يصعب إحصاء عدد المبادرات السياسية والرؤى التي قدّمها سياسيون سوريون معارضون لاجتراح حلّ سياسي للكارثة السورية، التي بدأت ثورةً عام 2011 وانتهت حربًا سياسية – دينية – أيديولوجية متعددة الأطراف، داخليًا وخارجيًا. جاءت أغلبية هذه المبادرات كتطوع من معارضين سابقين في محاولة للتأثير على طرفي الصراع، الذي تبلور لاحقًا كصراع بين النظام وحلفائه من جهة، والمعارضة المسلحة وداعميها من جهة ثانية، ما يعني عمليًا ضرورة التغيير في طريقة صياغة المبادرات لتتناسب وطبيعة الصراع وتجاوزه لمصالح السوريين، لكن هذه المبادرات لم تستطع التكيّف مع طبيعة المستجدات.
وإن هامشية هذه المبادرات جاءت من كونها لم تنتج عن حالة الصراع، فالانتفاضة عفوية وشعبية، ولم ينبثق عنها تعبير سياسي مستقل، وحين عاجلتها الحرب، لم يعد للسياسة فيها من دور يُذكر، فكانت المبادرات السياسية للمعارضة منفصمة عن الواقع منذ مرحلة ما قبل الثورة، لأن المجتمع كان مرتهنًا لسلطة الاستبداد ومُحيَّدًا عن السياسة، وبعدها، لأن هذه المبادرات كانت تقارب الواقع الطافح بالصراعات بالطريقة ذاتها.
والمدهش هو دوام أطياف المعارضة السياسية السورية على إطلاق المبادرة تلو الأخرى بنفس الطريقة، من دون التحري عن أسباب الفشل والأخذ بها، فلم تعد المبادرات تترك أيَّ صدى أو أثر، وصارت مجرد تكرار لعبارات نظرية منمّقة تتخيل مخارج سياسية مُسقطة على واقعٍ هي غريبة عنه، فلا يأبه بها. فكيف يمكن لسياسيين عاقلين أن يكرروا تنظيرات متشابهة لأكثر من عقد من الزمان، أو يُنشئوا أحزابًا سياسية بعدة أعضاء متوسط أعمارهم جاوز الستين عامًا، أو يكرروا العبارات نفسها منذ ستين عامًا أيضًا و”لا يتوبوا”! ذلك أن منبت معظم الأحزاب السياسية اليسارية الطابع كان في عقدي الخمسينيات والستينيات، ومن فرعين قوميين هما الناصرية والبعث، علاوة على الشيوعيين والإخوان. أما البدايات الليبرالية الخجولة التي ظهرت في بداية الألفية الثالثة، فلم تتموضع سياسيًا بصورة مؤثرة، لرفضها من قبل الاتجاهات الأيديولوجية والوعي الشعبي المتأثر بها.
من هنا تأتي أهمية مبادرة “مشروع وثيقة توافقات وطنية”، الصادرة عن مركز حرمون للدراسات المعاصرة، فقد كان لها وقع مختلف بعض الشيء، كونها جاءت كمحصلة لسنة ونصف من الحوارات التي حاولت فهم حالة العجز التي أصابت الطيف السوري المعارض وعدم قدرته على التأثير في الصراع السوري الذي انتقل كليةً إلى أيدي الأطراف الخارجية الإقليمية والدولية، كما ورد في الوثيقة.
ولا بد من التنبيه أيضًا إلى القاعدة الحوارية الغنية التي استندت إلى آراء 186 شخصًا من النخب السورية متعددة الاتجاهات، وتناولت مختلف أوجه بناء الدولة السورية كدولة ديمقراطية – علمانية تبتعد عن الاستبداد بلا رجعة، على قاعدة دستورية محصنة، وتؤسس لنظام من الحقوق والحريات والعدالة الانتقالية والتعليم والاقتصاد، والعمل على معالجة الأزمات الطائفية والقومية. وهذا بعض ما يُميّزها عن غيرها.
وعلى الرغم من سعة مجال الحوارات وتنوعها وشمولها، فإن ثمة انطباعًا بأن الوثيقة لم تأخذ بالحسبان طبيعة مقاومة بعض التيارات ذات التوجهات العابرة للأوطان، والتي ستعارض على نحو منهجي قيام دولة ديمقراطية حديثة، ما يعطي بعض الانطباع بأن الوثيقة تطرح واقعًا مرغوبًا فيه نوعًا ما. ينطبق ما سبق على قوى الإسلام السياسي الجهادي بصورة خاصة، وعلى الحركات القومية العابرة وطنيًا بدرجة أقل. لكننا قد نجد عذرًا لكاتبي الوثيقة، إن كان إهمالهم لهذه القوى يأتي من اعتقادهم بأنها منافية لقيام الدولة السورية وسيتم تحييدها في الطريق إلى بناء الدولة العتيدة. وبالفعل، لا يمكن أن تشارك الجماعات المسلحة المتطرفة والتابعة للخارج في مشروع بناء الدولة، التي لن تكون دولة قابلة للحياة، إن لم تتجاوز حالة الاستبداد وتتمحور حول أهداف وطنية سورية، ما يقتضي من أي طرف التعاون مع الشركاء الآخرين بالتصريح والعمل.
ولا تغالي الوثيقة حين تتحدث عن تميزها، فهي أغنى من الطروحات السياسية السابقة ذات الطابع الأيديولوجي أو التي تناقش جانبًا محددًا من المسألة السورية، وهي متكاملة بحيث يمكن أن تصلح كمرشد للدراسات وبرامج العمل بما تتضمنه من مقترحات ملموسة. كما يمكن أن تشكل أساسًا لحوارات أعمق حول كل جزئية تتضمنها، فيتم تحديثها باستمرار على ضوء تعمق الحوارات وإغنائها، ما يقربها من قضايا الواقع ويجعلها تعبر عنها بصورة أفضل.
وعلاوة على الإقرار بحدود الدولة السورية المزمعة واستقلالها وتنوعها الحضاري وبنائها على أساس اللامركزية الإدارية والفصل بين السلطات وإعطاء مساحة واسعة لمنظمات المجتمع المدني، تشير الوثيقة أيضًا إلى ما نعتبره في غاية الأهمية لبلد ممزق بالصراعات، وهو تحييد سورية عن الصراعات الدولية والإقليمية وبناء علاقات متوازنة مع جميع الدول، تتمحور حول الإسراع بتنمية سورية، وهذا مرهون بالإقرار بالقوانين والمواثيق الدولية ومكافحة الإرهاب، لتكون سورية عنصر استقرار في المنطقة، وبما يمكِّن من حل المشاكل العالقة، وعلى رأسها استعادة الجولان، بالاستناد إلى الشرعية الدولية وابتكار حلول عملية وإبداعية لهذه المسألة، بعيدًا عن الشعارات الخاوية والسياسات غير الناجعة، وبما يخدم تنمية سورية اقتصاديًا.
ومن القضايا المختلف فيها قضية العلمانية، لما يحيط بها من أفكار خاطئة، ولاختلاف طرائق تطبيقها وطبيعة ارتباطها بالديمقراطية. هنا تشدد الوثيقة على ابتكار علمانية خاصة ومرنة تستجيب لحاجات السوريين، ولا تشكل قيودًا على معتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم. كما يجب ألا تنفصم العلمانية عن المواطنة والديمقراطية، فالمواطنة تشترط حيادية الدولة باعتبارها تقف على مسافة واحدة من جميع المواطنين، والديمقراطية علمانية بطبيعتها، لأنها تشترط حيادية الدولة تجاه الأديان والمعتقدات جميعها.
من الظروف التي يمكن أن تزيد من أهمية الوثيقة، البدءُ بحلّ سياسي، ووصول كثير من السوريين إلى قناعة بأن لا مخرج لسورية ولا نجاة لها من دون بناء الدولة الحديثة، التي أوضحت هذه الوثيقة الأسس التي يجب أن تستند إليها.