توقّف العالم بليز باسكال، في أواخر حياته (لم يُكمل السنة التاسعة والثلاثين من عمره)، عن شغفه الخالص في عوالم الفيزياء والرياضيات، تاركًا خلفه إسهاماته الفذة في نظرية الاحتمالات، وتصميمه المبتكر للآلة الحاسبة، فضلًا عما عُرف بـ “قانون باسكال”. ليتفرغ كليًا للدراسات الدينية والانشغال اللاهوتي، للدفاع عن وجود الله، مستخدمًا نظرية الاحتمال التي يدحض بها أفكار المرتابين بوجوده، ويدفعهم إلى الإيمان به، معتمدًا على ما سمّي “برهان باسكال”، وفحوى هذا البرهان: “إذا كان الله غير موجود؛ فلن يخسر الناس شيئًا بإيمانهم، وإنهم سيخسْرون كل شي بعد موتهم، إذا كان الله موجودًا، بعدم إيمانهم”.
كتب هذا العبقري مرة: “إن كل مشاكل البشر ناتجة عن عدم بقائهم هادئين في غرفهم الخاصة”، ثم كتب في سياق آخر، وهو الرياضي المحنك: “لا يوجد ما يتفق مع المنطق مثل التنصل من المنطق”.
لطالما شكّل الخوف من العزلة العامل الحاسم والفارق، في تأسيس الأشكال الجنينية لكل صنوف الاجتماع البشري، ومن ثَم التقبّل القسري لصهر الذات في بوتقة المجموع، وتحمل جملة من الإكراهات التي تُقيد الأفراد وتنأى بهم عن مناخات العزلة، لما تفرضه هذه الأخيرة من أسئلة وجودية باعثة على القلق حد الفزع.
فالبشر عامة يهابون الوحدة، لما تتضمنه هذه الوحدة من مواجهة ذواتهم مواجهة تثير الهلع، لاشتمالها على صراعات ومكابدات وخوف متأصل مما تعكسه مراياهم الداخلية من عوالم مثقلة بالأنانية والشرور ورغائب مكبوتة وهواجس ميتافيزيقية، مما يدفعهم إلى الهروب من أنفسهم، ومعانقة كل ما هو خارجها.
فنُشوء دور العبادة والمقاهي والملاهي والمقار الحزبية وغيرها، وما ينتج عنها من حلول خلاصية تعتمد في خلاصها على فكرة الحشود، ما هي في جوهرها إلا الرغبة في الانعتاق من أشباح العزلة وتبعاتها.
بالرغم من أن العزلة، وهنا المقصود منها تلك الاختيارية الأصيلة، هي السبيل الأمثل، شأنها شأن الحياد المتسم بالنسبي، لأن كل شخص محكوم بالضرورة جزئيًا بالأهواء والتحيزات والأحكام المسبقة التي تحيل إلى انعدام العزلة التامة والحياد المطلق، خصوصًا في عوالم فوضوية تمجّد العنف كلغة وحيدة قابلة للتفاهم؛ فإنها خيارٌ فردي محض غير قابل للتعميم، لصعوبة الالتزام بها كمنهج حياتي وفعالية وجودية تأبى الرضوخ لسطوة قوى التكتلات العمياء.
فضيلة العزلة تلك تعمّق علاقة الفرد بنفسه وتمنحه فهمًا شاملًا للعالم، وتخلق مستويات ثرية للتواصل مع الخالق، بمعزل عن الكهنوت المتسلط، وتفسح مسافات كافية عن التشكلات السياسية والاجتماعية، بما تتضمنه هذة المسافات من هدوء غير متشنج، تتيح القدرة على قراءة المشهد برمته على ما فيه من تجليات معقدة، دونما الغرق في مُستنقعاتها الوبائية. وإن كان هذا صحيحًا في أزمنة السلم، فهو صحيح جدًا في أزمنة الاستقطابات الحادة، والانكفاء على الهويات الضيقة. ومن ثم فإن الرهان على الأيديولوجية -بكل تبدياتها- فضلًا عن المشاركة الفعلية في صداماتها الدموية، ينخر الروح ويقتلها، ويفرغ الإنسان من وجدانه. فالوجدان كالعقل، وربما أكثر منه، هو ما يميز المخلوق البشري عن غيره من المخلوقات. على أي حال الضمير الإنساني يتواشج في صياغته العقل والوجدان، ولا يمكن تصوره دون كليهما.
ومن فضائل العزلة أيضًا أنها تمارين مستمرة تُهيئ عضلة الروح للولوج المريح، وبيسر مألوف في الغياب الحتمي. كما أنها تهب التدريب البطيء والمتدرج في فضاءات التأمل، بحيث تتكفل بعدم إغلاق نوافذ الرؤية المُتحررة من مُحاباة التأويلات المُتحاربة، وبالتالي تمنح هذه العزلة المتأملة القدرة على التنصل من المنطق، كمحاولة للتبرؤ من المنطق الجماعي، وفقًا لتأويل المقولة الباسكالية.