مقدمة
قام مركز حرمون للدراسات المعاصرة بمحاولة، هدفها الأساسي، كما ورد في مقدمة مشروع “نحو وثيقة توافقات وطنية”، المساهمة في الخروج من حالة العجز التي أصابت الطيف السوري المعارض، بأفراده ومجموعاته وهيئاته، عبر إطلاق حوار وطني موسّع حول توافقات وطنية عامة، تم التوصل إليها بعد حوارات وندوات امتدت لما يزيد على سنة، وشارك فيها عدد كبير من السوريين، واعتمدت منهجية جديدة تختلف عن الآليات السابقة في انتاج الوثائق السورية أو الرؤى التي أنتجها السوريون بعد انفجار الثورة السورية.
تتلخص المنهجية الجديدة في الابتعاد عن الشكل التقليدي السائد، والمتلخص بقيام جهة سياسية ما بإصدار وثائق وأدبيات تمثّلها، وبالتالي فهي وثائق تمثل هذه الجهة أساسًا. لكن المقاربة الجديدة اختارت طريقة أخرى تمثلت بمشاركة عدد كبير من السوريين متعددي التوجهات والآراء والمدارس السياسية أو الفكرية وأكاديميين ومؤثرين لإنتاج هذه الوثائق. وبالتالي يمكن القول إن ما قام به مركز حرمون يفترض به أن يمثّل طيفًا سوريًّا أكبر بكثير ممّا تمثله وثائق أخرى.
ربما كان باستطاعة مركز حرمون أن يدرس معظم الوثائق الصادرة عن مختلف القوى والتجمعات السورية، وأن يستخلص التوافقات الأهم؛ لكن من الممكن أن تكون لهذه الطريقة مساوئ عدة، لعلّ أهمها أن قسمًا كبيرًا من الوثائق قد أُنجز في ظلّ ظروف مختلفة عن الظروف الراهنة وعمّا وصلت إليه القضية السورية اليوم، وأن الوثائق المنتجة سابقًا لا تعكس بالضرورة حقيقة المجموعة التي أنتجتها؛ فغالبًا ما تُنتج الوثائق بالتوافق أو بإملاء أطراف قد تكون الأقوى، داخل هذا التجمع أو ذاك. هذه الثغرات وغيرها استطاعت وثيقة مركز حرمون أن تتلافاها، عندما دعت أشخاصًا بصفتهم الشخصية، وفتحت حوارًا بين أشخاص مختلفين في الرؤى وفي المرجعيات الثقافية أو السياسية، ويمثلون ما أمكن تنوّع الطيف السوري؛ وهذه نقطة تحسب لمركز حرمون.
نقطة أخرى أيضًا تُحسَب للمركز، وهي طريقة استخلاص نتائج أو توافقات 26 ندوة، شارك فيها 186 شخصية سورية، بعناوين مختلفة، مع ما يعنيه هذا من تقاطعات بين عدة محاور، وما تحتاجه هذه التقاطعات من جهد لاستخلاص التوافقات الأساسية فيها، ومن ثم صياغتها في وثيقةٍ تعكس وجهات النظر المطروحة قدر الإمكان. والأهم من هذا هو أن من قاموا باستخلاص نتائج الحوار كانوا محايدين، إلى حد كبير، إزاء الآراء التي بين أيديهم، رغم أنهم يختلفون مع أفكار عديدة وردت في وثيقة المشروع؛ وهذا ما قد تفتقده الوثائق الأخرى.
بعد الانتهاء من صياغة وثيقة “نحو توافقات وطنية”، قام المركز بإطلاق الوثيقة وطرحها للنقاش العام. وقد تابعتُ معظم الندوات التي ناقشتْ هذه الوثيقة، إن لم يكن كلّها. ما أريد الكتابة عنه ليس محتوى الوثيقة، (فأنا من المتبنين لما جاء فيها، وأعرف أن كتابات كثيرة ستركز حول محتواها، وهي متاحة لمن يريد، وكذلك معظم الندوات التي أجريت يمكن الحصول على تسجيل لها)، إنما أريد الكتابة عن منهجية الحوار الذي أعقب إطلاق الوثيقة، وكيفية التعاطي معها؛ وهذا ما أراه أمرًا بالغ الأهمية. فليس المهم أن ننتج وثائق بليغة ومحكمة، إنما المهم هو ماذا تفعله هذه الوثائق، وكيف يمكن لها أن تؤسس لفعل سياسي ما، أو تعزز من فهم أو رؤية يحتاج إليها السوريون في لحظتهم الراهنة أو في المستقبل المنظور لسورية.
حول عقم الحوارات السورية
أتمنى أن أكون متجنّيًا ومخطئًا، عندما أقول إن السمة العامة الأساسية، في كلّ الحوارات السورية التي أعقبت ولادة الثورة السورية، تتلخص باللاجدوى أو العقم، وذلك ليس على صعيد طرح الأفكار العامة والتصور النظري للمستقبل أو رسم الحلول المتخيلة قياسًا إلى هذه التجارب والثقافات أو تلك، بل على صعيد فعل هذه الحوارات في السوريين ومدى مساهمتها في تقارب أفكارهم أو توافقها. غالبًا ما يمكن وصف الحوارات السورية بأنها معارك مثاقفة محتدمة لا تبحث عن حاجة اللحظة السورية، ولا تبحث في عمق الخصوصية السورية وتفاصيل الظرف السوري وسيرورة متغيراته وتبدّل القوى الفاعلة فيه. فالمفردات والمصطلحات التي اختلف عليها السوريون منذ عام 2011 لا تزال هي نفسها، والحوارات التي جرت في عامي 2011 و2012 لا تختلف كثيرًا عمّا يجري بعد أكثر من عشر سنوات، بل لعلّها متطابقة معه في قسمها الأكبر، فالسوريون لا يتحاورون من أجل توسيع وتعميق رؤيتهم واختيار المقاربات الأكثر نجاعة، إنما يتحاورون كي يُثبتوا صحة رؤيتهم وخطأ من يخالفها!
أكثر ما يصف الحوار السوري اليوم هو ما يُسمّى “الجدل البيزنطي Byzantine discussion “؛ ففي القرن الخامس عشر الميلادي، عندما حاصر جنود السلطان العثماني محمد الثاني (محمد الفاتح) مدينة “القسطنطينية”، وفي الوقت الذي كان مصير الإمبراطورية بأكملها مهددًا، كان مجلس شيوخ المدينة منشغلًا بالنقاش حول أمور دينية ولاهوتية لا طائل منها، مثل جنس الملائكة (هل هم ذكور أم إناث). لم تنته مناقشة جنس الملائكة حتى هذه اللحظة، لكن الجنود العثمانيين اقتحموا أسوار بيزنطة في ذلك الحين.
أهم صفات الحوار السوري
- غالبًا ما يذهب السوريون إلى حواراتهم مدجّجين بمواقف مسبقة، تحددها معايير لا علاقة لها بالحوار، ولا تخدمه، بل تفخخه في أغلب الحالات. والمعيار الأساسي الذي يعتمده معظم السوريين هو أسماء المشاركين، أو الجهة التي أصدرت الوثيقة، وليس محتوى الوثيقة. لا أعتبر هنا أن الجهة المصدرة لوثيقة ما، أو الأسماء المشاركة بلا أهمية، لكن الأهمّية الأساس تكمن في المحتوى، هذه المواقف المسبقة لا تشمل الحوارات فقط، بل تشمل معظم العمل الجمعي السوري، سواء أكان سياسيًا أم ثقافيًا أم مدنيًا أم حتى عسكريًا.
- غالبًا ما يتخذ المتحاورون هذه العصبية أو تلك مرجعًا لهم، عصبية متولدة عن “هويات” ثقافية أو سياسية أو دينية أو مذهبية أو طائفية وربما مناطقية و..و.. الخ. هذه العصبيّات لا يمكنها أن تكون محايدة، والاختلاف برأيها ليس مشروعًا، ويجب فهمه وتفهّمه وتبنّيه، إن كان صائبًا، بل هو في رأيها تحدٍّ وتهديدٌ يجب التصدي له.
- غياب وعي ضرورة تحديد الأولويات كمقدّمة لأيّ فعل، وضرورة إعادة ترتيبها ودرجة أهميتها وفق متطلبات كل مرحلة. فالقضايا التي ليس لها حضور مهمّ اليوم -فضلًا عن كونها مرهونة بشروط أخرى مستقبلية- يمكن أن تنسف اتفاقًا كاملًا حول قضايا راهنة ملحّة. وتجارب السوريين متخمة بأمثلة كثيرة عن “حوارات بيزنطية ” أفشلت مشاريع كثيرة، ولا تزال.
- غالبًا ما يذهب السوريون إلى البحث عن التوافقات الكاملة فقط، أو عن التطابق التام. ويكفي أن يختلف المتحاورون في خمسة بالمئة من القضايا المطروحة، كي ينسفوا الـ 95% المتفق عليها. هنا أيضًا لدى السوريين أمثلة كثيرة على عبارات أو صياغات لا أهمية راهنة لها، فجّرت لقاءات أو توافقات كثيرة، كالاختلاف حول الجمهورية السورية أو الجمهورية العربية السورية، مثلًا.
- ربما يتسبّب غياب القدرة على الفعل، وتلمّس نتائجه على الأرض، في تسيد هذا النمط من الحوار. فالشرائح التي تخوض هذه الحوارات هي، في معظمها، معزولة وعاجزة؛ ولهذا تستغرق في نقاش المفترض أو المتخيل. ففي غياب القدرة على الفعل، تغيب أهمية ترتيب الأولويات، فتصبح الحوارات نظرية، ويغلب عليها التثاقف والمماحكة.
- انعكس الغياب الطويل للحياة السياسية والثقافية الحقيقية في سورية على علاقة النخب السورية بأساسيات الثقافة والسياسة والفكر، وخصوصًا في علاقة الثقافة والسياسة بالواقع. ولهذا يغلب في حوارات السوريين استحضار ثقافات مجتمعات أخرى وتجاربها السياسية، وهذا ما يؤدي إلى ضبابية الأفكار الأساسية التي لا بدّ من اتضاحها كي يتخذ الحوار دروبه المنطقية. بعبارة أخرى: إن غياب المحددات المعيارية لمجتمعٍ ما يؤدي إلى تبعثر الحوار وتغييب ركائزه الأهم. ربما كانت المرحلة التي نعيشها الآن (منذ بداية الثورة السورية) هي الفترة الأفضل لاستعادة النخب السورية لعلاقتها بالواقع، لكنها مع الأسف لم تستطع -بقسمها الأعم الأغلب- الخروج من معضلة اغترابها عن واقعها.
- قياس الأفكار المطروحة على مقاييس خارجية كتجارب الشعوب الأخرى، وما تنتجه الثقافات الأخرى، وعدم محاولة قياسها على معطيات الواقع السوري. وهذا ما يتجلى بوضوح في نقاش النقاط الخلافية الأساسية التي تبرز في معظم حوارات السوريين، حول العلمانية وشكل الدولة، هل هي مركزية أم لامركزية، وحدود اللامركزية وشروطها…
هذه الصفات -وغيرها- مجتمعة تجعل من أي حوار سوري بلا أي جدوى، وبلا أي قدرة على التأسيس لفعل جمعي بالغ الضرورة والأهمية.
قد يلاحظ أيّ متابع وجود الصفات السابقة كلّها، بهذا الشكل أو ذاك، في الحوار الدائر اليوم حول وثيقة التوافقات الوطنية التي نناقشها في هذا المقال. وقد يبدو هذا الرأي متطرّفًا؛ لكن، حتى إذا جاز لنا تكثيف النقاط الأكثر إثارة للجدل كـ (علاقة الدين بالسياسة والدولة، والعلمانية، وشكل نظام الحكم، وشكل الدولة)، وهي ليست راهنة على الرغم من أهميتها، كما أن وضع تصور نهائي لها أو اختيار أنسبها مرهون بصيغة الحل السياسي، وبمدى استعادة السوريين لشرط حياة آمنة في ظل هذا الحل السياسي المنتظر، لكن هذا لا يعني عدم مقاربتها واستبيان آراء السوريين حولها -وهذا ما فعلته الوثيقة- لكن التخندق حول تفاصيلها الآن لن يكون مجديًا. وعلى الرغم من أن مركز حرمون أوضح بجلاء أن الوثيقة هي محاولة للدفع نحو إنتاج توافقات وطنية تمثل أوسع طيف سوري، وبالتالي فإن الهدف الأساسي من الحوار الذي أطلقه المركز هو إغناء الوثيقة وتصويبها أو تعديلها بحيث تكون أكثر تعبيرًا عن آراء السوريين، وبالتالي أكثر قدرة على رفد التجمعات السياسية أو الجهات الثقافية أو البحثية في عملها.
كان من المهمّ أن يُطلق الحوار منذ البداية بهدف أساسي هو المساهمة في الإجابة عن أسئلة رئيسية تحتاجها الوثيقة من بينها: كيف يمكن تطوير هذه الوثيقة وإشراك أوسع عدد من السوريين فيها بغض النظر عن تصنيفاتهم؟ وكيف يمكن أن نستفيد منها كأفراد أو كتجمعات سياسية؟ وما هي الأولويات التي يتوجب على السوريين الاهتمام بها بغية التأسيس لمرحلة الانتقال السياسي؟ وما هي الأولويات في مرحلة الانتقال السياسي، وما بعد الانتقال السياسي؟.
إن زجّ الوثيقة في تفاصيل لا سبيل إلى الإجابة عنها الآن يعني إدخالها في جدل بيزنطي لا طائل منه. فلا يمكن مثلًا وضع تفاصيل العدالة الانتقالية التي تحتاجها سورية، لأن هذه التفاصيل مرهونة بالظرف الذي ستكون عليه سورية بعد الانتقال السياسي. إن ما تستطيعه الوثيقة أو أي وثيقة أخرى، هو تبني العدالة الانتقالية كخطوة لا بد منها من أجل تعافي المجتمع السوري، لكنها بالتأكيد عاجزة عن وضع تفاصيل إجراءات هذه العدالة. هذا ما يصحّ أيضًا على شكل الدولة، وعلى نظام الحكم، وعلى نقاط كثيرة غيرها. بعبارة أخرى: إن الوثيقة مطالبة بوضع التصورات العامة للقضايا التي يحتاجها السوريون، كما يراها المشاركون في الحوارات. أمّا تجسيد هذه التصورات والعمل عليها، فهو من مهمة الأحزاب السياسية أو المشتغلين في السياسة.
من معظم الحوارات التي تابعتها (خلال المناقشات المتصلة بهذه الوثيقة، أو بغيرها)، يمكنني القول إن أكثر المحاور حرارة في هذه الحوارات هي ثلاثة محاور، وهي غالبًا ما تؤدي إلى تفجير معظم الحوارات: العلمانية، القضية الكردية، الطائفية. وسأجازف بالقول إنّ معظم الآراء حول هذه النقاط الساخنة تكون انعكاسًا لعصبية منفعلة أو لميل نحو شعبوية ما.
إن العقلانية في التعامل مع هذه “المحاور الساخنة” تتطلب الفهم الموضوعي المحايد لها أولًا، ومقاربتها بمسؤولية وفق متطلبات الراهن السوري بحياد وموضوعية ثانيًا، ولا سيما أن هذه المحاور الثلاثة هي الأكثر استغلالًا من جانب الشعبويين والطائفيين وغيرهم.
إن مشروع وثيقة “نحو توافقات وطنية” الذي أطلقه مركز حرمون يجب أن يحظى باهتمام النخب السورية، وباهتمام التجمعات والقوى السياسية، وأن يشكل خطوة مهمة في إطلاق حوار وطني واسع عقلاني مسؤول، قد يُفضي إلى صيغة فعل سياسي نحتاجه اليوم بإلحاح، لكننا سنحتاج إلى وثيقة أخرى ليست من مهمات مركز أبحاث، بل هي من مهمات القوى السياسية. إنها وثيقة مبادئ عامة، أو مدونة سلوك، تنظم علاقات هذه القوى، وتتم صياغتها على ضوء التوافقات الوطنية.