بداية، لا بدّ من التأكيد بأن مشروع الوثيقة هو عمل جماعي سوري بامتياز، وأنه يُعدّ من أفضل ما أنتج حتى يومنا هذا، من أدبيات تتناول قضايا السوريين/ات، وتركز على حقوق الإنسان ومن ضمنها حقوق النساء. والمواطنة ليست معطًى نهائيًا مكتملًا، وإنما هي سيرورة أو ممارسة تبدأ من الاعتراف القانوني بمواطنية الفرد (اكتساب الجنسية)، وتتطور باستمرار مع تغيّر الأوضاع في البلاد. وإن المواطنة المثالية ليست سوى طوباوية لم تتحقق في أيّ بلد في العالم، ولن تتحقّق أبدًا ما دام العالم يتغيّر. وهذا ما يُبرّر النضال القائم في كل بلاد العالم، لتحقيق مواطنية أفضل. وتتفاضل البلدان بحسب درجة تحقيق المواطنية لمواطنيها، وتنكفئ إلى حال من العَوَز، أو إلى مواطنة منقوصة، في البلدان التي لا تُقيم وزنًا لتحقيق مبادئها واحترام قيمها.
إن مبتغى هذه الورقة هو الربط بين مفهومَي الجندر والمواطنة، تعقيبًا على ما جاء في مشروع وثيقة توافقات وطنية، بما يخص مصطلح “المواطنة المتساوية”. والمصطلح بحد ذاته إشكاليّ، لأنّ المساواة هي مبدأ من المبادئ الأربعة للمواطنة (المساواة والحرية والمشاركة والمسؤولية)، وهذه المبادئ لا تفضيل لأحدها على الآخر. وإن ربط المواطنة بالمساواة فقط غيرُ دقيقٍ علميًا، لذلك سوف أركز على المواطنة بمبادئها الأربعة، كونها أرجل الكرسيّ، ولا يستقيم الأمر إلا بها جميعًا.
جاء تعريف المواطنة المتساوية في الوثيقة على النحو التالي: “المواطنة المتساوية المستوفية لأركانها وشروطها هي حجر الأساس في بناء وتعزيز شعور الفرد بانتمائه إلى وطنه، وفي بناء الهوية الوطنية المشتركة. وهي الإطار الأمثل لمعالجة قضايا التعدّد والاختلاف في بلدٍ متعددٍ متنوعٍ كسورية، إضافة إلى كونها العنصر الأهم في معالجة هذه الحالة المتقدمة من التمزق المجتمعي التي وصلنا إليها. ولا تستوفي المواطنة المتساوية أركانها وشروطها إلا في دولة ديمقراطية من جانب، ومحايدة تجاه الأديان والمذاهب والمعتقدات من جانب آخر. ولذلك، لا بدّ أن تقوم الدولة السورية القادمة على قيم المواطنة المتساوية بين جميع السوريين، بغض النظر عن جنسهم ودينهم وقوميتهم وانتماءاتهم الأخرى”.
والمواطنة حالة سياسية قانونية ثقافية، يؤسس لها الدستور وتنظمها القوانين وترعاها القيم، ويشترط لتحققها ثلاث مسائل هي: اكتساب جنسية؛ التمتع بالحقوق والالتزام بالواجبات المترتبة عن اكتساب هذه الجنسية؛ المشاركة في الحياة العامة.
والعلاقة بين الجندر والمواطنة بيّنة ظاهرة؛ إذ يجب التأكيد أن المواطنة تكون منقوصة، إن لم تتحقق للمواطنين “رجالًا ونساءً”، وبشكل كامل، مسألة واحدة من هذه المسائل الثلاث، وتكون منقوصة إن كان في البلاد مواطنون، رجالٌ ونساءٌ، محرومين من جنسيتها، أو إن لم يكن مبدأ التساوي، “بين الرجال والنساء تحديدًا”، أمام القانون محقّقًا، أو إن كانت المشاركة الاجتماعية “للرجال والنساء” غير متاحة.
ولقد حظيت المواطنة، وقضاياها، بكثير من الاهتمام، منذ انطلاقة الربيع العربي في مختلف دول العالم العربي. وهذا ما يؤكده الكم الهائل من الوثائق التي تتناولها. لكن الواقع أن قراءة تلك الوثائق لا توفّر فرصة حقيقية لفهم المواطنة، ولا لمعرفة العلاقة الرابطة بينها وبين القضايا ذات العلاقة بها. وهذا ما زاد من حالة العوز التي تعانيها المواطنة في العالم العربي، وكرّس الفصل القائم بين المصطلح ودلالته الحقيقية، ليزيد أكثر فأكثر في الفوضى الدلالية التي كان يعانيها أصلًا. وهذا ما أوجد ضرورة ملّحة لأن تقوم كلُّ جهة معنية بالمواطنة وتسعى وتجتهد من أجل تحقيقها، بالتصدّي لهذه المسؤولية. وذلك من خلال تعريف المواطنة، ومبادئها، وقيمها، وأهم قضاياها، وأن تقدّم منهجًا علميًا لنقل هذه المعرفة، من خلال القراءة الفردية أو العمل الجماعي، كما فعل العديد من المنظمات والمراكز البحثية، ومنها مركز حرمون.
إن التعريف الأشمل لمفهوم المواطنة، كما جاء في دليل المواطنة للرابطة السورية للمواطنة 2016، هو أنها: “وضع يميز العلاقات القائمة بين المواطن، من جهة، والدولة (أو المؤسسات)، والمجتمع (أو المواطنين الآخرين)، والفضاء (أو مجال العيش المشترك) من جهة أخرى. وهو وضع يقوم على مبادئ راسخة هي: المسؤولية والحرية والتشاركية والمساواة، ويفترض عددًا من القيم المواطنية، أهمها: الكياسة (الآداب العامة)، والتضامن، والوعي المدني والإنسانية”.
وتنطلق العلاقة بين الجندر والمواطنة من مبادئ المواطنة (المشاركة والحرية والمسؤولية والمساواة) التي تُجمَع، كما رأينا، في الجملة المختصرة التعريفية التالية: “المواطنة هي المشاركة الحُرّة للأفراد المسؤولين المتساوين”. ولا تتحقق المواطنة في دولة تنتقص أيّ مبدأ من تلك المبادئ، وهناك العديد من الدول تنتقص من معظم هذه المبادئ أو من بعضها.
ومن خلال التحليل الجندري لفرص المشاركة بين النساء والرجال، يتبيّن أن هناك معوقات قانونية واجتماعية تجاه النساء، تتجلّى في التمييز في التشريعات، وفي هيمنة صور نمطية لأدوار كل من النساء والرجال، مبنية على ما تكرّس اجتماعيًا بفعل الأعراف والعادات والتقاليد. وهذه المعوقات لا تسمح بتحقيق إمكانية مشاركة النساء بكامل طاقاتهن، ابتداءً من المجتمع المحلّي الذي يختاره المواطن مكانًا لسكنه، أو من فضاء العمل الذي يتمكن من تحصيله، حتى أرفع المناصب في مؤسسات السلطات التشريعية أو التنفيذية أو القضائية في الدولة.
وكذلك يُبيّن التحليل الجندري أن مبدأ الحرية، فضلًا عن كونه منقوصًا ومقيِّدًا أصلًا للمواطنين “نساءً ورجالًا”، يبقى بعيدًا عن التحقق في العديد من المجالات المرتبطة بحرية النساء، في الدول التي تتضمن قوانينها تقييدًا لحرية المرأة في التنقل وفي اختيار الزوج وفي الطلاق، وفي غيرها من مواد قانونية وأعراف اجتماعية مهيمنة.
أما في ما يخص مبدأ المسؤولية ومدى تحققه، فيُظهِر التحليل الجندري أن الأدوار النمطية، لكلٍّ من الرجل والمرأة، تحرم النساءَ من السلطة على الذات (أن يكون الإنسان سيّد نفسه ومصيره)؛ فالنساء لا يتحكّمن في حيواتهن، ولذلك يُحرمن من الدرجة الأولى من المسؤولية. وهذا ما نجده في تشريعات دول ما زالت تستند في نصوص قوانينها على مبدأ الولاية الأبوية الذكورية، أو تتسامح مع القتل تحت مسمى “جرائم الشرف”. وهذا ما نجده كذلك في ندرة فرص وصول النساء إلى مراكز صنع القرار، نتيجة لحرمانهن من التعليم ولتزويجهن مبكرًا ولعدم تمكينهن من مهارات عملية تتيح لهن إمكانيات الدخول لسوق العمل، مما يجعل نسبة كبيرة من نصف المجتمع معطلة، نتيجة لنظام الدول التي تتخلى عن مسؤولياتها تجاه مواطنيها “نساءً ورجالًا”، وتحيلها إلى المراجع الشرعية.
التمييز ضد المرأة من منظور جندري:
تُعرِّف اتفاقية إلغاء جميع أشكال التمييز ضد المرأة “SEDAW” التمييزَ، في المادة الأولى منها، على الشكل التالي: يعني مصطلح “التمييز ضد المرأة” أي تفرقةٍ أو استعباد أو تقييد يتم على أساس الجنس، ويكون من آثاره أو أغراضه النيل من الاعتراف للمرأة على أساس تساوي الرجل والمرأة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية، في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية أو في أي ميدان آخر، أو إبطال الاعتراف للمرأة بهذه الحقوق، أو تمتعها بها أو ممارستها لها، بغض النظر عن حالتها الزوجية”[1].
ومن أجل تحقيق المواطنة في بلدٍ ما، لا بدّ من إلغاء جميع أشكال التمييز القانوني ضدّ المرأة، والذي نرى أكبر تجلياته في قوانين الأحوال الشخصية التي تعود مرجعيتها إلى التعاليم الدينية[2]، وتعتمد مبدأ القوامة وولاية ذكور العائلة على إناثها، مما يعني انتقاصًا لحقوق النساء وتبعيتهن المطلقة لذكور العائلة.
لذلك لا بدّ من إيجاد سياسات تضمن سد الفجوات الجندرية بين النساء والرجال، لأن مصير عملية التنمية بعامة، وتنمية النساء خاصة، متوقف على وضع هذه السياسات وتنفيذها، فهي التي تضمن المساواة للنساء، وتضمن حقهن في إدارة شؤونهن، في المجالات كافة، وتخلق بيئة تمكينية لهن، وتعزز مساهماتهن المثمنة في عملية التنمية الشاملة والمستدامة، وذلك انطلاقًا من الترابط بين تطوّر مكانة النساء في الأسرة وتطور مشاركتهن في الحياة العامة، وتطور مؤشرات التطور والتنمية في البلاد على الصعد كافة.
ختامًا، إنّ قضايا وحقوق الإنسان، ومنها حقوق المرأة، هي شأنٌ اجتماعي وسياسي واقتصادي وثقافي، ولا يمكن تحقيق الديمقراطية ودولة المواطنة واستدامة التنمية الشاملة، ما لم نأخذ هذه القضايا كأساس في تطلعنا إلى سورية المستقبل. ولكون هذه الوثيقة هي ورقة حيّة وقابلة للتطوير والبناء على المستجدات الفكرية والمعرفية؛ فإنني أقترح إضافة ما ورد في ورقتي، عن ربط المواطنة بمبادئها الأربعة بحقوق الإنسان (نساء ورجالًا)، وربط المواطنة بالمنظور الجندري أيضًا، سعيًا لأن يصبح هذا المشروع مرجعية لنا وللأجيال القادمة.
وأقترح التعديلات التالية على نصّ المشروع، بما يتعلق بمفهوم المواطنة:
“المواطنة المستوفية لمبادئها وقيمها هي حجر الأساس في بناء وتعزيز شعور الفرد بانتمائه إلى وطنه، وفي بناء الهوية الوطنية الجامعة، وهي الإطار الأمثل لمعالجة قضايا التنوع الثقافي القومي والديني والجنسي والمناطقي في سورية، فضلًا عن كونها العنصر الأهم في معالجة هذه الحالة المتقدمة من التمزق المجتمعي التي وصلنا إليها.
ولا تتحقق المواطنة إلا في دولة ديمقراطية من جانب، ومحايدة تجاه الأديان والمذاهب والمعتقدات من جانب آخر. ولذلك، لا بدّ أن تقوم الدولة السورية القادمة على مبادئ وقيم المواطنة بين جميع السوريين والسوريات، بغضّ النظر عن جنسهم ودينهم وقوميتهم وانتماءاتهم الأخرى. وينبغي لنا اعتبار المواطنة البوصلة لرسم مسار سوريتنا التي نسعى لها ونحلم بها، لأننا محكومون بالأمل، كما قال سعد الله ونوس.
[1]– اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة وعرضتها للتوقيع والتصديق والانضمام بقرارها 34 / 180 المؤرخ في 18 كانون الأول/ ديسمبر 1979
تاريخ بدء النفاذ: 3 أيلول/ سبتمبر 1981، طبقا لأحكام المادة 27 (1)
[2]– وهذا ما نجده في دولٍ مثل سورية ولبنان، إذ يحكم العلاقات الأسرية في لبنان 17 قانونًا للأحوال الشخصية للطوائف، ويحكمها في سورية 7 قوانين، وفي بلدان أخرى قانون أحوال شخصية واحد مرجعيته إسلامية.