بداية، لا بدّ من القول إنّ الوثيقة تُعَدّ ورقة مهمّة للغاية، وذلك بسبب مهنيّة الورقة والتزامها المعايير العلمية للوصول إلى المخرجات والاستنتاجات على خلفية جلسات نقاش وحوار معمقين، وتنبع أهمية الورقة القصوى من حراجة المرحلة بالنسبة للشعب السوري الذي دخل في منعطف مصيري، قد ينتهي بتفكيك الدولة السورية على وقع التدخلات العسكرية والإقليمية والدولية. ما يعني إعادة إنتاج منظومة الاستبداد بكلّ مرتكزات القمع والطغيان، وترحيل مشروع الدولة الوطنية الديمقراطية لعقود وربما لقرون مقبلة.
وعلى الرغم من أن الوثيقة تُعدّ نتاج سلسلة نقاشات وتقاطعات وتوافقات بين إرادات سوريّة ذات توجهات مختلفة، قد تكون بعضُها على خلاف، ومن مشارب مختلفة؛ فإنها لا تُخفي ميلها إلى إرضاء الإسلام السياسي. وقد ظهر هذا الأمر جليًا في أكثر من فقرة، ولا سيّما تلك المتعلقة بالدستور وشكل الدولة وهويتها؛ إذ لا يمكن التعويل على أي وثيقة، ما لم يتم التوافق فيها على ركائز المواطنة المتساوية، التي ترد في الوثيقة كالتالي: “لا تستوفي المواطنة المتساوية أركانها وشروطها إلا في دولة ديمقراطية من جانب، ومحايدة تجاه الأديان والمذاهب والمعتقدات من جانب آخر”. أي دولة الحقوق والواجبات التي تحكمها قوانين، وفق دستور عادل غير متحيّز على أساس العرق أو اللون أو الجنس أو أي اعتبار آخر.
فمن جهة، تورد الوثيقة في الصفحة 8 أن “الدولة السورية القادمة ستتبنى منظومة الحقوق والحريات الواردة في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان”، ومن جهة أخرى، تطالب باجتراح الحلول الملائمة لمشكلة تعارض بعض تلك الحقوق مع ثقافة المجتمع السائدة!! وتكمن خطورة هذا المجترح أولًا في الرغبة الانتقائية في تضمين منظومة الحقوق، التي يتفق المختصون/ات على أنها سلّة واحدة لا يمكن تجزئتها. وثانيًا في النيّة لتدوير ثقافة المجتمع التي تقف على النقيض من بعض الحقوق والحريات، والتي تنتهك بالدرجة الأولى -بحسب تجربتنا ومعرفتنا السابقة لهذه الثقافة- حقوق النساء وحقوق بعض مكونات التنوع السوري. وهنا يجب الإشارة إلى أنه يمكن الاستفادة من تجارب الدول في تجاوز بعض العراقيل المشابهة التي تعترضنا، لكن بشرط ألا تكون تلك التجربة قائمة على الالتفاف والتذاكي على منظومة حقوق الإنسان، وذلك لأن هذه المنظومة هي، بالدرجة الأولى، وعاءٌ ونتاج إنساني، وتهدف إلى كبح جماح الهيمنة والتسلط وتمركز القوة بيد طغم حاكمة. وبطبيعة الحال، لا تقف شرعة حقوق الإنسان حائلًا أمام حرية المعتقدات، لكن العكس كثيرًا ما حصل عندما فرضت الأيديولوجيات العقائدية والدينية هيمنتها بقوة الحديد والنار. والتجربة السورية مريرة مع منظومة البعث الأمنية التي قمعت كل من اختلف معها سياسيًا، وفرضت العروبة شرطًا لازمًا للمواطنة، واحتكرت الدولة، وجرّمت العمل في الشأن العام. أما التنظيمات الدينية الراديكالية الإسلاموية، فقد فرضت هيمنتها على حيوات الناس، وكان للنساء تحديدًا نصيب مضاعف مما ارتكبته من الفظائع، بالإضافة إلى بعض المكونات الأكثر هشاشة كالأيزيديين على سبيل المثال، ولنا في تجارب (النصرة) و(داعش) إرثٌ ثقيلٌ من الجرائم، التي اتخذت الدين الإسلامي غطاء وأداة لصهر الآخر المختلف.
وهنا، لا بدّ من التنبيه إلى أنْ لا أحد يريد أن يحمّل وزر جرائم الفصائل الراديكالية لجميع المسلمين/ات، أو وزر جرائم النظام وحزب البعث لكلّ العرب أو الطائفة العلوية، لكن الاستمرار في المحاباة والتفضيل هو نوع من دق الأسافين في دولة المواطنة المتساوية قبل كل شيء، والتي ما تزال بعيدة في الأفق المنظور، إن بقيت الاشتراطات ذاتها بانتظار الاجتراحات.
وعلى سبيل الاجتراح، أودّ لفت الانتباه إلى ضرورة تضمين تجارب السوريين/ات الفارّين إلى أوروبا بعد الحرب، ويبلغ عددهم قرابة المليون، يتركز أغلبهم في ألمانيا، وهم من شرائح مجتمعية وطبقية متعددة، وفيهم قسمٌ لا بأس به ذو طبيعة محافظة، فما كان بالإمكان أن تجد هذه الفئة الملاذَ الآمنَ في أوروبا ذات الغالبية (المسيحية)، لولا قيم ومزايا الدول العلمانية ودولة المواطنة المتساوية بدون تمييز. واللافت أن الشريحة المتديّنة/ المحافظة، من خلال المتابعة والملاحظة، تبدي اندماجًا أفضل والتزامًا بالقوانين، مقارنة بالجاليات الأخرى الموجودة في تلك البلدان. وعلى ضوء تعقيدات القوانين، ولا سيما المتعلقة بقوانين حقوق الإنسان، ومن بينها طبيعة العلاقة مع النساء والأديان والخصوصيات الشخصية، فقد قطع اللاجئون/ات السوريين/ات شوطًا لافتًا للانتباه، بمسائل الاندماج وتعلّم اللغات وسوق العمل. المثال يعطينا فكرة قابلة للتطوير والنقاش حول تبديد المخاوف من ردة الفعل المجتمعية تجاه تقبّل المفاهيم الحقوقية، لا تطويعها بالضرورة على مقاسات الثقافات المجتمعية غير المحايدة، ولربما كانت نتائج تمثّل مفاهيم حقوق الإنسان والحريات أفضلَ مما هي عليه، لولا تدخّل الجمعيات الأهلية ذات الميول والتوجهات السلفية التي تنتمي غالبيتها إلى جاليات أخرى غير سورية، كانت في أوروبا قبل موجات اللجوء السوري.
بخصوص مفهوم العلمانية، نجد في الصفحة 16 الفقرة (ب) من الوثيقة ما يلي: “طرح خطاب علماني ذكي ومختلف ومتفهم للثقافة والبيئة، ويبتعد عن استفزاز المتديّنين”. أعتقد أن واحدة من المسلمات السياسية أن العلمانية أكثر قدرة على استيعاب التنوع الديني والإثني والعيش المشترك وإدارة التنوع، وهذا ما جاء في الوثيقة أيضًا. وذلك باعتبار مسألة الدين والمعتقد في الأدبيات العلمانية جزءًا من الحريات الشخصية، على عكس محاولات الأديان التي تفرض نسقًا محددًا ومضبوطًا من القوانين لتطويع وإرضاخ المجتمعات وإخضاعها لسلطتها الدينية. الأمر الآخر هو الاتهام المضمر للعلمانية، باستفزاز المتدينين! وهذه التهمة تعقّد مسألة التوافق، وتضع العلمانية في قفص الاتهام، وهذا ما يناقض روح النص، وهنا يحتاج الموضوع إلى إعادة تصويب. يرى كثير من السوريين/ات أن المؤسسة الدينية هي من تحتاج إلى تطوير أدواتها النقدية وآليات تفكيرها التي أنتجت الطوائف المتناحرة، وأقامت الدنيا ولم تقعدها منذ قرون، ولم تنتج حتى الآن أي تسوية مرضية بين الجماعات المنتمية إلى تلك الطوائف، سوى بعض الهدن المشوبة بالكراهية، فعلامَ نختزل المشكلة بالعلمانية واستفزاز المشاعر الدينية! فالمتديّنون/ات ليسوا طبقة متجانسة واحدة رافضة للعلمانية، وكما أن هناك فئة رافضة، هناك قسم لا بأس بهم لديهم القناعة أن العلمانية هي الحل الأمثل لتشميل حقوق الجميع، وهم ليسوا أقلية في المجتمع السوري. ثمة توصيفات أخرى لنفس المصطلح، في سياقات أخرى من الوثيقة، كسوء السمعة والفهم، وكأن الوثيقة تطالب السوريين/ات بتفصيل علمانية على مقاس الإسلام السياسي، لقطع المسافة الفاصلة بين الحاكم والمحكوم، وما إن يصبحوا حكامًا حتى يرموا بهذه الأدوات التي لن يحتاجوها في فرض سلطتهم، وبذلك نكون قد بدّلنا قشرة الاستبداد دون بنيته!
في المنحى ذاته، يوجد شيء من التناقض بين التركيز على مفهوم الهوية الوطنية الجامعة، وربطها بالحضارة العربية والإسلامية تحديدًا، وهذا يُعيدنا إلى المربّع الأول. بدلًا من ربط الهوية الوطنية بإرادة السوريين/ات في الرغبة بالعيش المشترك، وفق المصالح الوطنية وضمن الجغرافية السورية بين مختلف المكونات، للعيش باستقرار وسلام ووئام، يعود التركيز على التفضيل وتمرير المحتوى ذي الطابع الإسلامي والعربي، بالاعتماد على الأكثرية العددية، دون الأخذ بعين الاعتبار القطع مع الهويات العابرة للحدود التي لن تبني هوية وطنية جامعة لا اليوم ولا في المستقبل. ولا أدري هنا ما الضير في أن تكون هويتنا الوطنية تستمد مناعتها من الإرث التاريخي السوري الثري، من حيث إنها جزء من الحضارة الإنسانية.
في ما يخص المسألة القومية، ولا سيّما الكردية، تشكك الوثيقة بالحيف والجور الذي طال الكرد، حيث ورد في الصفحة 17: “الاعتراف بأخطاء الماضي (في حال حصولها)”. والماضي المقصود هنا هو ماضي نظام مستبد نكّل بكل السوريين والسوريات، وكان للكرد خصوصية معيّنة من هذا الحيف والجور، فهل ثمة شكوك في ذلك؟! أعتقد أن الموضوع يحتاج إلى إجابة واضحة.
وهناك مسألة أخرى لا تقلّ خطورة عن المسائل السابقة، وردت في الصفحة 16، حول منظومة القوانين التي تحظر تشكيل الأحزاب على أساس ديني أو مذهبي. علّمتنا تجربتنا مع الاستبداد أن الحظر ليس حلًا للمشاكل بالضرورة، وإنما هو ترحيل مؤقت للمشاكل ودفعها نحو الأسفل، لتقوم الجهات المقموعة، انطلاقًا من الإقصاء والتهميش، بتشكيل أجسام سرية باطنية تجتاح المجتمعات المحلية من الأسفل. فضلًا عن باقي المشاكل الأخرى الناجمة عن تدوير المظلوميات ونقلها إلى مستقبل سورية. الحلّ يكمن بإنشاء آليات رقابة وشفافية، تحظر خطاب الكراهية والتمييز على أي أساس كان، فالأحزاب المسيحية الديمقراطية منتشرة في حوالى 80 دولة من دول العالم، وثمة نماذج لا تشكل فيها المسيحية سوى اسمها، لأنها ملتزمة بقوانين الدولة العلمانية، وتنطبق عليها قوانين الأحزاب الأخرى دون تمييز، حتى إنها تقبل اللادينيين أعضاءً. وجهة النظر هذه نابعة من قناعتي أن حلول المستقبل يجب أن تتبنى السماح، ما لم يكن هناك خرق لمعايير الديمقراطية، ولا يوجد مبرر لحظر أي جماعة بمجرد الاسم مثلًا. كما لا يجوز طمر قضية ملتهبة بدون تعريضها للشمس، فنحن بالكاد مثلًا نعرف بعض قادات جماعات الإخوان، أين البقية؟ ألا يجب أن يظهروا إلى العلن، أم أن القانون سيواريهم في كواليس هم أكثر من يتقن اللعب فيها!
من ناحية أخرى، ورد في الصفحة 22 بعض المصطلحات، من قبيل “العدالة المناطقية”، وتنمية تمييزية مؤقتة، وأعتقد أن تلك المصطلحات غير موفّقة، بالرغم من أحقية الإجراءات. فمعروف أن العدالة الأفقية تفي بالغرض، من تشميل وتضمين جميع المناطق والأطراف والأقاليم، بدون التركيز بالضرورة على مراكز المدن الكبرى في عمليات التنمية. وعن “العدالة التمييزية المؤقتة”، أيضًا ثمّة مصطلح يصيب الهدف ذاته، وهو “تدبير إيجابي مؤقت”، لردم الفجوة الحاصلة نتيجة سياسات خاطئة، لتعويض النقص الحاصل وجبر الضرر.
ورد في الصفحة 24 من الوثيقة عبارة: “جعل التعليم إلزاميًا حتى نهاية المرحلة الإعدادية”، في الحقيقة أن التعليم الأساسي إلزامي منذ عام 2002، بغض النظر عن كوارث التطبيق والمشاكل الكبيرة التي تهدد حاضر ومستقبل البلد.
أما موضوع اللامركزية الإدارية الموسعة، فيتبين -من خلال الشرح- أن حل مشكلة غياب الديمقراطية وتضمين التنوع وتحقيق التنمية المستدامة لا تتحقق إلا من خلال نظام لامركزي، وهو تمامًا يحمل في طياته مفهوم اللامركزية السياسية. السؤال الذي يطرح نفسه الآن: إلى متى سنظل نحن السوريين/ات نهرب إلى الأمام، ونبدي خشيتنا من أي إشارة إلى “السياسة”؟! هل المطلوب أن نتماهى مع حقبة الاستبداد التي لم تجد في الشعب السوري أهلًا لممارسة السياسة؟ أنا هنا أطرح الأسئلة فحسب، بالرغم من أن المضمون في الوثيقة يشي بالحق السياسي، من خلال التدخلات المحلية في الانتخاب والتمثيل والقرارات الاقتصادية التنموية، فهل هو الخوف؟ أم أننا سنبقى على نهج السابقين؟ فيما يخص نظام الحكم، يرد في الوثيقة تفضيل الشكل المختلط نصف برلماني، وهذه تحتاج إلى وقفة حقيقية، ففي أماكن أخرى، تورد الوثيقة نصيحة بضرورة الابتعاد عن الخيارات العاطفية غير المدروسة! فهل النظام المختلط هو خيار مدروس حقًا! ما أعرفه شخصيًا أنه خيار بعض الدول.
يؤخذ على الوثيقة أنها تجنّبت الخوض المباشر في أي قضية تخصّ التمييز ضد النساء، سواء المجتمعي أو الثقافي أو القانوني، ولم تقدّم أي ضمانات أو توصيات حول حقوقهن، علمًا أن النساء، وتحديدًا النسويات منهن، يتعرضن لموجة كراهية شديدة في السنوات الأخيرة، وقائمة المشاركات تفيد بأنهن كنّ مشاركات في جلسات النقاش، فلماذا لم تُظهر الوثيقة أي إشارة لأصواتهن؟! في حين أن التجارب حول العالم تُثبت أن قضايا النساء يجب أن يفرد لها أبواب منفصلة، حتى وإن كان هناك منظومة حقوق عامة تخص الجميع، أي أنه لن تحصل النساء على حقوقهن بمجرد صياغة وثيقة حقوق عامة، بل يجب أن تُفرد أي وثيقة وطنية بنودًا خاصة تضمن المساواة بين النساء والرجال، بالكرامة والحقوق. ولهذا السبب وغيره، أقرّت الأمم المتحدة اتفاقية (سيداو) لإلغاء كافة أشكال التمييز ضد المرأة، واتفاقية مناهضة العنف ضد النساء، وقرار مجلس الأمن 1325 حول المرأة السلام والأمن.
ختامًا، هذه الملاحظات هي على قدر محبّة سورية التي نحلم بها معافاةً، ملكًا لكل أبنائها وبناتها، وليست موجهة إلى شخصكم الكريم في مركز حرمون، إنما ننتقد لنبني جسر العبور إلى المستقبل السوري الحرّ والديمقراطي التعددي.