كانت الثورة عبر التاريخ تطفو على السطح، كظاهرة إنسانية، كلما جنحت النظم السياسية عن إطار مشروعيتها ومالت إلى الاستبداد والدكتاتورية. لكننا لا نستطيع إطلاق صفة ثورة على عموم الانتفاضات الشعبية الكبرى عبر التاريخ، خاصة إذا لم تستطع التأسيس لمتغيرات تعيد رسم خارطة موازين القوى في المجتمع، وفق رؤية جديدة على الجانب السياسي، ونقلة عميقة على الجانب الاقتصادي الاجتماعي والمعرفي، تؤدي إلى تفعيل دور الشعب في هذه الثورة وتقرر تقدمه([1]).

وقد شهدت بلادنا في العصر الحديث مجموعة من الثورات، كان أبرزها ما سمّي “الثورة العربية الكبرى”، تبعتها ثورات أخرى، حتى وصلنا اليوم إلى ما سمي “ثورات الربيع العربي”، وإذا قيل: “إن من يصنع نصف ثورة يحفر قبره بيديه”، يبرز السؤال: كيف تسلم الثورة من الخديعة؟ وماذا يحدث إذا لم تستطع أن تصل إلى مبتغاها؟ هذا ما تحاول الورقة الإجابة عنه، عبر دراسة النقاط التالية:

الثورة العربية الكبرى وخدعة القرن:

مثَّل دخول تركيا إلى جانب ألمانيا في الحرب الأولى عام 1914 خطرًا كبيرًا على المصالح البريطانية، وكان ذلك واضحًا من خلال مذكرة استراتيجية أعدّتها الدائرة السياسية البريطانية في وزارة الهند قائلة: “إن المخاطر تتمثل في الخوف من ثورة المسلمين في مصر والهند ضد الوجود البريطاني، وإحياء فكرة الوحدة الإسلامية مجددًا”([2])، وقد أوصت تلك المذكرة بقطع دابر تلك المخاطر، عبر إضعاف الحكومة المنظمة الوحيدة القادرة على إعطاء زخم فكرة الوحدة الإسلامية آنذاك، وهي الحكومة التركية. وبدأ الإنكليز بمراسلة شريف مكة وتشجعيه على الثورة ضد السيطرة العثمانية في الحجاز، واعدين إياه بمنصب الخلافة. وأرسل المندوب السامي البريطاني في مصر (مكماهون) رسالة تحريضية قائلًا: “إن جلالة ملك بريطانيا العظمى يرحب باسترداد الخلافة إلى يد عربي صميم من فروع تلك الدوحة النبوية المباركة”. واستجاب الشريف حسين لإغراءات مكماهون، الذي أرسل إلى وزارة الخارجية في لندن في 14 آب/ أغسطس 1916، يقول: “إن لدينا فرصة فريدة، قد لا تسنح مرة أخرى، في أن نؤمن بواسطة الشريف حسين نفوذًا مهمًا على الرأي العام الإسلامي والسياسة الإسلامية وربما نوعًا من السيطرة عليهما”[3].

بدأت الثّورة في مكّة المكرّمة، تحت زعامة الشريف حسين، واشترك فيها مثقفو العرب ساعين إلى استقلال الولايات العربيّة بأجمعها، و”قيل إنّ العامل الاقتصاديّ الحجازيّ، وخاصّة مسألة التّموين والحجّ، كانت من الحوافز القوّيّة الّتي حفّزت الحسين على خطوته الخطيرة، واتّفاقه مع الإنكليز على الثّورة. كما قيل إنّ الطّموح الشّخصيّ الأصيل فيه، كان الدّافع له عليها. وقيل إنّ مما دفعه عليها حسبانه عواقب التّشادّ الّذي قام بينه وبين الوالي الاتحادي”([4]). وقد أحسّ كثير من المثقفين العرب أنّ الشّريف حسين كانت له غايات مختلفة عن الغايات الّتي شارك لأجلها أحرار العرب في الثّورة([5])، وعندما عرفوا باتفاقية سايكس بيكو([6])، الّتي عُقدت في 16 أيار/ مايو 1916، قبل حوالي شهر من إعلان الحسين الثّورة، وذلك بعد قيام الثورة البلشفية بالكشف عنها عام 1917م، ثم صُعقوا بوعد بلفور في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1917، الّذي أعطى حقًّا لليهود في فلسطين، وكانوا قد أحسّوا أنّ الشّريف حسين لم يحفظ حقّ العرب، لأنّه استهتر بمعاملته ومباحثاته مع الإنكليز، وحسب أنّ مراسلاته معهم هي معاهدات تضمن للعرب حقوقهم، كلّ ذلك وغيره أدّى إلى انسحاب كثير منهم من الصف المؤيد للثورة إلى الجانب الآخر المنتقد لها، أو الساعي لترميم ما يمكن ترميمه من تداعياتها.

عاش الشريف حسين أحلامًا وردية، مصدقًا أن بريطانيا سوف تمنحه الجزيرة والعراق والشام وفلسطين. حتى إن نجله الأمير فيصل قال له: “ماذا ستفعل، إذا افترضنا أن بريطانيا العظمى لم تنفذ الاتفاق في العراق؟”، فاحتد عليه الشريف حسين قائلًا: “ألا تعرف بريطانيا العظمى! إن ثقتي بها مطلقة!”[7]. وعندما بلغته أنباء سايكس-بيكو، أخذ يستفسر عن الأمر بين البريطانيين، فأبرق وينغت المندوب السامي البريطاني إلى وزارة الخارجية في 16 حزيران/ يونيو 1918 قائلًا: “إن ملك الحجاز أرسل برقية شديدة اللهجة إلى وكيله موعزًا إليه بالقيام بتحقيقات عن الاتفاق البريطاني الفرنسي ونطاقه. ولا بد أن تتذكر أن الملك لم يبلغ قط باتفاقية سايكس بيكو بصورة رسمية. ونصحت الوكيل أن يقول: إن البلاشفة وجدوا في وزارة خارجية بتروغراد سجلًا لمحادثات قديمة وتفاهم مؤقت، وليس معاهدة رسمية بين بريطانيا وفرنسا وروسيا”([8]). وقد صدّق الشريف حسين كل هذه التبريرات بكل سذاجة، بل إنه هنأهم على سيطرتهم على القدس قائلًا: إن هذا النبأ يستلزم “الفخر العظيم”، ظنًا منه أن المدينة ستدخل ضمن نطاق حكمه.

عقب انتهاء الثورة والحرب الأولى، تم تفعيل اتفاقية سايكس-بيكو، واحتلت الجيوش الفرنسية سورية، وطُرد منها نجله الأمير فيصل. بينما فرضت بريطانيا شروط انتدابها على فلسطين، وبدأت توطين اليهود. وعندما امتنع الشريف حسين عن توقيع معاهدة فرساي، تخلت عنه بريطانيا نهائيًا، ودعمت أمير نجد عبد العزيز آل سعود الذي اجتاح الحجاز عام 1924. بينما أُجبر الشريف حسين على العيش في منفاه في قبرص. وبذلك تحققت استراتيجية بريطانيا التي عبّر عنها مدير الاستخبارات العسكرية البريطانية في فترة مبكرة عام 1916 قائلًا: “إن هدف الشريف حسين هو تأسيس خلافة لنفسه… نشاطه يتماشى مع أهدافنا الآنية: وهي تفتيت الكتلة الإسلامية ودحر الإمبراطورية العثمانية وتمزيقها.. إن العرب هم أقل استقرارًا من الأتراك، وإذا عولج أمرهم بصورة صحيحة، فإنهم يبقون في حالة من الفسيفساء السياسية مجموعة دويلات صغيرة متناحرة فيما بينها غير قادرة على التماسك… وإذا تمكنّا فقط من أن ندبر هذا التغيير السياسي، فسنكون قد اتقينا خطر الإسلام بجعله منقسمًا على نفسه([9]).

كان الشريف حسين راغبًا في الحصول على مجدٍ له من بريطانيا، كي يكون خليفة للعرب بوصفه هاشميًا، وبرغبته وبرغبة الشعب العربي حينذاك في التخلص من حالة الجهل والتخلف التي فرضها الوجود العثماني على بلادنا العربية في أواخر حكمه، باحثًا عن الديمقراطية بمعناها الضيق المتمثل بشخص الشريف حسين العربي، ذي الحسب الطاهر والنسب الفاخر، سليل مهبط الوحي المحمدي الشريف ابن الشريف أمير مكة المعظم. هكذا كان يدعوه مكماهون، في كل رسالة يوجهها له أثناء فترة التحضير للثورة العربية الكبرى. لقد كانت الثورة العربية الكبرى حقًا خدعة القرن، حيث نقلت بريطانيا وفرنسا بلادنا العربية من احتلال إلى احتلال، وفتحت الباب على مصراعيه للإمبريالية الاستعمارية وأذنابها لتسيطر على بلادنا، وتفرغها من النخب، وتحولها إلى مجرد سوق لتصريف البضائع.. مع تركها فريسة للجهل والفقر والفساد والاستعمار الصهيوني الوظيفي المزروع في قلب المنطقة. والمشكلة أن زعماءنا لا يتعلمون من أخطائهم ولا من أخطاء غيرهم، فهم لا يقرؤون التاريخ، وإن قرؤوه استوعبوا عِبره بشكل خاطئ.

ثورات الربيع العربي الحتمية التاريخية وسبب التسمية:

إذا أردنا فهم واقع الربيع العربي، فعلينا العودة إلى التاريخ، الذي يخبرنا أن الثورة لا تقوم بين ليلة وضحاها، بل هي سيرورة تدخل في منعرجات ومنعطفات بطريقة حلزونية تتقدم أحيانًا وتتراجع أخرى… والثورات العربية هي فعل في الزمن، بمعنى أن نقطة اللاعودة انتهت، والانفجار حصل، والفساد الذي صنعه الاستبداد انهار وانتهى([10]). وبحسب عبد الرحمن الكواكبي: فإن “تراكم الثروات المفرطة مولد للاستبداد ومضرّ بأخلاق الأفراد. والاستبداد أصل لكل فساد، لذلك الشورى الدستورية هي دواؤه”([11]). و”الشورى الدستورية” أو “الديمقراطية” كانت المطلب الأساس الذي نادت به ثورات الربيع العربي التي لم تأت تسميتها من فراغ، بل أسوة بربيع أوروبا لا أسوة بالثورة الفرنسية، التي لم تنجب ديمقراطية مباشرة، بل تلتها مرحلة اليعاقبة والملكية، ثم جاءت ثورات عام 1848 حيث نضجت معها فكرة الديمقراطية، وصارت البيئة الاجتماعية الأوروبية مهيأة تمامًا لاستقبال تلك الفكرة.

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل كانت بلادنا العربية مهيأة منذ عشر سنوات لهذا الربيع الثوري؟! وهل كانت حالتها مشابهة لتلك الواقعة في أوروبا عام 1848؟ من الصعب على المرء أن يجزم بوجود التقارب الحاصل بين الحالتين على كل الصعد، لكن يمكن القول إنها مرحلة تراكمية، على قاعدة كل تراكم كمي يؤدي إلى تحول نوعي، أو بشكل أدق عملية تحقيب تاريخي ناجمة عن متلازمة تحول وانتقال ديمقراطي للسلطة، تحتاج إلى تربة خصبة لزراعة جديدة وبناء جديد، لا تقوم له قائمة إلا من خلال درجة وعي ونضج كبيرين، قادرة على استيعاب أهمية نتاج المرحلة الجديدة، وهنا يتوقف كانط ليعتبرها مرحلة انتقالية أي جسر عبور من ضفة إلى أخرى، لا لإنتاج الإنسان ذاته بل من أجل إنتاج إنسان آخر مختلف([12]).

إذًا، فترة تطور الوعي ليست قصيرة، فما بين جمهورية أفلاطون والعقد الاجتماعي لجان جاك روسو، نحو ألفي عام. وإذا أردنا أن نبني نظرية تاريخية عما جرى خلال السنوات العشر من عمر الربيع الثوري العربي، يمكننا القول إنها الأكثر نضوجًا، مقارنة بما جرى ويجري بشرق آسيا روسيا الصين يوغسلافيا وغيرها من أخواتها الأخريات في دول مختلفة. لذلك لا بد من وضعها ضمن فترة تحقيب تاريخي للوصول إلى نتائج مرجوة، بشكل يليق بها كمرحلة تاريخية يذكرها التاريخ كحقيقة معاصرة لا كثورة فحسب.

دور المثقف العربي في الربيع الحاصل:

كلما كان المثقف النوعي والثوري مدركًا لضرورة الخطاب الجماهيري، سياسيًا وتاريخيًا وثوريًا، وبثه في شعبه؛ كان قادرًا على إنارة الطريق للمضي قدمًا نحو مجتمع أفضل، أما المثقف الذي لا يدرك ماهية بث الوعي في قومه فعليه التزام الصمت، لأن عمله سيكون أشبه بفعل الدكتاتور([13]). إن المتتبع لجدلية العبد والسيد عند هيغل، التي تترجم من الألمانية (Herrschaft und Knechtschaft) حرفيًا إلى الهيمنة والاستعباد، يجد شرحًا لطريقة تطور الوعي الذاتي عند الإنسان بطريقة سردية، هنا الإنسان يواجه وعيين ذاتيين، ويتحدث عن شخصين بعينهما لا عن أفراد فعليين، أي وعي السيد مقابل العبد. ومن هنا يمكن الاستنتاج أن المثقف الذي ينتمي إلى حركة التاريخ هو المثقف الحر أو السيد، بينما المثقف الذي يشكل عائقًا لحركة التاريخ هو المثقف العبد. وإن موقف مثقفينا من ثورات الربيع العربي يُظهر تخبطًا، كما يُظهر نوعًا من سوء التشاؤم الذي لا يقدم تحليلًا صحيحًا للأحداث ولمآلاتها. إن الثورة -كما رآها بعضهم- هي اللحظة التاريخية التي لا يكون فيها الشعب مجازًا بل حقيقة ملموسة، وذاتًا فاعلة، وواقعًا عمليًا[14]، وفي ثورات الربيع العربي فإن الشعب يُغيّب، وتقتل فاعليته، وتدفن أحلامه وتطلعاته أمام عينيه، ومع أن الثورات عبر التاريخ احتاجت إلى نصف قرن أو أكثر أحيانًا لتنتج وتنمو وتثمر نتاج الديمقراطية للشعوب، ففي حالة ثورات الربيع العربي هناك مؤسسات دولة وجيوش حديثة، ووسائل اتصال، وفئات مثقفين، وطبقات وسطى، وصيرورة تشكل الأمم. وأمامنا مشاكل متجذرة، لها علاقة بالطائفية والعشائرية والهويات الفرعية المختلفة التي تم تسييسها في ظل أنظمة استبدادية، وإذا أردنا طرح نظام مدني بديل، فلا بد من معالجة تلك المشاكل أولًا.

وإذا كان الناتج الأساس الذي تتطلع إليه ثورات الربيع العربي هو تشكيل نظام ديمقراطي، برأي بعض المثقفين، فإن التشكيلات التي يتم العمل عليها هي نفسها غير ديمقراطية، وبما أن الديمقراطية لا تأتي بين يوم وليلة، فلا بد أن نترك المناخ الديمقراطي ليتعلم الشعب من خلال الحريات تشكيل تكوينات سياسية ومراقبتها، وما ينجح منها يبقى، وما لا ينجح يزول مع الوقت. والانتخابات الحرة النزيهة هي الأساس، وربما ذلك لا يأتي في البداية بما يحقق الاستقلال كاملًا، بل من الممكن أن يحدث في مرحلة تالية، لكن المهم الحفاظ على الديمقراطية، بالرغم مما يقابله ذلك من صعوبات في البداية([15]). لقد لاقت هذه الثورات دعمًا من المثقفين العرب بكل أطيافهم، لكنهم لم يستطيعوا التنظير لها كما يجب بعيدًا عن التأثيرات الفكرية الحاصلة في المنطقة، وما نتج عنها من ضياع لبوصلة التوجيه المعرفي.

هل قامت ثورات الربيع العربي فقط لترسيخ قيم الديمقراطية؟

 يجب أن نفهم خلفيات عوامل أجدها وثيقة الصلة وضرورية لفهم ثورات الربيع العربي وهي:

  • – الاضطرابات الاجتماعية بسبب الافتقار إلى التوزيع العادل وعدم المساواة
  • – تعزيز وتطرف مختلف أشكال الطائفية ذات الدوافع السياسية
  • – تقويض سلطة الدولة نتيجة للحروب الأهلية التي اندلعت خارجيًا

عدم وجود توزيع عادل وعدم المساواة

 إن الدول العربية ليست، بأي حال من الأحوال، الأكثر فقرًا في العالم، فقد كانت معدلات نمو العديد من الدول العربية قبل عام 2011 تتوافق مع المعدل العالمي أو تجاوزته، ومع ذلك تواجه العديد من البلدان تنوعًا اقتصاديًا غير كافٍ، وتزايد التفاوتات الاجتماعية والفقر وانعدام الأمن الغذائي. ففي مصر، على سبيل المثال، ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بشكل مطرد منذ عام 1990. في الوقت نفسه، تدهورت الظروف المعيشية النسبية لعامة السكان، ويرجع ذلك جزئيًا إلى تزايد البطالة. وقد تأثر الشباب على وجه الخصوص بشدة بسبب النمو السكاني، وما نتج عن ذلك من تجديد الشباب بأكمله. وفوق كل شيء، فإن التحرر الوحيد الذي تم تنفيذه جزئيًا في سياق التكيف الهيكلي، والإصلاحات الاقتصادية هو المسؤول عن هذا الخلل. كانت الخصخصة التدريجية للشركات المملوكة للدولة بشكل رئيسي لمصالح النخب المرتبطة بالحكومة. أدى ذلك إلى شكل رأسمالي تراثي، كان يعتمد على المعاشات السياسية، كما كان موجودًا في تونس في عهد بن علي، وفي السنوات الأخيرة من حكم مبارك في مصر. أضف إلى ذلك الحوكمة والفساد غير الفعالين.

بعد عام 2011، لم يطرأ تغيّر يذكر على المظالم الاجتماعية والاقتصادية، وأدى ذلك إلى تجدد الاحتجاجات، وفي نهاية المطاف إلى تعزيز الحركات المتطرفة. ردت العديد من الحكومات العربية -منها الجزائر ومصر وتونس وليبيا وسورية والأردن والمغرب والكويت- على الاحتجاجات وأعمال الشغب، بإجراءات قصيرة المدى مثل زيادة إعانات المستهلكين، والتحويلات الاجتماعية ورواتب القطاع العام. عندما فشلت دورة التهدئة، تحولوا بشكل متزايد إلى القمع.

إن حداثة “الربيع العربي” كانت في الواقع فقط في مدى الاحتجاجات وراديكاليتها. لقد اكتسبت “سياسات الشارع” صفة جديدة. في مصر، على سبيل المثال، في العامين الأولين بعد الإطاحة بالرئيس مبارك، نُظم حوالي أربعة آلاف احتجاج، في جميع شرائح المجتمع والمهن -ومنهم عمال المصانع وسائقو الحافلات والمعلمون والمحامون- ومع ذلك كان النجاح محدودًا. تمسك الحكام بعناد بالوضع الراهن بعد 2011، واستجابوا في الغالب بإجراءات قمعية. بعد الانقلاب العسكري عام 2013 في مصر، أنشئ نظام أكثر قمعية من نظام مبارك. وهو يقوم على اتصال وثيق بالجهاز العسكري والأمني، الذي يتمتع بامتيازات كبيرة مقابل ولائه. فقط في تونس حدث تغيير حقيقي في عام 2011.

طائفية ذات دوافع سياسية

في الماضي، استخدم الحكام الاستبداديون الهويات الدينية والعرقية المختلفة لمرؤوسيهم للتلاعب بهم ضد بعضهم بعضًا. على سبيل المثال، حاولوا تقويض التضامن وتجنب تنافس أقطاب السلطة وتقديم أنفسهم، داخليًا وخارجيًا، على أنهم الضامن الوحيد للاستقرار والازدهار الاجتماعي. في سورية والعراق في السبعينيات طُرد الأكراد والآشوريون واليزيديون من مناطق مهمة استراتيجيًا، تحت ستار “التعريب”، خاصة تلك التي لديها احتياطيات نفطية وعوائد زراعية عالية.

بعد عام 2011، اعتمدت النخب الحاكمة بشكل أساسي على سياسة الهوية الدينية والعرقية، في المملكة العربية السعودية، تم تبرير الحملة الوحشية على التظاهرات المعزولة على أنها معركة ضد محاولات الشيعة للانقلابات. ولوحظ شيء مماثل في البحرين، حيث اتخذ العنف أبعادًا أكبر، كما أن التفسير الطائفي للصراع يجعل من الممكن إخفاء أسبابه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. في مصر، تم إنفاق كثير من الوقت والجهد في مناقشة القضايا الإيديولوجية والهوية منذ عام 2012، في حين يستمر تقدم السياسة الاجتماعية في الركود. أما في سورية والعراق فأصبحت حدود الاستراتيجية للتشكيك في الاحتجاجات، على أنها مناورات من قبل المتطرفين السنة واضحة[16].

انهيار الدولة وتصاعد العنف

أدى انهيار المؤسسات السياسية وفقدان سيطرة الدولة على أجزاء من أراضي الدولة إلى تسهيل اختراق الجماعات المتشددة في العديد من الأماكن. منذ عام 2013 استفادت (داعش) على وجه الخصوص من فراغ السلطة، واستخدامها لبناء أسس دولة جديدة في المناطق التي احتلتها. كما تستفيد الجماعات المتشددة من السخط الغاضب من الحكم الكارثي للعقود القليلة الماضية. أدى قمع الحكومات الاستبدادية لجميع أشكال الاحتجاج والمقاومة، ومنها الاعتقالات التعسفية والتعذيب والاختفاء، إلى استقطاب كبير بين الأنظمة الاستبدادية والمعارضة. ولوحظ هذا حاليًا في مصر وسورية والعراق وبعض دول الخليج، في الواقع ليس الفقر في حد ذاته هو الذي يجعل الشباب عرضة بشكل خاص لتأثير الأيديولوجيات الراديكالية، بل التجارب المتكررة للظلم والتعسف من قبل الدولة. وبغض النظر عن ذلك، تواصل الأنظمة العربية الاعتماد بشكل أساسي على الحلول القمعية والعسكرية للمشكلات السياسية والاجتماعية، وقد أظهرت السنوات القليلة الماضية بوضوح أن التدخل العسكري طويل الأمد، ليس وسيلة فاعلة لمكافحة أسباب التطرف بشكل فعال([17]).

من الثورة العربية الكبرى إلى ثورات الربيع العربي

إذا كانت الثورة العربية الكبرى عام 1916 خدعة القرن، باسم تحرير البلاد العربية من العثمانيين، وتسليم الحكم إلى العرب الأشراف، فهل كان بالفعل لثورات الربيع العربي التأثير نفسه؟ بمعنى آخر: هل كانت كذلك خدعة ومؤامرة جديدة من قبل الغرب الأوروبي، تحت مسمى تشكيل مفهوم الديمقراطية في بلاد الاستبداد العربي، والتخلص من الطغمة العربية الحاكمة التي صنعها الاستعمار الفرنسي والبريطاني بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وإعلان الاستقلال الزائف أو بالأحرى الاحتلال الجديد وغير المباشر للدول العربية من قبل هاتين الإمبراطوريتين الحاكمتين العالم في حينه؟

قال هنري كيسنجر، في أيلول/ سبتمبر عام 2012: “إن هناك سبع دول عربية تمثل أهمية استراتيجية واقتصادية للولايات المتحدة… وكل الأحداث التي تجري في هذه الدول تسير بشكل مرضي للولايات المتحدة، وطبقًا للسياسات المرسومة لها من قبل([18]) .

ونقلت صحيفة الغارديان البريطانية عن وزير الخارجية الأميركي الأسبق قوله: “إن الغرب لا يكل ولا يمل في سعيه للسيطرة على الشرق الأوسط، مهما كانت العقبات… وأن أميركا وحلفاءها عملوا على ترويض الإسلاميين المعتدلين وإصعادهم إلى الحكم وفي أيديهم وثيقة تطبيق الديمقراطية، والسير في سياسات السوق الرأسمالية بعيدًا عن أحكام الإسلام وتفسيرات الشريعة”.

هذه الأقوال تنسف تمامًا أن ما حدث خلال العشر سنوات الأخيرة كان عفويًا، وتبين أنه كان مرحلة لإتمام مشروع الشرق الأوسط الكبير. بينما يرى المفكر السويسري المصري طارق رمضان أن “الغرب بلا شك يريد استغلال الثورات في مصلحته، لكن النضال المدني الحقيقي ناتج بالأساس من عمق هذه الشعوب، ودور الجمعيات المدنية يتركز في استثمار الاحتجاج الموجود ودعمه. والمعيار الحقيقي حين الحديث عن أميركا والثورة العربية هو الرأس أو الإدارة الأميركية: أين اتجهت وأين كان موقفها؟ هيلاري كلينتون في بداية الثورة قالت إن حكومة مبارك مستقرة، وذلك قبل محاولة اللحاق بالطرف الكاسب، وهاتان النقطتان لا تثبتان شيئًا ولا تنفيان”([19]).

ويمكن القول في هذا المضمار إن المرء لا يمكنه تجاوز خيار الشعوب وسعيها لنيل حريتها، وإيمانها بقدرتها على صناعة ربيعها من خلال دولة المواطنين. بالمقابل علينا أخذ الحيطة والحذر من الاستعمار الجديد، التاريخ يشهد بحقائقه على مؤامراته وقدرته على الاحتلال والتخريب وتزييف الحقائق لمصلحته كملاك حارس! وبالنهاية الحكم على الأحداث التاريخية الضخمة، لا يتم أثناء مخاضها العسير بل عندما تكتمل دورتها وتنتهي، والثورات عبر التاريخ بكافة فصولها تثبت ذلك.

السؤال الأكثر أهمية والذي يطرح نفسه بقوة: هل استفادت إسرائيل من هذه الثورات؟! يقول إيفان كرمون مؤسس ميمري “Midele East – Media Research Institute” وهو ضابط مخابرات سابق بالجيش الإسرائيلي من عام 1968 حتى عام 1988 إضافة إلى عمله مستشارًا أمنيًا، لمكافحة الإرهاب لكل من رئيسي الوزراء الإسرائيليين إسحاق شامير وإسحاق رابين([20]): إن التحول الثوري الحالي هو خطوة أولى أساسية في الطريق الطويل للعرب كي ينظموا، بحسب قوله، للإنسانية. قبل الربيع العربي كان الشرق الأوسط مستنقعًا مجمدًا بسبب قمع الأنظمة، وهذا سبب جعل العرب والمسلمين خارج العالم المتقدم، زاعمًا أن العرب لا يمكنهم بناء مجتمعات ديمقراطية حقيقية، بسبب العنصرية وقمع الأنظمة، لكنهم “بفضل الربيع العربي، بدؤوا مشوارهم الطويل للانضمام إلى الإنسانية. إنها رحلة الشرفاء التي أحمل لها كل التقدير والاحترام”. وعند سؤال كرمون: ما الفائدة التي حصلتها إسرائيل من ثورات الربيع العربي؛ أجاب: “لقد قللت المخاطر على الدولة اليهودية وانخفض خطر الغزو من قبل الجيوش المجاورة التي تخشاها إسرائيل منذ ولادتها. وبسبب هذه الجيوش كانت ميزانية الدفاع الإسرائيلي والتسليح مرتفعة بشكل ملحوظ، أما اليوم فليس لدى دولٍ مثل سورية ومصر المال للحفاظ على جيوشهم، ولن يستطيعوا تهديد إسرائيل”([21]).

إن الثورة العربية الكبرى أنتجت سايكس-بيكو، ووعد بلفور، وقسمت البلاد العربية تحت مسمى استقلال زائف، بإعادة احتلالها غير المباشر للبلاد العربية، وثورات الربيع العربي قامت للتخلص من حكم الاستبداد العربي ككل، والطغمة الحاكمة المستبدة التي نشأت كخليفة الاستعمار البريطاني والفرنسي بعد الحرب الأولى في بلادنا العربية، لكن فيما بعد وجهها الاستعمار الجديد كي تصب في مصلحته… التاريخ يعيد نفسه، لكن بحالات وظروف جديدة. وعلى الرغم من ذلك، ما زلت متفائلة بأن ثورات الربيع العربي لم تعلن إفلاسها، بل يكفيها مجدًا أنها كشفت كل الفواعل التاريخية من دور الطغاة، ودور الإعلام العار، ودور النخب القاصر، وحجم الفساد الحاصل في بلادنا العربية والذي صار والجهل صنوان، لذلك أرجو أن تخلق هذه الثورات في المستقبل فصولًا جديدة في التغيير والتحول الديمقراطي، كنموذج تونس الصاعد. وأنا متفائلة جدًا بما قاله أنسي الحاج عام 2013.

هذه نهايات عصور. فلنتفاءل بها كممرّات إلى بدايات.

بعض النهايات كان يجب أن تحصل أيًّا تكن عواقبها. هناك أزمان يشكّل مجرد استمرارها اعتداء على الحياة وتورّمًا في التاريخ. فلنتفاءل بالنهايات. قد يتلوها ما هو أسوأ منها ولكنْ لا نخفْ: ما إن تُفْتح بوابة الانتهاءات حتّى يصبح التغيير أسهل الأمور. فلنغرق في تيّار التغيير أفضل من أن نغرق في استقرار التخلّف.

نستبشر بهذه النهايات، وندعو -بما أوتينا من خوف وسذاجة- كي يبزغ فجر، يولد فيه المرء في هذه المناطق البائسة من العالم، ويعيش ويموت دون أن تعيش الأديان والمذاهب، بالنيابة عنه ولا أنظمة الحكم بالنيابة عنه، ولا أصحاب المليارات بالنيابة عنه، ولا فراش الذكريات.

ندعو بالحياة السلسة الحرّة للجميع، ولا ندعو بالموت على أحد([22]).


[1] ـ خالد المعيني، مقدمة في روح الثورات وقوانين حركتها، موقع الجزيرة نت، 12/ 8/ 2013، على الرابط: https://cutt.us/BnJ52

[2] ـ الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية “نجد والحجاز”، ترجمة: نجدة فتحي صفوت، بيروت، دار الساقي، ط2، 2001، 2، 756.

[3] ـ المرجع نفسه، 2، 775.

[4] ـ محمّد عزّة دروزة، حول الحركة العربيّة الحديثة 54.

[5] ـ يقول محب الدين الخطيب: “إنّ الغاية الّتي قام الملك حسين لأجلها هي الاحتفاظ بالكرسي الّذي كان مهدّدًا من الاتحاديّين بإسقاطه، ولم يستطع إدراك المغزى العظيم الّذي كان تاريخ القوميّة العربيّة، والحضارة الإسلاميّة يهتف به للحسين بن علي”. انظر: محب الدين الخطيب، “الحسين بن علي كما رأيته في ثلاث سنوات”، في الزّهراء، 1 (ربيع الأوّل، 1343)، 194. ولكنّ الشّيخ محمّد كامل القصّاب كان يرى “أنّ الملك حسينًا عارض قبل قيامه بثورته أن يكون نفوذ ما لأجنبيّ في البلاد العربيّة، وقد وُفّق لتحقيق هذه الأمنية بادئ الأمر، غير أنّ خيانة الخائنين من بطانته، ودهاء السّاسة من الغربيين أوقعاه في الفخّ، فوافق على اتفاقيّة سايكس بيكو المشؤومة”. انظر: محمد كامل القصاب، “من خفايا الثّورة العربيّة الكبرى”، في الفتح، 844 (جمادى الآخرة، 1366)، 750.

[6] ـ هي المعاهدة السّريّة الّتي قامت بين فرنسا وبريطانية، وعقدت في 16 /5/1916، وتتألّف من اثنتي عشرة مادة. قسّم الطّرفان بموجبها البلاد العربيّة إلى أجزاء استولى كلّ واحد منهما على عدد منها؛ انظر، سعد سعدي، معجم الشّرق الأوسط، شيكاغو، د.ن، 1/6/1997، 95.

[7] ـ الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية “نجد والحجاز”، 3، 870.  

[8] ـ المرجع نفسه، 3، 948.

[9] ـ الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية 3، 980.

[10] ـ محمد النحيلي، الربيع العربي بين الحتمية التاريخية والثورات المضادة، الجزيرة نت 11/ 5/ 2017، على الرابط: https://cutt.us/JYcSO

[11] ـ عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، القاهرة، دار الشروق، 2019، 50.

[12] ـ ميشال فوكو، كانط والثورة، ترجمة: يوسف الصديق، مجلة الكرمل، العدد 13، 1984، منشور على الرابط: https://cutt.us/WkRkB

[13] Ge.Wilh.Fr.Hegel. Erster Theil Phänomendogie die des Geistes. System der Wissenschaft. Bamberg und Würzburg bey Joseph Anoton Goebhardt 1807 ،s200

[14] ـ عزمي بشارة، للثورات العربية منطق، موقع الجزيرة نت، على الرابط: https://cutt.us/t0OpR.

[15] طارق البشري، ربيع مصر تحول لزوابع ترابية ولم ينكسر، موقع عربي 21، على الرابط: https://cutt.us/AXt5Q.

[16] Bundeszentrale für Politisch Bildung Zur Klassische .Website von bpb.de 2.2.2016 und 25 .11.2019.

[17] ـ لمن يرغب بالاستزادة، حول دور الإعلام الجديد في الربيع العربي، النظر إلى تقارير الوكالة الفيدرالية الألمانية للتربية المدنية، ويمكنه مراجعة تقارير 2011 وكذلك حول التسلسل الزمني للربيع العربي حسب البلدان العربية، يمكن مراجعة تقارير الأعوام السابقة 2010- 2011 الصادرة عن الوكالة الفيدرالية الألمانية للتربية المدنية.

Bundeszentale für Politische Bildung zur Klassischen ,Website von bpb .de 2010 – 2011 und 19.April.2011.s4/ـ ـ5

[18] ـ عبد العزيز الحيص، هل الربيع العربي مؤامرة أمريكية، موقع الجزيرة نت، على الرابط: https://cutt.us/ut1mz.

[19] ـ المرجع نفسه، الرابط نفسه.

[20] ـ مشتاق إبراهيم، خيوط المؤامرة الأمريكية في الربيع العربي، مجلة الحوار المتمدن، على الرابط: https://cutt.us/iiftW

[21] ـ المرجع نفسه، الرابط نفسه.

[22] ـ أنسي الحاج، نهايات، جريدة الأخبار اللبنانية، السبت 20 نيسان 2013، على الرابط: https://cutt.us/P4DXT