتصادي والاجتماعي في سورية

المبادئ المطروحة مبادئ حديثة، وهي تتوافق مع متطلبات الازدهار الاقتصادي عمومًا، ولا جدال أن اقتصاد السوق الحرّ هو المسيطر عالميًا ولا بد من الأخذ بمبادئه. لكن تجب مراعاة أن سورية تخرج من حرب مدمِّرة قضت على ثلثي البنية التحتية، وأن ما تبقى من بنية تحتية هي بنية متهالكة وغير قابلة للاستخدام الفاعل، ومن هنا، فإن دور الدولة أو القطاع العام سيبقى أساسيًا، على الأقل للاضطلاع بمهمة بناء البنية التحتية التي ستحتاج إلى استثمارات وجهد هائل، وستشكل الهيكل العظمي الأساسي لاقتصاد سورية المستقبلي.

فوفق تجارب أغلب دول العالم، ومنها كثير من الدول الغربية؛ لا يمكن لسوى الدولة تحمّل مسؤولية بناء البنية التحتية الأساسية، مثل الطرق والسكك الحديدية والنقل العام وشبكات الكهرباء والمياه والنظام التعليمي المجاني المتاح للجميع. وهنا نذكر بالإخفاقات الكبيرة التي وقعت فيها دول صاعدة اقتصادية، بسبب تراجع دول الحكومات أمام القطاع الخاص، وبخاصة مع تنازلها لشروط الدول الغنية والبنك الدولي.

 أي إن الشكل الأقرب للنهوض بعملية البناء هو شكل الاقتصاد الاشتراكي الاجتماعي المتبع في دول أوروبا الغربية، وهو الشكل الذي بنى هذه الدول بعد الحرب العالمية الثانية. لكن مع ذلك فإن عددًا من دول أوروبا الغربية يعاني مشكلات اقتصادية مستمرة منذ الأزمة المالية العالمية 2008، وأحد أهم أسبابها هو التوسع في التخصيص ومنح الشركات الكبرى امتيازات متزايدة، ما أدى إلى تراجع الخدمات التي اعتادت هذه الدول تقديمها لمواطنيها في النصف الثاني من القرن العشرين؛ فلنا أن نتوقع ما يمكن أن يؤدي إليه نظام النيو-ليبرالية الاقتصادية، في دول تعيد بناء ذاتها تقريبًا من الصفر مثل الحال السورية.

كذلك لا بد من الاستفادة من تجارب دول عانت أزمات كبرى، مثل العراق ولبنان ويوغسلافيا السابقة، حيث فشلت أغلبية تجارب إعادة البناء وتأسيس دول قوية اقتصادية في هذه الدول. بل إن اتباع دول أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي لنمط النيو-ليبرالي الاقتصادي أدى إلى فشل اقتصادي واضح في هذه الدول، بعد ثلاثة عقود من الخلاص من الحكم الشيوعي الشمولي.

وهنا، لا بد من تأكيد أهميّة أن تُعدّ إعادة بناء البنية التحتية الاقتصادية والخدمية في سورية، وفق النماذج الحديثة المستدامة، حجر الأساس الذي لا غنى عنه لضمان الازدهار الاقتصادي اللازم لدعم استمرار الدولة السورية؛ فكثير من الدول الصاعدة اقتصاديًا، على الرغم من ازدهارها الاقتصادي نسبيًا، ما تزال بنيتها التحتية لا تضمن لها استمرارًا وزخمًا مستقبليًا، مثل السعودية وتركيا، حيث إننا لا نجد مثلًا خطوطَ سكة حديدية تغطي المساحات الشاسعة، ولا حتى ما يكفي من خدمات نقل عام ضمن المدن الكبرى. بل حتى الولايات المتحدة تقف أمام تحد اقتصادي كبير بسبب تآكل بنيتها التحتية الخدمية.

نقاش لما يمكن إضافته إلى الوثيقة أو إلحاقه بها

غطت وثيقة التوافقات الوطنية كثيرًا من المبادئ والأسس الضرورية لسورية الجديدة، مع ذلك فإن المشروع، بوصفه رؤية مستقبلية للدولة السورية، يمكن أن يزداد تكاملًا بإضافة بضعة نقاط بالأهمية نفسها.

المبادئ فوق الدستورية

أشارت الوثيقة إلى المبادئ فوق الدستورية التي وضعتها تحت مُسمى القواعد الدستورية المحصنة، وأطّرت لطرح المبدأ بما يلبي حاجات الدولة السورية الجديدة.

ويمكن هنا اقتراح بعض المبادئ المطلوبة والضرورية لضمان قيام الدولة السورية الحديثة التي تستطيع الاستمرار، كإطار مؤسساتي حاكم ضمن هذا التطور؛ وهي مبادئ مستوحاة من الوثيقة يمكن تلخيصها بهذه النقاط بوضوح وتحديد:

  • سورية دولة ديمقراطية تقوم على التعددية السياسية والتنوع البشري.
  • المواطنون السوريون كلهم يحظون بالحقوق والواجبات نفسها، من دون أي تمييز قومي أو ديني أو طائفي أو سياسي أو جنسي.
  • شرعة حقوق الإنسان الدولية بوثائقها الثلاث تشكل مرجعًا دستوريًا، إضافة إلى الدستور السوري.
  • سلطات الدولة الثلاث التنفيذية والقضائية والتشريعية مستقلة عن التشريعات الدينية.
  • الدولة تضمن حرية الرأي والاعتقاد والتديّن والتعبير لكل المواطنين، بما لا يناقض الدستور والقانون.
  • لا يجوز تشكيل أحزاب سياسية قائمة على أساس قومي أو ديني.
  • لا يتحمل أي مكون سوري ذي صبغة دينية أو طائفية أو قومية أو مناطقية مسؤولية ما حصل في سورية من مأساة، ولا يُسمح بأي تحريض وتجييش أو حملات كراهية ضد أي من هذه المكونات.

    دور الإعلام والإعلام البديل

أصبح الإعلام خلال العقود الثلاث الماضية من أقوى المؤثرات والأسلحة المستخدمة في مستوى العالم والدول في الصراعات السياسية، وأداة أساسية في تحقيق السلام، وأيضًا في ضرب الوحدة الوطنية وتجييش الشعوب نحو الاستقطاب. هذا التغيير في طبيعة البنية الجيوسياسية للعلاقات الدولية، وضمن الدول نفسها، وأيضًا في تركيبة عمل الاقتصاد والسوق وآلياته، يعود إلى الأسباب الأساسية الآتية:

  1. انتهاء الحرب الباردة، وسيطرة اتفاقات تحرير التجارة وحرية حركة رؤوس الأموال، وسيطرة النيو-ليبرالية الاقتصادية على كثير من دول العالم، وتراجع دور الحكومات المركزية وسلطتها.
  2. انتشار الإنترنت وسيطرة الإعلام البديل، أي منصات التواصل الاجتماعي، وبذلك سيطرة الفوضى في المعلومات والإعلام.
  3. فشل النخب السياسية التقليدية والثقافية في كثير من دول العالم.

وفي سورية، خلال 12 سنة، استُخدِم الإعلام الكبير -من فضائيات وصحف، والإعلام البديل في مستوى منصات التواصل الاجتماعي- في حرب التحريض الطائفي والقومي والسياسي، وفي تشتيت الشارع السوري. هذا الإعلام لم يكن مقصورًا على القنوات السورية، بل أيضًا كانت ظاهرة واضحة بالإعلام العربي والأجنبي.

بالمقابل، لم يخرج أي مشروع إعلامي بإمكانات معقولة لمواجهة هذه التيارات التحريضية، ولا لمواجهة الشروخ السياسية والطائفية والقومية التي أصابت الشارع السوري. في الواقع، كان هناك إما تساير مع التيار السائد المسيطر إعلاميًا، أو انكفاء للخلف عن مواجهته.

لعل مشروع الوثيقة لا يرى أن هذا الطرح من اختصاصه، لكن واقع القرن الحادي والعشرين، وطبيعة حركة الأسواق والمعلومات والإعلام، يفرضان أن يكون المشروع الإعلامي الوطني مشروعًا ذا أولوية كبرى.

وهنا نشير إلى التجربة في أوروبا الغربية، حيث باشرت الحكومات بحمل راية الإعلام الحامي للقيم والحقوق والمجتمع، وآتت هذه السياسة ثمارها بوضوح، مقارنة بسيطرة الإعلام الخاص على الإعلام الأميركي. وكثير من الباحثين في ظاهرة صعود اليمين الغربي المتطرف يضعون بين أسباب هذه الظاهرة تراجع الإعلام الممول حكوميًا وتقليديته. وليس المقصود هنا الإعلام الحكومي الذي اعتدناه في سورية ودول المنطقة، بل الإعلام الممول من الدولة الذي لا يرى الربح التجاري الكبير هدفًا أساسيًا، وفي الوقت نفسه، يتقن لعبة الإعلام وأساليب الوصول إلى الناس، والجمع ما بين الطرح الهادف والمتعة والجذب. وهذه المهمات لن يتصدى لها الإعلام الخاص، كما تثبت تجربة دول العالم كلها، لأنها مهمات لا تقدّم ما يسعى إليه الإعلام الخاص من مرابح. ولا يجب أن تقتصر مهمة الإعلام على معالجة الشروخ بين السوريين والجروح النفسية والمعنوية، بل يجب أن تساعد في نشر ثقافة الحوار والاختلاف، وبخاصة أن الأسئلة ستكون كثيرة، والإجابات عنها ستتنوع وربما تتناقض.

خريطة طريق استراتيجية

الفرق الأساسي بين الدول المتقدمة الصاعدة، والدول النامية التي ما زالت تعاني بطءَ التنمية ومشكلات الاستقرار، هو وجود تخطيط استراتيجي قريب المدى ومتوسطه وبعيده. هذا نوع من التخطيط المستقبلي أصبح ضرورة لبناء الدولة الحديثة، وهو حقل بحثي علمي وسياسي حديث نسبيًا.

خريطة الطريق المطلوبة بحاجة إلى رؤيةٍ للواقع السوري بعد انتهاء الاقتتال وسيادة الأمن مبدئيًا، تنطلق من معطيات الواقع الوطني الاقتصادية والاجتماعية والسكانية والسياسية والإعلامية، ومن معطيات الواقع الإقليمية والدولية؛ ثم توضَع خريطة طريق لمختلف المسارات المذكورة وفق مراحل زمنية متدرجة:

  1. المدى القريب: مثلًا خمس سنوات، وتمثل مرحلة حرجة تحمل مطالب وأهداف ضخمة وصعوبات هائلة، وتمثل مرحلة التأسيس لبنية الدولة مؤسساتيًا، وإطلاق المشروعات الكبرى الاقتصادية الملحّة، وبدء إعادة معالجة الجروح في المستوى البشري.
  2. المدى المتوسط: مثلًا خمس عشرة أو عشرين سنة، وتمثل مرحلة استمرارية للوصول إلى مستوى جيد من الاستقرار والتطور وتحقيق الأهداف القريبة على الصعد كلها.
  3. المدى الطويل: مثلًا أربعين أو ستين سنة، وتمثل مرحلة النهوض الحقيقية لتطور الدولة والمجتمع.

ميزة هذه المراحل الزمنية في التخطيط أنها تجنب الدولة الوقوع في أخطاء إعادة البناء المتسرعة التي لا تضع بالحسبان المدى الزمني الطويل، ما يؤدي إلى خسائر اقتصادية.

وهذه المراحل الزمنية ضرورية أيضًا في رؤية شكل سورية المستقبلي خلال بضعة عقود، كما يأمل السوريون ويطمحون في المستويات السياسية والسلطوية والتربوية والتعليمية والاجتماعية، إضافة إلى المستوى الاقتصادي، كما يبين الشكل 1.

الشكل 1، خريطة طريق وفق ثلاث مراحل زمنية لوضع استراتيجية إعادة البناء وفق سيناريوهات مبنية بناء علميًا وموضوعيًا.

من الناحية الاقتصادية، أصبح هذا التخطيط المستقبلي ضرورةً لأي دولة حول العالم. وفي بلد خارج من دمار هائل، كما حصل في سورية، يستجيب هذا التخطيط لتحقيق أكبر المرابح مع ضمان أفضل نتائج كمية للاستثمارات المطلوبة.

وكما أشير في فقرة شكل الدولة السورية، فإن تطوير بنية الدولة السورية نحو دولة ذات نظام حكم لا مركزي إداريًا، يضمن قوة الدولة وحقوق المواطنين، ويتماشى مع التخطيط الاستراتيجي المطروح.

رابعًا: خاتمة

إن العمل المنظّم والواعي الذي قام به مركز حرمون يستحقّ الثناء والشكر، لكنه يحتاج إلى الاهتمام والمتابعة والتدقيق، للوصول إلى صيغة وطنية سورية تتماشى مع الآمال السورية في دولة مستقرة متطورة ضامنة لحقوق مواطنيها وحقوقها بوصفها دولة. ولعل الصعوبة الأساسية تبقى في الجمع ما بين مختلف الرؤى الموجودة بين السوريين، ولعل النتيجة التي تعلمناها، نحن السوريين، مثل كثير من بلدان الربيع العربي ودول العالم، أن محاولة الجمع بين الرؤى المختلفة وأحيانًا المتناقضة هي مهمّة شبه مستحيلة. لذلك فإن انحياز المركز -كمؤسسة بحث علمي- إلى إحدى الرؤى لن يؤدي إلى شقاق حقيقي، بقدر ما سيقدّم هذه الرؤى وفق منهجية علمية موضوعية.


[1] قضية بعنوان الدولة الديمقراطية العلمانية هي الخطوة الأساسية للحلّ في سورية، علاء الخطيب، مركز حرمون للدراسات، تاريخ 05/10/2021، https://bit.ly/3HDgtpG

[2] توثيق تاريخي بعنوان Syrian Civil War، الموسوعة البريطانية، تاريخ آخر تحديث 04/05/2023، https://bit.ly/3nvOBwG

[3] دراسة بعنوان الصراع الدولي والأزمة السورية: الأسباب والنهايات، علاء الخطيب، مرصد مينا للدراسات، تاريخ 01/09/2018

https://bit.ly/3LC5lKE

[4] دراسة بعنوان السياسة الأميركية ليست في حاجة إلى حسم الأزمة السورية، علاء الخطيب، مركز حرمون للدراسات، تاريخ 11/06/2016

https://bit.ly/3AWaNU0

[5] مقال بعنوان بشار الأسد: سوريا هي خط الدفاع الأول عن إيران وروسيا، علاء الخطيب، موقع بيت السلام، تاريخ 18/10/2016

https://bit.ly/3NIHE66

[6] – مقال بعنوان شكل سوريا القادم هو بداية الحل، علاء الخطيب، موقع بيت السلام، تاريخ 07/10/2016، https://bit.ly/3LM34N0

[7] – ورقة بعنوان ما هي العلمانية، علاء الخطيب، موقع بيت السلام، تاريخ 08/10/2016، https://bit.ly/3NYuzpB

[8] – قضية بعنوان هل العلمانية هي ذلك الغول الذي يرفضه العرب والسوريون؟، علاء الخطيب، مركز حرمون للدراسات، تاريخ 08/12/2021

https://bit.ly/42p3TTc