مقدمة:
أعلنت الجزائر على لسان وزير خارجيتها في ندوة صحفية، الثلاثاء 24 أغسطس/ آب 2021، قطع علاقتها الدبلوماسية مع المغرب بدءًا من ذلك اليوم، متهمة المملكة المغربية بانتهاك معاهدة حسن الجوار بينهما والتحريض ضدّها. وقد يكون هذا الخبر مؤسفًا فعلًا، لكنه في الحدّ الأدنى كان متوقعًا، فكل المؤشرات كانت دالة على قدومه، ووحده التدبّر في تفكيك صورته ومحاولة إعادة تركيبها ما يمكن أن ينجينا من عباب اللطميات الافتراضية، ويخرج بنا إلى أنوار شيء من الفهم، لعلّنا نهتدي به إلى مكامن الفرص في هذا الحدث، ونتفادى مرابض الأخطار فيه، على ضوء قراءة تقتفي مسار تطوره التاريخي، وتُنزله في سياق المشهد الإقليمي العام. ولكي يكون تعبيرنا دقيقًا، نقول إن المؤسف والمؤلم في الحقيقة هو تأزم العلاقات الجزائرية – المغربية من الأساس، وامتداد ذلك على عقود طويلة من الزمن. أما حدث البارحة، فهو مجرّد فصل من فصوله، وليس أكثرها حدة، فحرب الرمال وحدها قد حصدت المئات من الأرواح الزكية من الجانبين، وليست هذه المرة الأولى من نوعها في قطع العلاقات. ومن ناحية أخرى، فالحدود البرية بين الجارتين مغلقة فعليًّا منذ آب/ أغسطس 1994، وأما السفير الجزائري لدى الرباط، فقد سبق سحبه للتشاور منذ ما يزيد على شهر، ولم يتوقف الاحتقان منذ ذاك الوقت على التراشق الإعلامي الحاد والتصريحات الضارية، بل تجاوزها إلى الاستنفار الأمني ورفع الجاهزية العملياتية للقوات المسلحة على الحدود منذ الخريف الفارط، مع تكثيف لتحركات قوات البوليساريو ضد الجيش المغربي خلال الأسابيع المنسلخة (1) (2). وأخيرًا، فقد جاء، منذ أقل من أسبوع، الاجتماع الاستثنائي للمجلس الأعلى للأمن الجزائري ليعلن اعتزامه إعادة النظر في العلاقات مع المغرب، ليصبح بذلك جانب المفاجأة في قرار القطيعة حكرًا على الغائب عن متابعة الأحداث فقط. كيف انطلقت هذه الأزمة؟ وما الذي يمكن اعتباره خطًا ناظمًا لمحطات تفجّرها؟
أزمة مغاربية بمحركات خارجية
يعيش العملاقان المغاربيان، منذ عقود طويلة، أزمة بنيوية في العلاقات، مدارها الصحراء بضفتيها، الشرقية (تندوف وبشار) التي التهبت أولًا في 1963، والغربية المشتعلة منذ 1975، وقد كان كلا الملفين، في لبّه، ميراثًا ملغّمًا من الاحتلال، الذي لم يندحر عسكريًا إلا بعد تشاركه (فرنسا، إسبانيا) في التفخيخ السياسي لمنطقة سبق لها في عصور سالفة أن غيرت ملامح الضفة الشمالية للمتوسط، ولعلّ العقل الأوروبي لا ينسى أبدًا أن تلك الصحراء المغاربية لم تكن في الحقيقة إلا مرتكز الأندلس وخزانها الإستراتيجي، أو أنه لم يغفر لرمالها الساخنة إنجابها أمثال طارق بن زياد ويوسف بن تاشفين. وتناسبًا مع ظرفية انطلاق الصراع، فسرعان ما تلوّن في بداياته بين الشقيقين اللدودين بألوان الحرب الباردة، بين نظام اشتراكي جمهوري متحالف مع المعسكر الشرقي في الجزائر، وآخر ليبرالي ملكي حليف للغرب في المغرب، لينطلق مع ذلك سباق محموم نحو التسلح، وتسابق دبلوماسي لا يقلّ حدة، نحو الفضاءين المغاربي والأفريقي (3).
إن ما بدأ ببذور إمبريالية، وتأجج بوقود صراع دولي، عرف، على الرغم من المدّ والجزر، فترات خفوت وتبريد خلال العقدين الأخيرين، لتتفجر كوامنه هذه المرة على صفيح التدافع الإقليمي الساخن، وبحضور واضح لبصمات الكيان الصهيوني، ومن ورائه محور المطبعين العرب.
فإلى أي مدى ارتبط حدث القطيعة بالربيع العربي وتداعياته؟ وما المآلات الممكنة لهذا التصعيد الجديد؟ وهل يُعقل أن يحمل في باطنه نعمًا ويفتح في ختامه على فرص؟
مفاعيل الربيع العربي في عناصر التأزم التاريخي.
إن الجزائر يعتبرها الفيلسوف التونسي، أبو يعرب المرزوقي، المنطلق الأول للربيع وأمه الأصلية، باعتبارها، على الرغم من الانتكاس الأليم لوليدها، سبقت جميع دول المنطقة إلى مسار الدمقرطة والانتخابات الحرة في أوائل التسعينيات، فيما يبدو كمؤشر عن كوامن هذا التطلع في الضمير الجمعي للجزائريين، أو أنهم مجتمعًا وسلطة قد راكموا في الحد الأدنى من الخبرة في مجاراة مثل هذه المتغيرات، وهذا ما قد لا يملكه غيرها، بما أهّل تفاعلهم مع زلزال ربيع 2011، وجعله في المحصلة إيجابيًا، وأقرب ما يكون في موجتيه الأولى وخاصة الثانية إلى محرك للإصلاح الوقائي أكثر من أي شيء آخر، فكانت انسحاباته على سياستها الخارجية على ذلك النحو واضحة وجلية (4).
- الخلاص من العهدة الخامسة
لقد مثّل قدوم عبد العزيز بوتفليفة إلى الحكم، في سنة 1999، منعطفًا إيجابيًا في العلاقات الجزائرية – المغربية، وإن لم يأت معه بحلحلات جذرية لعناصر التعقيد فيها، فقد دفع بها إلى مرحلة مديدة من التخفيت والترويض، وقد ساعده في ذلك عوامل عديدة، منها المتعلقة بالسياق ذاته، إذ وافق توليه صعود قيادة جديدة في المغرب سنة 2000، فكان الملك محمد السادس في شخصه وخطابه وسياسته مختلفًا عن والده، وأميل منه إلى الليونة والمرونة، وإن المناخ الداخلي في الجزائر كان كذلك ملائمًا، وهي تتجاوز عقدًا مثقلًا بالاضطرابات السياسية والأمنية ، ولكن منها كذلك المتعلق بشخص الرئيس الجديد نفسه الذي كان من ناحية عارفًا جيدًا بالنظام المغربي وملمًا بأدق تفاصيل الملف الصحراوي، نظرًا لما تولاه في فتراته الحساسة السابقة من مهام ومسؤوليات متقدمة في الخارجية الجزائرية (1)، ومن ناحية أخرى، فقد كان بوتفليقة ذا علاقة وثيقة بحكام أبو ظبي، نظرًا لعمله في تسعينيات القرن الماضي بصفة مستشار للشيخ زايد، وقد وطد ذلك الصلة بين العائلتين.
وبذلك، لم تفتح تنحية بوتفليقة، في 2 نيسان/ أبريل 2019، على إمكانية إنهاء فصل بارد من الأزمة بمرور العلاقات بين البلدين إلى مرحلة من التوجس في انتظار تكشّف رؤى القيادة الجزائرية الجدية للملف فحسب، بل أضافت إلى مساحات التوتر التاريخية تفرعات جديدة ترتبت عن التحول الحاصل في العلاقات الجزائرية – الإماراتية.
2. التخفف من التغلغل الإماراتي
لقد مثلت إقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وانهيار التكتل الموالي له في النظام بقيادة أخيه سعيد بوتفليقة، ضربة موجعة لنفوذ أبو ظبي في الجزائر، تلتها وفاة قائد الأركان القائد صالح، في 23 ديسمبر 2019، الذي كانت تعول عليه الإمارات في التدارك بإعادة إنتاج نظام ذي عضلات على الشاكلة المصرية، معولة في ذلك على ما يربطها به وبعائلته من صداقات وشبكة مصالح. لتكون بذلك خسارتها لآخر أصدقائها الأقوياء مؤذنة بفصل جديد من العلاقات الإماراتية – الجزائرية، تنتهي معه سنوات التغلغل والتمدد في أكثر قطاعات الدولة حيوية، كالموانئ الإستراتيجية والشركات العمومية الكبرى والعقارات حتى الصناعات الدفاعية، فإذا بالإمارات بين عشية وضحاها تجد ذراعها المالي في الجزائر أحمد حسين الشيباني طريدًا يعبر الحدود خلسة، بعد أن كان يصول في كواليس الحكم، ثم تلاحقه قضايا الفساد، ليتخفف القطاعان العام والخاص في الجزائر بأقدار من سطوته ونفوذه. وكان كل ذلك يتم على أهازيج الحراك الشعبي، وشعاراته الساخطة على الإمارات، التي التحقت بها أصوات نخبوية عديدة، من مختلف الألوان السياسية والأيديولوجية، تمتد من رئيس حركة حمس الإسلامية د.عبد الرزاق مقري يمينًا، إلى لويس حنون زعيمة حزب العمال الجزائري يسارًا. وإن ميلان القيادة الجزائرية الجديدة إلى النحو نفسه أخذ يتأكد مع مرور الوقت، أو إن لهم بالأحرى قراءات مغايرة للمشهد الإقليمي وتفاعلاته، وترجمته توجهاتهم، سواء في ليبيا أم من خلال تقدمهم باتجاه أنقرة والسير بخطى ثابتة نحو وضع لبنة لشراكة إستراتيجية معها (5).
ومع هذا المنعطف، قفز حكام أبو ظبي نحو ما سمّته صحيفة “Patriotique Algérie” محاولات التطويق والتهديد، في تعليقها على سعيهم لإقامة قاعدة عسكرية في شمال موريتانيا وعلى مرمى حجر من الحدود الجزائرية (6). ولم تكن تلك المحاولة إلا جزئية بسيطة من سياسة جديدة ومركبة تجاه الجزائر والمنطقة، كانت تعبيراته الأهم الاختراق الصهيوني للعلاقات الجزائرية – المغربية، الذي مهّد له حصان طروادة الإماراتي، من خلال الوساطة المشتركة لدوائر الضغط الصهيو-إمارتية في الولايات المتحدة، فنجحت في خلط ملف التطبيع بملف الصحراء بداية، من خلال وضع اعتراف واشنطن بـ “مغربية الصحراء” من جهة، وإقامة علاقات بين الرباط والكيان المحتل من جهة أخرى، في كفتي ميزان واحد، ثم زادت الإمارات في تثبيت هذا المعنى، من خلال جرّها إلى قطار نادي المطبعين العرب (البحرين، الأردن) في غمرة الانتشاء بـ “اتفاقيات أبراهام”، ليفتتح كل منهم تباعًا قنصلية في المنطقة المتنازع عليها بين الجيران، كأول دول عربية تقترف ذلك، من دون أن يكون لأي منهم مواطنًا واحدًا في ذلك الجزء من الصحراء المغاربية الشاسعة. وقبلها بأيام معدودات، كانت الإمارات تجتهد في توفير الدعمين السياسي والإعلامي لعملية الكركرات العسكرية، فور انطلاق الجيش المغربي فيها، بتاريخ 13 نوفمبر 2020، التي انتهى بمقتضاها وقف لإطلاق النار دام 30 سنة في المنطقة المنزوعة السلاح بين كل من المغرب وموريتانيا وجبهة البوليساريو. لم تكن الإمارات بذلك تنفخ السم في النار لإنعاش أزمة قديمة بغية زعزعة أمن المنطقة وتمزيقها كما تعودت أن تفعل في أكثر من بلد مشرقي فحسب، بل كانت على ذلك تزيد في تعميق الأزمة، إذ أضافت لعناصرها التاريخية أبعادًا جديدة لم يسبق لها أن عرفتها، من خلال خلط أوراقها مع ملف التطبيع أولًا، ثم إلقائها في أتون صراع المحاور الإقليمية، ليلتحق ملف العلاقات الجزائرية – المغربية بملفات كثيرة أخرى مبعثرة على طاولة الربيع العربي.
ليتلاحق بعد ذلك في هذا الاتجاه دفق تصاعدي من التداعيات، على طريقة قطع الدومينو المتساقطة، فنجد قضية التجسس عبر التكنولوجيا الصهيونية “بيغاسوس” لصالح المملكة المغربية، التي طالت آلاف الجزائريين، بينهم عدد غير قليل من العسكريين والسياسيين رفيعي المستوى، في فضيحة عالمية تورطت فيها دبي والرياض كذلك، وطالت حوالي 50 ألف سياسي وصحفي حول العالم، لعلّ من أبرزهم في المنطقة رئيس البرلمان التونسي الأستاذ راشد الغنوشي. ونجد في الفترة نفسها تقريبًا اشتباكًا دبلوماسيًا ينشب بين الشقيقين في أروقة الأمم المتحدة، حيث قدم عمر هلال، ممثل المغرب لديها، ورقة لمجموعة عدم الانحياز، يدعم فيها ما سماه “حق شعب القبائل المستعمر في تقرير مصيره”، لتتحول على إثرها الأصوات الخافتة في الكواليس، حول تعاون استخباراتي مغربي مع قيادات الحركة الانفصالية العنصرية “ماك” المنظمة التي تستضيفها باريس منذ 2002 وتصنفها الجزائر كمنظمة إرهابية، إلى اتهامات رسمية. وبين هذا وذاك، برز تباين حادّ في المواقف، حيال انضمام الكيان الصهيوني إلى منظمة الاتحاد الأفريقي بصفة مراقب، وأخيرًا وليس آخرًا، كان التصريح المستفز الذي أطلقه لأول مرة وزير خارجية صهيوني من بلد عربي ضد بلد عربي آخر، حينما اتهم هذا الأخير الجزائر بتعاونها مع إيران، خلال زيارته الرسمية الأولى إلى المملكة المغربية.
3. الجزائر الجديدة ودبلوماسية الخطوط المتقدمة
ولعلّ من أهم تداعيات الربيع العربي على العلاقات الجزائرية – المغربية، أنه دفع في اتجاه المجايلة القيادية صلب النظام الجزائري، فعلى عكس ما كانت تحدثه الثورات في مختلف الساحات العربية خلال العقد الأخير، من إضعاف لأنظمة وتفتيت لأخرى، كان الحراك الشعبي في الجزائر وكأنه يمدّ دولته بجرعة يفوع وفتوة، بعد ما طالها بين (2019-2013) من ضمور وانكفاء نتيجة مرض الرئيس السابق، وما ترتب عنه من صراعات داخلية وتشققات في النظام. وقد أدى ذلك الوهن إلى ترك مساحات من الفراغ على الساحة الإقليمية، ملأت كثيرًا منها المملكة المغربية، فكانت القيادة الجديدة الصاعدة منذ البداية متشوفة إلى العودة إلى الساحة الإقليمية، ولكن على أي نحو؟
لقد كان ذلك بكل تأكيد يمرّ عبر إعادة ترتيب البيت الداخلي أولًا، فالقاعدة أن التأثير الخارجي للدول، مرتبط بما تكتنزه من عناصر قوة، ولكن وقبل كل شيء، مرتبط بمدى انسجام تلك العناصر فيما بينها، وذاك ما نجح فيه النظام الجزائري، بما حققه في بداية السنة الحالية من تسويات كبرى بين أجنحته الثلاثة الرئيسية (رئاسة الأركان، رئاسة المخابرات، رئاسة الجمهورية) التي تجلت في عودة وزير الدفاع الأسبق الجنرال خالد نزار إلى الجزائر بعد فترة لجوء في إسبانيا، ثم خروج الجنرال توفيق رئيس المخابرات السابق من السجن، وكذلك تبرئة الجنرال حسين بن حديد، أو مراجعة ملف الجنرال علي غديري إلخ…(7).
ولكن ذلك لم يكن كافيًا، إذ إن ما أنتجته تفاعلات الربيع العربي مع الواقع المأزوم من ترهل دول كثيرة في المنطقة وتفكيك العديد من أنظمتها من ناحية، ومن سيولة عارمة لمحاور التحالف والصراع على مستوى مشهد إقليمي في طور إعادة التشكل، ويضاف إليهما تحولات العصر الكبرى، وما أنجبت الثورة الصناعية الرابعة من تهديدات عابرة للحدود مثل التهديد السيبراني، كل ذلك أفرز إشكاليات أمنية وسياسية مستجدة ومعقدة من حيث البنية والطبيعة، بما فرض على الجزائر ضرورة الخروج من الاكتفاء بمقاربة تأمين الحدود، إلى المشاركة الفاعلة في “بناء نظام أمن إقليمي ” يحقق لها متطلبات أمنها الوطني، في إطار ما يُسمّى في علم الجغرافيا العسكرية بنظرية الدفاع عن الخطوط الخارجية (8).
وبما أن صياغة مقاربة جديدة للدبلوماسية الجزائرية، وتجديد مفاهيم سياسات أمنها القومي، ليس له أن يتم بعيدًا عن العقل المؤسساتي لأجهزتها الصلبة، فقد جاء التنقيح الدستوري في الفاتح من نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، لينصص في المادة 31، على تغيير تاريخي في العقيدة الدفاعية للجيش الوطني الشعبي الجزائري، يسمح له بموجبها، ولأول مرة، بالقيام بعمليات خارج حدود الوطن (9).
ولم تكن الجزائر، من خلال هذا التمشي، بصدد تلبية متطلبات وطنية فحسب، بل كانت كذلك منسجمة مع حاجيات إقليم هشّ يعاني فراغ القوّة، محتاج إلى أحجار ارتكاز وإلى من تتوفر فيهم مقومات صانع الاستقرار، وفي تماش تام مع توجهٍ دولي متنامٍ، يقوم في تشكّل نظامه الجديد على منظومة المظلات الإقليمية، ومبدأ “حلول إقليمية من أجل المشاكل الإقليمية”.
وعلى ضوء قناعة بدت راسخة لدى قيادة الجزائر الجديدة، بما يحمله عصر التحولات الدولية والإقليمية من مخاطر وجودية من ناحية، ومن فرص إعادة التموقع الإستراتيجي من ناحية أخرى، وفي تقاطع لكل هذه السياقات سابقة الذكر، أخرجت الدبلوماسية الجزائرية واحدًا من بين أكثر رجالاتها دربة وإنجازات، وخاصة في إدارة النزاعات ونزع فتيل الأزمات، برصيد يبلغ 40 عملية سلام حول العالم، هو مهندسها السيد رمطان العمامرة صاحب 45 سنة خبرة، تدرج خلالها في شتى هياكل الخارجية الجزائرية، ويتولى رئاستها منذ 07 يوليو/ تموز الجاري للمرة الثالثة في مسيرته السياسية، إضافة إلى ما شغله من وظائف سامية في الهياكل القارية والدولية (10). ليكون بذلك أنسب من يعاضد الرئيس تبون في قيادة “الجزائر الجديدة” نحو الصعود الجديد في المنطقة، تجسيدًا للكلمة التي ألقاها هذا الأخير أمام القادة الأفريقيين خلال قمّة بأديس أبابا، في 9 فبراير/ شباط 2020، إذ قال: “إنّ الجزائر الجديدة الجاري تشييدها، ستضطلع مِن الآن فصاعدًا بدورها كاملًا في أفريقيا وفي العالم” (11).
الخلاصات
- – أولًا: قد يكون رفع التصعيد الدبلوماسي بين الجزائر والمغرب مفيدًا وضروريًا في هذه المرحلة من أجل كسر قبة الانحباس الحراري، التي أضحت العلاقات حبيسة لجدرانها السميكة، فقد تفتح هذه القطيعة على فرص البحث عن معالجات جذرية ومقاربات شاملة تعيد إنتاج بناء تعاقدي جديد بين الجارين، يرتكز على أسس صلبة من المصالح الإستراتيجية لمجتمعات المنطقة الموصولة بروح التاريخ وحقائق الجغرافيا، والمترابطة بأواصر الذات الحضارية المشتركة.
- – ثانيًا: إن انخراط هذه الأزمة التاريخية في مفاعيل الربيع العربي، وتشوف الضمير الحضاري لشعوب المنطقة إلى الفصل الثاني من الاستقلال، جعل أهم أبعاد استشكالها وأكثرها تعقيدًا يكمن في ترابطها مع بقية كل تلك الملفات والأزمات التي فجّرها ذلك الزلزال وهو يهزّ أسس المنطقة من جذورها، بما يجعل أي حلول ثنائية أو متعددة الأطراف لا تنضبط لهذه المقاربة وستبقى مجرد سياسات قصيرة ومعالجات آنية، تمهّد الطريق لما سيأتي بعدها بفسحة غير طويلة، من انفجارات جديدة وأشد عنفًا (12). غير أن التحاقها بالربيع العربي في هذه الفترة بشير خير كذلك، إذ إن جغرافيا حرب المحاور الإقليمية، قد بدأت فعلًا في لفظ أنفاسها الأخيرة، وإن حاولت المخاتلة من خلال بعض التوهجات البرقية، فهي لا تعدو أن تكون ومضة البريق الأخير الذي يسبق انطفاء السعير، ولن يلبث أن يستسلم لزامًا إلى قيود التوافق الكبير الذي تتالت إرهاصاته منذ بداية السنة الحالية، من توافقات صغيرة ومحدودة ومبعثرة (قمة العلا، التقارب التركي المصري، التوافق الليبي – الليبي، مبادرة السلام في اليمن، لقاء طحنون وأردوغان…)، بقيت في انتظار تتويج إستراتيجي يملئ الفراغات التي بينها، ويستصلح مساحات التوتر على تخوم تماسها، ويكمل المستعصي منها أو المنقوص فيها، ليحتوي جميعها ويكون وعاءها الجامع.
- – ثالثًا: إن في انطلاق القطيعة دلالات، مثلما سيكون لها كذلك انسحابات على ساحات الربيع العربي، وخاصة منطلقه ومركزه، فقد كان إعلان العمامرة قطع العلاقات مباشرة بعد عودته من تونس، وقبل أسبوع فقط من استضافة الجزائر لاجتماع دول الجوار الليبي، بما يجعل من الصعب أن نتصور أن الدبلوماسية الجزائرية المسكونة بهاجس الانكشاف الحدودي يمكن أن تقدم على مثل هكذا خطوة على الجبهة الغربية من دون أن تكون قد أمسكت بضمانات استقرار خاصرتها الشرقية. وكما فصّلنا من قبلُ، إن قرار التصعيد مدروس ونقيّ من شوائب الانفعالية، بل يندرج ضمن رؤية إستراتيجية شاملة، وسياسة منسجمة ومتكاملة، كما أن الموضوع التونسي لم يكن غائبًا عن الندوة الصحفية نفسها التي أعلنت فيها القطيعة، بل إن الموقف المصرّح به إزاءها لم يكن يومًا أكثر وضوحًا ولا دقة ولا صرامة، من الصورة التي صدر عليها يومها (13).
- – رابعًا: إن حدثًا بحجم محاولة الانقلاب على المؤسسات والدستور في تونس، لحساسية موقعها وباعتبارها مركز اندلاع الربيع العربي، لا يمكن قراءته إلا في ضوء ترابطاته الإستراتيجية بكل الفاعلين في المنطقة على أقل تقدير، فكان من الطبيعي أن يتبعه تداع من مناهضي الحرية لشعوب المنطقة، ومرور محور التطبيع والثورات المضادة إلى سرعته القصوى في أيامه الأولى، في محاولة لإحراز حسم سريع ومباغت، غير أن نجاح المنظومة الديموقراطية التونسية في امتصاص الصدمة، وتفعيل مكابح الصمود، قد جعل الصورة تقترب تدريجيًا من مشهدية حصار طرابلس، الذي تداعى فيه حفتر مصحوبًا بأحزاب المرتزقة من الجنجاويد والفاغنار وغيرهم. إن المشهد يكاد يكون نفسه، فإن كانت الحرب العسكرية هي الدبلوماسية الصلبة والعنيفة، فإن الدبلوماسية لا تعدو أن تكون حربًا ناعمة وسائلة، وإن كانت لا تقل عن الأولى ضراوة ولا تختلف عنها كثيرًا في روح التكتيكات. وإن ما يمكن استنتاجه بعد الحراك المكوكي الذي قاده رمطان العمامرة على رأس الدبلوماسية الجزائرية، وقد أجرى خلاله 49 مقابلة منذ يوم 25 تموز/ يوليو، منها 24 مباشرة، والبقية عبر المهاتفة، هو أن الجزائر ومعها تركيا وقطر قد نجحوا بأشواط في تفكيك قوى الحصار الخارجي المضروب على تونس، بتشتيت تركيزها وجهودها، وإجبارها قصرًا على إعادة الانتشار بعد تعداد ساحات المواجهة الدبلوماسية، وتوسيع جبهة الاشتباك السياسي على طول الشرق الأوسط الكبير، من أفغانستان شرقًا وصولًا إلى المغرب الأقصى غربًا، ومرورًا بكل من ليبيا ومسألة سدّ النهضة. وقد كان صدور بيان برقي من الجامعة العربية على عكس ما عودتنا به من إيقاع بطيء، والدعوة السعودية السريعة ومن ثمة بوادر الوساطة الفرنسية التي لاحت في البيان الصادر عن خارجيتها، تعكس جميعها حجم وقع إعلان الجزائر القطيعة مع المغرب، على كل من القاهرة والرياض وباريس، التي تتقاطع سياساتها بشكل كبير جدًا في شمال أفريقيا، وخاصة في القضايا المرتبطة بالربيع العربي فيه (14).
- – خامسًا: إن الدبلوماسية الجزائرية لا ريب في أنها مؤهلة للعب أدوار ريادية في المنطقة، وهي مدججة بالإنجازات التاريخية في حسن إدارة الأزمات: اتفاقية الجزائر 1975 التي انتهى بمقتضاها النزاع الحدودي بين العراق وإيران، وكذلك تحرير ركاب طائرة “دي. سي9 ” التي خطفها الإرهابي اليساري كارلوس في السنة نفسها، أو الوساطة في تحرير رهائن السفارة الأمريكية في طهران 1981، واستبعاد جنوب أفريقيا العنصرية من الأمم المتحدة، وإدخال فلسطين إليها، ثم اتفاقية السلام بالجزائر سنة 2000 لتسوية الحرب بين إثيوبيا وأريتريا (15).
إن الدبلوماسية الجزائرية التقليدية دائمًا كانت رهينة المقاربة الأمنية الجافة المحصورة بالأساس في البعدين الاستخباراتي والشرطي، مهملة البعد الاقتصادي، بما يمثل نقطة ضعف وخلل (16). وإن دبلوماسية “الجزائر الجديدة”، وهي تجدد عقيدتها وتعيد صياغة رؤاها، أمام فرصة تاريخية لتجاوز هذا النقص، ولعلّ بعضًا من بشائر ذلك أو بوادر التدارك الكامنة قد طفت فعلًا على سطحي الخطاب والممارسة على حدّ سواء، فقد ورد على لسان العمامرة، في معرض تعليقه على خطط بلاده في مالي منذ يومين، أنهم “حريصون على تعزيز النسيج الأمني والسياسي والاقتصادي داخل مجموعة الساحل والصحراء” (13). وإن الجهود التي سبقه بها سلفه، السنة الفارطة في أفريقيا، ركّزت كذلك على هذا المعنى، حيث كانت المشاريع الاستثمارية العملاقة محورًا رئيسيًا في الحملة الدبلوماسية التي قادها السيد صبري بوقادوم في غرب القارة السمراء، إذ أعاد على طاولة المباحثات بشكل بارز أنبوب الغاز مع نيجيريا المتنافس عليه مع المغرب، وكذلك مشروع الطريق العابر للصحراء الذي أُنجز على طول 9400 كلم في 1960، ليمتد بشكل رئيسي من الجزائر العاصمة إلى لاغوس العاصمة الاقتصادية لنيجيريا، ويتضمن تفرعات تصله بكل من تونس والتشاد والنيجر ومالي (11). وإن كانت هذه المشاريع المذكورة قادمة من الأدراج المهملة والتوجهات المتعثرة تاريخيًا، فهي لطابعها الإستراتيجي تبقى عابرة لحجب الأزمنة، ثم إن الأهم من ذلك هو حملها إرهاصات أن صانع القرار الجديد في الجزائر قد شرع فعلًا في تطوير فهمه لماهية القرارات والالتزامات والقواعد والأفعال الأنسب لدولتهم في الدوائر الجغرافية المحيطة بها، في اتجاه استيعاب مقاربة أمنية تنموية، إذ إن من الصعب إلى حدود الاستحالة التمييز بين الأمن والتنمية في الإقليم المغاربي – الساحلي، حيث إن أهمّ القضايا الأمنية فيه، وخاصة تلك المتعلقة بالإرهاب والهجرة غير النظامية أو الجريمة المنظمة، تملك جذورًا اقتصادية اجتماعية. كما أن الأوضاع الأمنية الصعبة في الجهة المقابلة دائمًا ما تمهّد الطريق لأزمات اقتصادية وصعوبات تنموية (17).
وبذلك، فإن دور الجزائر الإقليمي، كصانع استقرار في المنطقة، يقتضي منها الانطلاق في هذا الاتجاه، وهي في الحقيقة تملك كل المقومات الصلبة لذلك (الموقع الجغرافي، العنصر الديموغرافي، الموارد الطبيعية)، وكذلك العديد من الورقات الرابحة، باعتبار وزنها في هياكل الإتحاد الأفريقي كعضو مؤسس، وتعاونها مع الصين في مبادرة الطريق والحزام، ولكن النجاح الفعلي في هذا التوجه يستند بالأساس إلى تطوير المنظومة الاقتصادية الداخلية، فالقاعدة أن ليس للدول سياسات خارجية بالأساس، إنما سياسات داخلية لها مصالحها في الخارج. وبهذا فإن أهم محددات نجاح “الجزائر الجديدة” في صناعة الاستقرار في المنطقة متعلق بمدى فاعليتها في تطوير استقرارها الداخلي، والخروج به من حالة الشكلانية المضبوطة إلى البنيوية المتجذرة القادرة على تفكيك كل التعقيدات (العرقية، الطائفية، الاقتصادية، الاجتماعية، الصحية).
ومن ناحية أخرى، فإن الفرصة اليوم سانحة بين المغرب والجزائر إثر هذه القطيعة إلى تنشيط محرك المباحثات الاقتصادية بينهما، وبخاصة أن ملف أنبوب “ميدغاز” يفرض تجديد الشروط التعاقدية بينهما حول الغاز، بما يتماشى مع سياق إعادة بناء العلاقات. أضف إليه أن “التوافق الكبير” في المنطقة عمومًا، بما هو إعادة تشكيل للصفقات الكبرى بين فاعليها، يحتاج إلى مشروع ثقافي مرافق، يفترش له المسوغات ويؤصل له نظريًا، بلا ريب، ولكنه يقتضي لزامًا عدم تغيب مبدأ رابح – رابح، الذي يجد أوضح تجلياته في الحقل التنموي، ومن دون طرح الحوكمة الإقليمية على طاولة المفاوضات، كمثبت لما قد تنتجه من تسويات، سيواصل زلزال الربيع في هز جذور المنطقة مرة تلو المرة.
المراجع
- عبد النور تومي: “العلاقات الجزائرية – المغربية: بين واقعية التطبيع الشامل وجدلية التوتر الدائم”، عربي بوست.
- وكالة الأنباء الجزائرية: “الجيش الصحراوي يواصل قصف مواقع قوات الاحتلال المغربي”، أكثر من مرة بتواريخ متفرقة، من 25/07/ 2021 إلى 24/08/2021.
- عربي بوست: “أبرز محطات الخلاف بين الجزائر والمغرب، ولماذا تصاعدت الأزمة إلى حد قطع العلاقات؟”
- أبو يعرب (محمد الحبيب) المرزوقي: “الجزائر- بداية الربيع واستئنافه الحاسم “، موقع أبو يعرب المرزوقي.
- صحيفة الاستقلال: “المغرب العربي ومحور الثورة المضادة.. بين مقاومة الشعوب وتوازنات الأنظمة”
- علاء فاروق: “هل تسعى الإمارات للتواجد في شمال أفريقيا لدعم حفتر”، عربي21.
- عثمان الحياني: “عودة وزير الدفاع الجزائري الأسبق: تسويات عسكرية”، العربي الجديد.
- د.صبرينة جعفر: “التهديدات الأمنية الجديدة بالمتوسط والبعد الإستراتيجي للجزائر”، المعهد المصري للدراسات.
- توازن، مؤشر العلاقات العسكرية المدنية العربية: “التعديل الدستوري في الجزائر والرقابة على القوات المسلحة.
- وكالة الأناضول: “هندس 40 عملية سلام.. سر إعادة لعمامرة لقيادة دبلوماسية الجزائر”
- رابعة خريص: “بين الجارتين المغرب والجزائر…التنافس يتأجج على القارة الأفريقية”، TRTعربي.
- داود أوغلو: “أربعة زلازل كبرى هزّت النظام العالمي وتركيا في قلبها”، ترك برس.
- الشروق للأخبار، قناة اليوتيوب: “مؤتمر صحفي.. الجزائر تُعلن قطع علاقاتها الدبلوماسية مع المغرب رسميًا”، بتاريخ 24 أغسطس/آب 2021.
- عربي 21: “بوادر وساطة فرنسية بين المغرب والجزائر.. ماذا عن العرب؟”
- الجزيرة نت: “بوتفليقة من دبلوماسي لامع إلى تمثال وعبء ثقيل”
- أ. د. قوي بوحنية: “الجزائر والانتقال إلى دور اللاعب الفاعل في أفريقيا: بين الدبلوماسية الأمنية والانكفاء الأمني الداخلي”، مركز الجزيرة للدراسات.
- NATO STRATEGIC DIRECTION SOUTH: “حوار عبر الانترنت حول الصلة بين التنمية والأمن في أفريقيا”